السفير والنائب الراحل علي حسن بزي

مجلة شؤون جنوبية
العدد الثالث (آذار / مارس 2002)


حين يفكر الواحد في شخصية كعلي بزي، يفكر في النقلة النوعية التي صارت من طور الى طور ومن عصر الى عصر. وجه المنطقة السياسي تغيّر كلياً .

فالجيل العامل بالسياسة اليوم هو الجيل القادم من طريق المشاركة بالحرب الأهلية اللبنانية او مما انتجته ظروف المواجهة مع المحتل الإسرائيلي. جيل يختلف كلياً عن تلك الكوكبة السابقة التي رفدتها العشرونيات الراسمة لوجه المنطقة الى الآن وكرّستها الثلاثونيات ببراكينها المشتعلة ليلمع نجمها في عقود تلت وهي تنتزع الإستقلال وتصونه وتغذي المد القومي المتصاعد وعينها ابداً على فلسطين .

احد اركان ذلك الجيل – الكوكبة تلك ” الشخصية التي لا تتكرر” كما يقول الأديب سلام الراسي، النائب والوزير والسفير الراحل علي بزي.

يحتاج كل موقف وكل انتفاضة وكل ثورة تشارك فيها بفعالية مثمرة الى العديد من البحوث والدراسات.

او يستطيع الواحد منّا الإلمام بذاك الذكاء اللمّح وتلك الفطنة اللافتة والذاكرة الوقّادة والنباهة اللامعة والنكتة الحاضرة في هذه العجالة؟ وانما هو شرف المحاولة وفاء ً لتلك الشخصية الوطنية التاريخية.

لك ان تختلف معه ولك ان تتفق وانت تستنطق التاريخ. فالرجل سياسي فاعل في قضايا الوطن المصيرية ومنعطفاته التاريخية، بحيث يحتّم عليك الخوض في احداث عصر كامل.

النشأة الملتهبة
ولد علي بزي العام 1912 في بنت جبيل . والده الحاج حسن بزي الوجيه والملاك الكبير بمقياس ذلك الزمان. نما وترعرع فيها، في فترة وقوع الحرب العالمية الأولى ورحيل الأتراك ومجيء الفرنسيين وسايكس بيكو التي سترسم وجه المنطقة من جديد.

قاومت المنطقة، وعلى رأسها بنت جبيل، القادم الجديد بما حمل وكانت فتنة عين ابل سنة 1920 وحملت بنت جبيل اوزارها، هجّر اهلها واحرقت بيوتها وعمّها الخراب.

في هذا الوضع الملتهب، تلقى علي بزي علومه الأولى في مدرسة البلدة لينتقل منها الى النبطية بلد العلاّمتين الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، فدمشق التي لم يمكث فيها طويلاً، محصّلاً من العلم بالقدر الذي كان متيسّراً في حينها ليعود الى بنت جبيل المعلمة الأولى والأساسية ناهلاً من معينها النضالي والأدبي الواسع الآفاق، وخصوصاً في بيت الشيخ علي شرارة ومجلسه الدائم الإنعقاد متناولاً احاديث الشعر والفكر والسياسة البيت الجامعة، كما يقول احد خريجيه، الذي شبّ علي بزي فيه الدائم الإتصال مع النجف الأشرف.

بداية الصعود
في جو بنت جبيل الوطني الحار في الثلاثينات بزغ فجر علي بزي، وجام الغضب على الإنتداب الفرنسي – الإنكليزي في لبنان وسوريا وفلسطين وعلى الأوضاع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية في الجنوب، يتفاعل فيها وفي منبرها الذي كان ملتقى لكبار الشعراء والأدباء والمفكرين المتضمن نثرهم وشعرهم مختلف احداث عصرهم من امثال موسى الزين شرارة وعبد الحسين العبد الله ومحمد علي الحوماني وعبد المطلب الأمين والشيخ محسن شرارة وغيرهم .

لمع علي بزي ذو الذكاء الحاد والفطنة اللافتة خطيباً مؤثراً ومناضلاً في شتى الميادين، واستطاع بنباهته والمعيته ان ينسج صداقات مع النبطية بعلاميتها الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، ومع صيدا وآل الصلح رياض وكاظم وتقي الدين، ومع عادل عسيران، بالإضافة الى سائر الشخصيات الوطنية الكبيرة كآل كرامي وحميد فرنجية ..الخ .

برز علي بزي في انتفاضة الـ 26 في بنت جبيل ضد شركة الريجي الفرنسية. كان اول المعتقلين من قبل سلطات الإنتداب مع موسى الزين شرارة وعبد اللطيف بيضون وآخرين. هبّت البلدة والقرى المجاورة لتحرير سجنائها فتصدت لهم القوات الفرنسية بالرصاص وسقط ثلاثة شهداء من بنت جبيل وعيناتا وحرر الأبطال.

يقول الأستاذ احسان شرارة :” لا ازال اذكر وانا طفل صغير عندما عاد الشاب المناضل الأسمر من المعتقل محمولاً على اكتاف الشباب الهازجين :
حي العروبة في علي فهو رمز للجهاد
غشيته الوان الخطوب فظل حصناً من سداد
حمل المبادي الساميات ونوّرت منه البلاد
تتهدم الآمال وهو يشيدها ثبت الفؤاد

كنا صغاراً وكباراً نحدق باعجاب، ونحاول ان نكحل عيوننا بهذا القائد العنيد” .

تمر الأيام وتتالى الأحداث ويكبر رصيد علي بزي الوطني، يشارك في مؤتمر الساحل الثاني المنعقد في صيدا بالرغم من صغر سنه (24 عاماً) كما يذكر د. احمد عبد اللطيف بيضون، المؤتمر الذي دعا في توصيته النهائية الى الوحدة مع سوريا بدعم من الشيخ احمد عارف الزين. يمضي علي بزي في هذا الخط، بينما يخرج كاظم الصلح ليكتب مقالته الشهيرة ” الإتصال والإنفصال ” مبدياً فيه موقفاً غير بعيد من تقبل الفكرة اللبنانية على ان يكون هناك نظر آخر في درجة الوحدة او التنسيق مع سوريا بعد خيبة الأمل التي احدثها موقف الوفد الإسرائيلي الى باريس لإجراء معاهدة الـ 36.

لم ينقطع علي بزي عن احداث فلسطين – وهو الوحدوي حينها – وبخاصة انتفاضة القسام سنة 36 والتي استمرت سنتين، فكان بيته مخزن سلاح ورجالاتها وملتقى وملاذاً لهم. وقد دهمت السلطات البريطانية بيته في بنت جبيل مرات عدة، لتلقي القبض عليه، وكان لها ذلك سنة 1941 فسجنته بالمية ومية لعام ونصف، ليخرج منه بعد معركة الإستقلال والإنتخابات التي سبقتها، كما يقول الدكتور بيضون.

الى الندوة البرلمانية
خرج علي بزي من المية ومية بعد معركة الإستقلال، ولطالما كان نزيل سجون الإنتداب، مناضلاً في سبيله، ليشارك في معركة صونه وبناء دولته . فكان من ضمن المجموعة الرئيسية التي اسست حزب النداء القومي العام 1944 الى جانب زهير عسيران وكاظم الصلح وهو حينها من الشخصيات الميثاقية التي التفت حول رياض الصلح.

تكريساً لزعامته ولموقعه الوطني الكبير ترشح علي بزي الى الإنتخابات على لائحة عادل عسيران التي خسرت كلها باستثناء عادل عسيران بمواجهة لائحة احمد الأسعد. فتأجل فوز المقعد النيابي به الى سنة 1951 على لائحة احمد الأسعد. الا ان التحالف الإنتخابي المحض بينهما سرعان ما انفرط اثر انتخابات صيدا الفرعية بعد وفاة رياض الصلح، كما يقول الدكتور بيضون . دعم علي بزي كاظم الصلح بمواجهة مرشح احمد الأسعد صلاح البزري الذي فاز بالمقعد النيابي.

في تلك المرحلة اشتدت المعارضة على الشيخ بشارة الخوري وكان كل شيء في الجنوب زفت ما عدا الطرقات في عهده ، كما قال له علي بزي اثناء زيارة الشيخ الرئيس للجنوب.

استقال الشيخ الرئيس وانتهى الإضراب العام في الجنوب، وبخاصة بنت جبيل، الذي كان لعلي بزي دور هام في تفعيله، مدعوماً من كمال جنبلاط زعيم الجبهة الإشتراكية. صبيحة استقالة الشيخ الرئيس كتبت جريدة الأنباء التي يرأس تحريرها كمال جنبلاط ” مانشيت ” على صدر الصفحة الأولى بالأحمر القاني :” كاد هذا الإنقلاب ان يمر ابيض لو لم تعمده بنت جبيل بالدم ” واعجاباً به دعاه كمال جنبلاط للإنتساب الى الحزب التقدمي الإشتراكي فوافق شريطة ان ينتسب كمال جنبلاط معه الى الحزب التقدمي الإشتراكي؟

اتت الإنتخابات الرئاسية سنة 1952 – التي دعم فيها علي بزي صديقه حميد فرنجية – بكميل شمعون الى سدة الرئاسة. وفي انتخابات الـ 53 النيابية خسر مقعده، على الرغم من اجماع بنت جبيل عليه اثر المصالحة التي تمت بينه وبين عبد اللطيف بيضون الذي تناوب معه على المقعد النيابي طوال حياته السياسية، كما يقول الدكتور احمد بيضون، ليعود صوته ملعلعاً وهو يطالب بحقوق الشعب الى صرح البرلمان في انتخابات الـ 57. في العام التالي كان علي بزي من اركان رجال الثورة التي اطاحت كميل شمعون واتت بالجنرال فؤاد شهاب قائد الجيش الى الرئاسة .

الوزير والسفير
جمعت علي بزي بفؤاد شهاب صداقة وطيدة وتمارس فكري يعودان الى الأربعينات فكان احد اركان الشهابية طوال فترة حكمها.

في الـعام 1959 عينه فؤاد شهاب وزيراً للداخلية. يقول رفيق دربه ونضاله صديقه النقيب زهير عسيران ” كان في باريس التي كرمه فيها السفير الشمعوني موسى مبارك ( سفير لبنان في فرنسا حينها) في حفلة التكريم طلب رئيس دائرة شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية خلوة بعلي بزي، قال له علي بزي بضرورة خروجهم من الجزائر لأنهم ان بقوا حققوا فرنسا الكبرى بينما إذا خرجوا كسبوا ود العرب وصداقتهم التي تفوق اهمية فرنسا الكبرى، تبنى لاحقاً ديغول هذا الموقف وكاد يدفع حياته ثمنه .

خرج المسؤول الفرنسي من الخلوة قائلاً ” هذا فيلسوف” ولما استوضحه السفير اللبناني قال : قلت له كلاماً لم يفهمه فظنني فيلسوفاً ” وصل علي بزي الى المطار ليرى الوفود تنتظره وهو وزير للداخلية دون ان يدري وذلك سنة 1959 ، فقامت الأعياد والإحتفالات في بنت جبيل ولم تقعد .

تقول ابنته ندى عن فترة تسلمه مهامه في الداخلية: كان يتنقل ليلاً في سيارة اجرة متفقداً حراس البلدية في جميع انحاء العاصمة وفي الصباح يفاجىء الذين لم يتركوا مراكزهم بالمكافأة بالإضافة الى مفاجأة الحراس الذين تركوا مراكزهم بالعقاب ”

ترشح علي بزي وزير الداخلية، الذي استدان من احد اصدقائه الذين دعاهم الى العشاء في احد المطاعم ليسدد الحساب، ترشح الى الإنتخابات النيابية سنة 1960 عن مرجعيون ضمن تحالف السلطة، وفاز دون ان يسلم من انتقادات محبيه واصدقائه، في الـ 61 عين وزيراً للصحة وبقي في منصبه حتى الـ 64، التي خسر فيها المعركة عن بنت جبيل في وجه احمد الأسعد، فكرمه الرئيس شارل حلو بتعيينه سفيراً من خارج الملاك للبنان في الكويت فالأردن. في انتخابات الـ 68 دعم د.ابراهيم شعيتو وسعيد فواز بمواجهة غسان موسى الزين شرارة البعثي وحسن مروة الشيوعي وعبد اللطيف بيضون وعباس خليل وفاز مرشحاه.

فرقت هذه الإنتخابات بينه وبين العديد من الذين التقوا معه ووحدتهم المعارك والمثل والقناعات .

استمر سفيراً حتى العام 1970 ليستقيل مع مجيء الرئيس فرنجية المدعوم من مناوئي النهج.

تفرغّ حينها الرجل للعمل السياسي الهادىء بعيداً من الضوضاء بالتنسيق احياناً مع خط الإمام الصدر عبر جبهة المحافظة على الجنوب، قريباً من رفاق النهج وان خالفهم احياناً الرأي. ثم انهالت خطوب الدهر عليه. اضناه واوجعه فقده ابنه البكر هاني في حادث سير مؤلم تحمل تداعياته حتى يومه الأخير، ابكاه إجتياح الإسرائيليين لبيروت ” ما زلت اذكره يبكي امامي ” تقول ابنته هيام.

صبيحة احد ايام صيف العام 1985 لملم معالي الوزير والنائب والسفير علي بزي – صديق اهل القلم وسميرهم من احمد الصافي النجفي الى جورج شحادة مروراً بالكثيرين الكثيرين من موسى الزين شرارة وعبد الحسين العبد الله احبهم الى قلبه ونجيب الريس الذي لم يزره في اوتيل امية في دمشق لعدم تصديقه “ان عليا نزيل بأمية” كما قال له علي بزي مبرراً ومازحاً – لملم اشياءه ورحل بعيداً من بلدته التي عشق ومن داره فيها التي تجري الآن اعمال ترميمها بغياب رب الدار فـ” الخسارة الوطنية كبيرة ” كما يقول الشاعر جورج جرداق صديقه – في بنت جبيل التي لا تزال غارقة في الفراغ الذي احدثه رحيله.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …