من مدينة عامرة.. إلى قرية ساكنة – فمن المسؤول!؟


من تقرير تم إعداده ونشره عام ٢٠١٥ – واقع لم يتغير


إعداد: زهير دبس – نسرين جابر
حين تغادر الأسماء أماكنها، تذيّل بحبر الذاكرة ظلال الأيّام، ترسم من رذاذ الغيم ملامح السنين..
حين تغادر القرى هضابها وسهولها، تغزل من أصيل شمسها حكايا مطرّزة بالعشق تنثرها فوق تقاطعات الشوق والحنين..
حين تغادر الأماكن أسماءها، تحيك من تراب الأرض مدناً جديدة وتنسج من قامات العابرين هامات جديدة..
حين تغادر المدن أمكنتها، تبقى مسكونة بعبق التاريخ، يفوح من بين حجارتها ويتسرّب من تلالها، يفوح نسيماً عطراً لا يبرح المكان..
بنت جبيل المدينة التي هاجرت ولم تهاجر، التي غابت ثمّ بُعثت من جديد.. بنت جبيل التي رابضت على تخوم الحكايات قصيدة، عادت وصنعت من هضابها ووديانها ملاحم بطولة وشهادة فخرٍ وانتماء.
الدّاخل إلى بنت جبيل ليس كالخارج منها، فالداخل إليها يدخل بوابةً للتاريخ مشرّعة على جغرافيا العالم.. الداخل إلى بنت جبيل يتلمّس مدينة كانت عامرة فيما مضى لكنها الآن قرية ساكنة، مدينة ضربت جذورها عميقاً في التاريخَين البعيد والقريب، وكانت حاضرة في السياسة والاقتصاد وفي الثقافة والأدب…
بنت جبيل عاصمة المقاومة والتحرير وبوّابة فلسطين، هي أيضاً عاصمة الهجرة اللبنانيّة إلى الخارج، عرفتها منذ أكثر من مئة عام وتسعون في المئة من سكّانها مهاجرون.
بنت جبيل عاصمة الأعلام الكبار، أهل الثقافة والأدب والشعر والسياسة، يفيض بهم تاريخها وحاضرها..
بنت جبيل لا تتّسع هذه الصفحات لكتابة ما فاض به التاريخ، لكنّنا حسناً نحاول..
«المغترب» زارت بنت جبيل وعادت بهذا التحقيق:
التسمية والموقع
تفسيرات عديدة هي بمجملها اجتهادات خاصّة وليست ثابتة لتسمية اسم مدينة بنت جبيل. فهناك مَن يقول إنّها سُمّيت بنت جبيل نسبة إلى أميرة تركت مدينتها جبيل ووصلت إلى هذه المنطقة حيث تزوّجت فيها وبنت هذه البلدة وسُمّيت بـ «بنت جبيل». وهناك مَن يقول إنّ التسمية لها علاقة بطبيعة الأرض الجغرافيّة، كون بنت جبيل هي عبارة عن جبل صغير تحيط به جبال أكثر ارتفاعاً. لكنّ أنيس فريحة يقول إنّ اسم بنت جبيل يعني «بيت الخزف»، ويعتقد طوني مفرّج في موسوعة «مدن وقرى لبنان» أنّ أصل تسميتها «من مقطعَين فينيقيَين BNAYTA GABAL ومعناها: نصب أو عمود الحدّ والتخم».
على مساحة 9 كلم مربّع تمتدّ مدينة بنت جبيل التي تقع في منطقة «الشريط الحدودي» في جنوب لبنان المحاذي لفلسطين المحتلّة، ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر ما بين 800 إلى 850 م، وتبعد عن بيروت حوالى 120 كلم. تحدّها من الشرق عيترون، ومن الشمال كونين، ومن الجنوب يارون، عيناتا من الجهة الشماليّة الشرقيّة، الطيري من الجهة الشماليّة الغربيّة، عين ابل من الجهة الجنوبيّة الغربيّة ومارون الراس من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة.
تُعتبر بنت جبيل مركز القضاء الذي يحمل اسمها والذي يضمّ 36 بلدة وقرية، ويمثّله 3 نوّاب في البرلمان، وفيها مبنى «اتّحاد بلديّات قضاء بنت جبيل» ويضمّ سرايا تمّ بناؤها بعد التحرير وبدأت العمل منذ حوالى 4 سنوات، إضافة إلى الدوائر الرسميّة كافّة ومحكمتَين: المحكمة الجعفريّة والمحكمة المدنيّة، الأمن العام، الماليّة، دائرة النفوس، فصيلة الدرك اتّحاد البلديّات وغيرها…
أمّا أبرز عائلات بنت جبيل فهي: بزّي، بيضون، سعد، شرارة، جمعة، فرج، عبد الله، حوراني، الزين، بوصي، الصغير، طرفة، مكّي وغيرها…
تشتهر بنت جبيل بتاريخها الحافل بالحروب والمحطّات المصيريّة التي نقلتها وحوّلتها من مدينة مزدهرة إلى قرية تخلو من سكّانها!! وفق ما أشار أحد أبناء بنت جبيل لـ «المغترب». ويشهد عليها تلك الآثار الرومانيّة والبيزنطيّة التي تنتشر في أماكن عديدة منها، والتي يؤرّخ كلّ أثر منها لحقبة أو محطّة مرّت بها البلدة.
للاغتراب حكاية في بنت جبيل، كذلك للاقتصاد والتجارة والدين والثقافة والسياسة والأدب… حكاية بنت جبيل رواها أبناؤها الذين زارتهم «المغترب» هناك وجالت في أرجاء المدينة أو البلدة الكبيرة، وعادت بالتحقيق التالي:
رئيس بلديّة بنت جبيل
المهندس عفيف بزي
تُعتبر بنت جبيل من أولى البلدات الجنوبيّة التي تأسّست فيها بلديّة وذلك بموجب مرسوم صدر في نهاية الحكم التركي بين عامَي 1914 و1918، وكان الحاج محمّد سعيد بزّي هو أوّل رئيس بلديّة لبنت جبيل.
وفي هذا السياق، تحدّث رئيس بلديّة بنت جبيل المهندس عفيف بزّي لـ «المغترب» عارضاً لأهمّ المحطّات التي شهدتها المدينة، فقال: «بلديّة بنت جبيل كانت بلديّة نشيطة حتّى منتصف السبعينيّات حين انحلّ المجلس البلدي بسبب الخلافات العائليّة التي عادة ما تطاول القرى كافّة، فتسلّم حينها القائمقام زمام الأمور حتّى موعد التحرير عام 2000 حين عاد أبناء المدينة إليها، وأُجريت فيها أوّل انتخابات بلديّة بعد التحرير في العام 2001، وتمّ انتخاب مجلس بلدي برئاسة فيّاض شرارة، وكنت عضواً فيه وشغلت منصب رئيس لجنة الأشغال في ذلك الحين».
وتابع بزّي قائلاً: «في العام 2004 كان لي مجدّداً شرف الفوز بعضويّة المجلس البلدي، لكن وعلى اثر وفاة رئيس المجلس د. علي بزّي في العام 2006، تمّ انتخابي رئيساً للمجلس البلدي لإكمال الولاية لفترة امتدّت حوالى 3 سنوات، ثمّ أُعيد انتخابي في العام 2010 ولا أزال حتّى اليوم».
يبلغ عدد أعضاء المجلس البلدي في بنت جبيل 21 عضواً، وتُعتبر واحدة من كبريات المدن التي تضمّ عدداً كبيراً من الأعضاء في مجالسها البلديّة بعد بلديّتَي بيروت وطرابلس (24 عضواً لكل منهما).

النهوض والإعمار
سألناه: «بنت جبيل مدينة مقاومة شهدت ملاحم بطوليّة بين رجال المقاومة وقوّات الاحتلال الاسرائيلي، ولحقها دمار شامل في عدوان تمّوز من العام 2006.. هل استطاعت المدينة محو آثار هذا العدوان»؟ أجاب: «بجهود أبناء المدينة والدول والأطراف السياسيّة كافّة، استطاعت بنت جبيل محو آثار هذا العدوان. حقّقنا إنجازاً كبيراً في عمليّة إعمار المدينة، وهذا الفضل يعود بالتأكيد إلى كلّ الذين قدّموا المساعدة من نوّاب ووزراء وجمعيّات خيريّة وبلديّة ومتبرّعين. كما ساهمت دولة قطر بشكل كبير في إحياء سوق بنت جبيل وكان لها دور كبير في دفع التعويضات لأبنائها، وقامت أيضاً بإعادة بناء منازل السكّان. كذلك تكفّلت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بإعادة بناء وتحسين الطرقات والبنى التحتيّة». لافتاً إلى أنّ كلفة إعادة إعمار بنت جبيل بعد عدوان 2006، بلغت حوالى 100 مليون دولار».
«ما أبرز المشاريع التي تحتاج إليها بنت جبيل ولم يتمّ تنفيذها حتّى الآن»؟ أجاب: «المشاريع التنمويّة بغالبيّتها باتت منجزة في المدينة ومن بينها الملعب وبعضها قيد الإنجاز. إلا أنّ بنت جبيل تعاني كسائر القرى من مشكلة أساسيّة هي الصرف الصحّي، وكنّا قد بدأنا بتنفيذ مشروع في هذا الخصوص لكنّه متوقّف حالياً بسبب غياب معمل تكرير والذي يجب على الدولة أن تتبنّى إدارته وتشغيله لأنّ موازنة البلديّات لا يمكنها أن تغطّي كلفته العالية. نحن في انتظار دولتنا الكريمة كي تؤمّن تمويل مشاريع كهذه».
وتحدّث بزّي أيضاً عن وجود أزمة مياه تعاني منها بنت جبيل وتعمل البلديّة على معالجتها، ففي المدينة لا وجود لآبار جوفيّة أو ينابيع، وتتزوّد المدينة بالمياه من آبار «وادي جيلو». لافتاً إلى أنّ العمل جارٍ لحفر ثلاثة آبار في منطقة «وادي السلوقي» سينتهي العمل فيها مع نهاية هذا الصيف عندها ستكون مشكلة المياه قد حُلّت.
شبكة الطرق في بنت جبيل ممتازة وكذلك شبكة الهاتف، وهي بلدة «مشعّة» وفق بزّي إذ إنّ أعمدة الإنارة فيها تضمّ حوالى 2500 لمبة، كما أنّها من أولى المدن التي وفّرت خدمات الاشتراكات في مولّدات الكهرباء.
على الصعيد الطبّي، أكّد بزّي أنّ الجانب الطبّي في المدينة جيّد، ولا سيّما أنّه يوجد في بنت جبيل مستشفيان هما: مستشفى الشهيد صلاح غندور الذي قامت الهيئة الصحيّة بتشغليه بعد التحرير والمستشفى الحكومي الذي بناه الأخوان د. اسماعيل والحاج موسى عبّاس اللذان كانا مغتربَين في أفريقيا وتوفيا في العام 2003، وقاما بتسليمه إلى مجلس الجنوب الذي استكمل العمل فيه ورمّمه، وقد تمّ تجهيزه بأحدث المعدّات الطبيّة بواسطة هبة قدّمتها دولة قطر، ويتّسع لحوالى 120 سريراً، ويُعتبر من أهمّ المستشفيات في الجنوب. إضافة للمستشفيَين يوجد في المدينة بعض المستوصفات.
على صعيد التعليم، تضمّ بنت جبيل حوالى 6 مدارس رسميّة ومدرستَين خاصتَين، وفق ما أشار بزّي الذي أكّد أنّ مستوى التعليم فيها ممتاز ولديها نخبة من الأساتذة والمديرين الناجحين.

اتّحاد بلديّات قضاء بنت جبيل
إلى جانب كونه رئيساً للبلديّة، يشغل بزّي اليوم منصب نائب رئيس اتّحاد بلديّات قضاء بنت جبيل بعد أن كان رئيساً له في فترة سابقة من العام 2004 حتّى العام 2010. أمّا رئيس الاتّحاد حاليّاً فهو المهندس عطا الله شعيتو الذي كان رئيس بلديّة الطيري سابقاً. وأشار بزّي إلى أنّ اتّحاد بلديّات قضاء بنت جبيل يُعتبر من أوائل الاتّحادات التي تأسّست في تلك المنطقة بعد التحرير، حيث بدأ في العام 2004 بـ 7 بلديّات وأصبح يضمّ اليوم 15 بلديّة.
عن نطاق عمل الاتّحاد والمشاريع التي يقوم بها، أكّد بزّي أنّ عمل الاتّحاد يشمل القيام بالمشاريع التي لا يمكن للبلديّة القيام بها، وهي تشمل المناطق التي تخضع جغرافيّاً للاتّحاد، وهي مشاريع الصرف الصحّي، معامل النفايات، مشاريع زراعيّة متنوّعة، مشيراً إلى أنّ الاتّحاد أنجز مركز إرشاد زراعي يُعتبر الأهمّ في المنطقة، حيث يساعد المزارعين على تحسين إنتاجيّتهم ويقدّم لهم التوجيه والإرشادات، ويتضمّن معصرة زيتون ضخمة وحديثة، إضافة إلى معمل لإنتاج المعالف ومكان مخصّص لتعليب العسل وفرزه وتوضيبه وتنظيفه، ومشتلاً زراعيّاً.

الاغتراب.. السمة الأبرز
معظم أبناء بنت جبيل هم مغتربون في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وخصوصاً في منطقة «ديترويت» وتحديداً في مدينة «ديربورن»، ويتراوح عددهم هناك بين 20 إلى 25 ألف نسمة وفق بزّي الذي تابع قائلاً: «عمليّاً تُعتبر بنت جبيل مدينة مغتربة في أميركا، عدد سكّانها يتراوح ما بين 45 إلى 50 ألف نسمة، 10 % منهم فقط مقيمون و90 % مغتربون. هذا وما زال الاغتراب مستمرّاً فيها ويكاد لا يخلو منزل في بنت جبيل من وجود مغتربين».
في فصل الصيف يزور المغتربون مدينتهم، ولا سيّما من أبناء الجيل الذي عرف المدينة ونشأ وترعرع فيها ولا يزال لديه حنين إليها، أمّا المغتربون من أبناء الجيل الجديد وخصوصاً الذين وُلدوا في الغربة، فقد زار بعضهم المدينة لكنّ الحرب سبّبت لهم صدمة فغادروها ولم يعودوا يفكّرون بالعودة إليها!!
وأكّد بزّي أنّ المغتربين لعبوا دوراً كبيراً في تنمية مدينتهم، ولا يمكن لأحد أن ينسى أو يتجاهل هذا الدور، وإن هم لم يقوموا بتنفيذ مشاريع بشكل مباشر، لكن ومن خلال تحويلاتهم الماليّة التي كانوا يرسلونها إلى ذويهم شكّلوا وما زالوا صمّام أمانٍ اجتماعي، وأنعشوا الحركة الاقتصاديّة. كذلك أحدث مغتربو بنت جبيل حركة عمران في مدينتهم، من خلال بناء منازل خاصّة بهم، ولا أعتقد أنّ هناك مغترباً لا يملك منزلاً في وطنه وبلدته. وعمليّاً فإنّ حركة الإعمار في بنت جبيل لا تزال مستمرّة، تحرّكها الأموال التي يضخّها أبناؤها المغتربون».
وتوقّف بزّي عند المغتربَين الشقيقَين د. اسماعيل والحاج موسى عبّاس، فقال: «معظم المؤسّسات الموجودة في بنت جبيل قدّمها هذان الشقيقان. فإلى جانب مساهمتهما في بناء المستشفى، عمدا إلى بناء ثانويّة بنت جبيل في العام 1964، وأسّسا المهنيّة عام 1965، وكذلك مدرسة جميل جابر، الملعب الرياضي، أيضاً قاما ببناء مبنى كبير في سوق بنت جبيل وهو يتبع لأوقاف المدينة ويضمّ شققاً ومحلات، إضافة إلى أنّهما كانا من أوائل المبادرين في إنشاء المدارس إلى جانب تقديمات ضخمة عديدة»…
وتوقّف بزّي أيضاً عند محاولة بدأها المغتربون في العام 2004 حين اتّخذوا قراراً ببناء قصر بلدي لبنت جبيل وبدأوا ورشة البناء في العام 2005، وتمّ توقيع بروتوكول تعاون مع نادي بنت جبيل في أميركا حيث تمّ جمع مبلغ 330 ألف دولار من أصل مليون ونصف المليون دولار هي قيمة المشروع وأرسل إلى لبنان للبدء بتنفيذ المشروع. تمّ بناء الطابق الأوّل من المبنى، وبوشر العمل لبناء الطابق الثاني لكنّ اندلاع حرب تمّوز عام 2006 وتعرّض المبنى للقصف. أوقف المشروع، وترافق مع بدء الأزمة الماليّة العالميّة التي أثّرت كثيراً على صناعة السيّارات في أميركا والتي يعمل فيها معظم أبناء المدينة المقيمين هناك، فتأثّرت عمليّة جمع التبرّعات، فقامت البلديّة بإكماله وبنت الطابق الثاني وهو عبارة عن مجموعة من المحال، على أن يُخصّص الطابق الثالث للقصر البلدي ما إن يتمّ تأمين التمويل اللازم، وخصوصاً أنّ هناك زيارة مرتقبة سيقوم بها رئيس ومؤسّس النادي الحاج محمّد طرفة للبحث في آلية تقديم المساعدة لاستكمال هذا المشروع.
القصر البلدي في بنت جبيل لم يتمّ بناؤه بعد، لكن للبلديّة مقرّاً كائناً في «سنتر شرارة» الذي هو عبارة عن مبنى مؤلّف من 5 طوابق، الطابق الثاني منه تملكه البلديّة كون العقار الذي بُني عليه هذا المبنى تعود ملكيّته للبلديّة.

المختار وحيد سعد
تاريخ العمل الاختياري في مدينة بنت جبيل قديم يعود إلى الحقبة التركيّة، حيث كانت الحكومة التركيّة هي التي تقوم بتعيين المخاتير.
بدأ إجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة في بنت جبيل منذ الثلاثينيّات، وكان العمل الاختياري فيها يعتمد على العائلات، حيث كان لكلّ عائلة مختار، وقُسّمت بنت جبيل إلى خمسة أحياء، لكلّ حيّ منها مختار.
من المخاتير القدامى: محمّد علي أسعد بيضون (أبو شفيق) الذي عاش أكثر من تسعين عاماً. وخلال حقبة الخمسينيّات والستينيّات كان أبرز المخاتير: يوسف علي بزّي- مختار آل بزي، ابراهيم اسماعيل سعد الذي كان مختاراً لآل سعد.
«حيّ الحسينيّة» واحد من أحياء بنت جبيل الخمسة يضمّ حوالى ستّة آلاف ناخب، أمّا مختاره فهو وحيد سعد الذي زارته «المغترب» ضمن جولتها في المدينة، فأشار إلى أنّ بنت جبيل يوجد فيها حاليّاً حوالى 13 مختاراً، لكلّ 1500 ناخب مختار، وتضمّ بعض الأحياء أربعة مخاتير، منها حي «البركة» وحي «عايدة الصغيرة».
وأشار سعد إلى أنّ عدد سكّان بنت جبيل المسجّلة أسماؤهم على لوائح الشطب وفق آخر إحصاء يبلغ 21 ألف ناخب، ينتخب منهم في أفضل الحالات بين الخمسة والستة آلاف شخص (أي حوالى 30 % فقط).
وأشار سعد إلى أنّ عدد سكّان بنت جبيل يتجاوز الخمسين ألفاً، لكنّها ليست مدينة مكتظّة بالسكّان نتيجة الظروف التي فُرضت عليها أبرزها الاحتلال، لذلك شهدت بنت جبيل وفق سعد نوعَين من الهجرة: هجرة داخليّة وأخرى خارجيّة.
سألناه: «كم يبلغ عدد المقيمين في بنت جبيل صيفاً وكم يبلغ عددهم شتاءً»؟ أجاب: «خلال الصيف وفي حال زار المدينة أبناؤها المقيمون في بيروت وبعض أبنائها في المهجر، عندها يصل إلى حوالى 3500 نسمة!! فمعظم منازل بنت جبيل فارغة»!! مشيراً إلى أنّه في «ديترويت» وحدها يقيم بين 35 إلى 40 ألفاً من أبناء بنت جبيل، فتبدو «ديترويت» وكأنّها بنت جبيل ثانية حيث تنتشر فيها اليافطات المكتوب عليها باللغة العربيّة، كما تنتشر فيها أفران المناقيش والصاج والمأكولات اللبنانيّة…
عن الذي يميّز بنت جبيل عن غيرها من المدن والقرى اللبنانيّة، قال سعد: «اشتُهرت بنت جبيل عبر التاريخ بصناعة الأحذية التي يعود عمرها إلى أكثر من 300 عام، فلا يوجد أحد من أبناء بنت جبيل إلا وعمل في هذا المجال». وأضاف: «بدأت صناعة الأحذية بالتقهقر لأسباب عديدة أبرزها الحروب والاحتلال، حيث نزح الكثير من أبناء المدينة باتّجاه بيروت ولم يكن في مقدور الكثير منهم العمل بهذه الصناعة هناك، إضافة إلى المنافسة التي شهدتها من قبل الأحذية الصينيّة.

أستاذ مادّة التاريخ في الجامعة اللبنانيّة
الدكتور مصطفى بزّي
تحفل بنت جبيل بتاريخ ضخم على الصعد كافّة السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأدبيّة والدينيّة… وقد تحدّث ابن المدينة، أستاذ مادّة التاريخ في الجامعة اللبنانيّة، د. مصطفى بزي لـ «المغترب» عن هذا التاريخ، فقال: «بنت جبيل هي من أمّهات جبل عامل». وأضاف: «أوّل ذكر وجدته لـ «بنت جبيل» يعود إلى العام 1500 تقريباً، عندما قام عبد الله باشا- والي نابلس- بحملة إلى هذه المنطقة ووصل إلى بنت جبيل، وهدم بيوت المنطقة واحتلّها، ويُقال إنّ القبور الموجودة في مقبرة بنت جبيل في ناحيتها الشماليّة هي قبور لأولئك الذين قُتلوا خلال تلك الحملة».
يعود تاريخ بنت جبيل إلى أكثر من ألف عام، وفق ما أشار د. بزّي، والدليل على ذلك هو الآثار الموجودة حتّى الآن أمام الجامع الكبير في وسط المدينة، إضافة إلى مجموعة من الصخور بالقرب من حديقة الشهداء عليها كتابات رومانيّة وهناك تفسير لإحداها: «هنا بيت الرب». كذلك يوجد أحجار وأعمدة رومانيّة، وأحجار قديمة كان يُطلق عليها اسم «المصلاّت» كانت تُستخدم للصلاة نظراً لطبيعتها الملساء…
أمّا الجامع الكبير فيُعتبر أحد أهمّ معالم المدينة، ويعود تاريخ آخر ترميم له إلى حوالى 300 عام (1134 هـ)، وقد رمّمه أحد أبناء بنت جبيل من آل بزّي ويوجد في داخله صخرة حجريّة تؤرّخ هذا الترميم. وأكّد د. بزّي أنّ هذا الجامع تمّ ترميمه أكثر من مرّة على أيادي الخيّرين من أبناء المدينة: الحاج سليمان بزي، د. اسماعيل عبّاس وغيرهما… مشيراً إلى أنّه يتميّز بقبّته التي تُعتبر من أكبر قباب جوامع لبنان، وقواعده قديمة غير موجودة في أي جامع آخر، كما أنّ مئذنته حجريّة وقديمة بُنيت عام 1948.
محطّات مهمّة في المدينة
وتحدّث د. بزّي عن أبرز المحطّات التي مرّت بها بنت جبيل، وأبرزها: الحقبة العثمانيّة التي بدأت في العام 1516 وانتهت عام 1918، خلال هذه الحقبة كان لبنت جبيل دور مهمّ في نهاية القرن التاسع عشر مع جمعيّة «الاتّحاد والترقّي» التي حاولت تتريك العرب وإلغاء اللغة العربيّة. ومع نهاية القرن التاسع عشر كان يوجد في بنت جبيل «المدرسة التركيّة العربيّة»، وكانت أوّل مدرسة في المنطقة، تعلّم فيها معظم أبناء بنت جبيل والقرى المجاورة، واستمرّت حتّى الانتداب الفرنسي.
أمّا مرحلة الانتداب الفرنسي فتُعتبر من أهمّ المراحل التي مرّت بها بنت جبيل، ولا سيّما أنّ تلك المنطقة الحدوديّة كانت تُعتبر آخر منطقة خارجة عن تنفيذ اتفاقيّة «سايكس بيكو». في تلك الفترة، نشأ صراع خفي بين الفرنسيين من جهة والانكليز الذين كانوا يحاولون السيطرة عليها لضمّها إلى فلسطين، بينما كان الفرنسيون يسعون لجعلها جزءاً لا يتجزّأ من دولة لبنان الكبير. وعملت فرنسا على تأجيج الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة بين أبناء تلك المنطقة ليكون لديها مبرّر واضح للدخول إليها، حيث شهد شهر أيّار من العام 1920 الذي شهد بعض الحوادث المذهبيّة الأليمة، وخاصّة بين أبناء بنت جبيل وأبناء عين ابل، والتي نتج عنها مقتل عدد كبير من أبناء المنطقة، وانقسمت الأطراف بين داعٍ للانتداب الفرنسي وبين داعٍ للإبقاء على الوحدة السوريّة.
إثر تلك الأحداث، وصل الجنرال نيجر الفرنسي مع أربعة آلاف جندي إلى عين ابل حيث قال لأبنائها: «لن أرضى مقابل شهداء عين ابل إلا تاج الملك فيصل»! ودخل إلى بنت جبيل التي أُحرقت ودُمّرت بشكل كامل ونُهبت مكتباتها التي كانت ذاخرة بالمخطوطات، فغادرها أبناؤها إلى فلسطين.
أمّا المحطّة الثانية فكانت الثورة التي اندلعت ضدّ شركات «الريجي» واستُشهد على إثرها ثلاثة أشخاص في ساحة بنت جبيل في 1 نيسان 1936، أحدهم من بنت جبيل هو مصطفى العشّي، وآخران من عيناتا.
المحطّة الثالثة تمثّلت بانطلاق ثورة «عز الدين القسّام» في فلسطين، والتي توجّه على إثرها معظم أبناء بنت جبيل إلى هناك.
وتابع د. بزي قائلاً: «ساهمت بنت جبيل مساهمة فعّالة في الوقوف في وجه الانتداب الفرنسي قولاً وفعلاً وشعراً وأدباً، وكان شاعر الثورة في تلك الفترة موسى زين شرارة المعروف عنه أنّه أكبر شعراء جبل عامل. ولفت د. بزي إلى أنّ عدد سكّان بنت جبيل كان يبلغ 2000 نسمة في العام 1900، وظلّت تزدهر تدريجيّاً حتّى العام 1970 حين تعرّضت لأوّل اعتداء اسرائيلي وأُطلق عليها أكثر من ستين قذيفة، فدُمّر عدد كبير من منازلها وبدأت عمليّة التهجير تطاول أبناءها. وفي العام 1976 بدأ التهجير الأكبر من بنت جبيل باتجاه البلدات والقرى المحيطة بها. وفي العام 1978 احتلّ العدوّ الاسرائيلي بنت جبيل ولم يبق فيها في تلك الفترة سوى 500 شخص، واستمرّ الاحتلال حتّى عام 2000.
وأشار د. بزي إلى أنّه في العام 1996 كان يقيم في بنت جبيل 3748 نسمة من أصل حوالى 45 ألف نسمة. وأضاف: «بين العامَين 2000 و2006 شهدت بنت جبيل عودة كبيرة لأبنائها، فالأوضاع هدأت والوضع الاقتصادي صار مقبولاً، وعاودت سوق بنت جبيل نشاطها.
وأكّد د. بزي أنّ بنت جبيل كانت خلال الثلاثينيّات مزدهرة وناشطة على الصعيد التجاري، حيث كان ينتشر حول سوقها حوالى تسعة خانات، وكانت تأتي إليها القوافل التجاريّة القادمة من فلسطين قاصدةً «سوق الخميس» الذي كانت ولا تزال تشتهر به المدينة، وبالتالي كانت بنت جبيل بوّابة فلسطين، وكانت تلعب دور الوسيط بين فلسطين وسوريا والداخل اللبناني.
الهجرة من بنت جبيل إلى أميركا والعالم
الاغتراب في بنت جبيل، وفق د. بزي، قديم يعود إلى حوالى 120 عاماً، وكانت وجهته الأساسيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة التي تعود الهجرة إليها إلى العام 1900، وأوّل من وصل إليها كان حسن حمود يرافقه ثلاثة أشخاص آخرين، وذلك وفق شواهد قبورهم حيث دُفنوا هناك. كما أنّ من أوائل الذين قصدوا أميركا: حسين حمود وعبد الكريم حمود، علي طرفة (مكي)، يوسف وعلي ومحمّد طرفة (أصل العائلة مكي، سُمّيت طرفة على اسم الجدّة). مشيراً إلى أنّ أربعة من أبناء بنت جبيل قضوا خلال غرق باخرة «التيتانيك» الشهيرة عام 1912.
وأكّد د. بزي أنّ هجرة أبناء بنت جبيل لم تقتصر على أميركا فقط، بل شملت أيضاً دولاً أخرى أبرزها البرازيل (منذ الحرب العالميّة الأولى: خليل هيدوس، علي عبد الله المحمّد، عقيل الحاج خليل أيوب، رضا عيسى، ابراهيم دعيبس وغيرهم…)، الأرجنتين، كولومبيا وفنزويلا. وتحدّث عن هجرة حصلت باتجاه كوبا، ولا سيّما أنّه لا يزال يحتفظ حتّى اليوم بحوالى 200 رسالة كان قد أرسلها عمّه محمود بزي الذي كان يقيم في كوبا إلى والدته ووالده في لبنان، وهي تتحدّث عن الحياة في كوبا بين عامَي 1926 و1930.

د. رامز حوراني
الاغتراب في بنت جبيل بدأ منذ بدايات القرن الماضي وتحديداً إلى الولايات المتحدة الأميركيّة وفق ابن المدينة د. رامز حوراني الذي أشار إلى أنّ المجموعة الأولى التي وصلت إلى ديترويت، كانت تتألّف من 25 إلى 30 شخصاً على الأقلّ وكان جدّه لجهة والده واحداً منهم، حيث عملوا في مصانع السيّارات. وبعد حوالى عام، عاد الجدّ إلى الوطن بينما بقي الآخرون وماتوا ودُفنوا هناك. وتابع د. حوراني حديثه لـ «المغترب» فقال: «شهدت بنت جبيل موجات اغترابيّة أخرى إلى أفريقيا في الثلاثينيّات، وأميركا اللاتينيّة، وأستراليا في بدايات القرن التاسع عشر. لكنّ التدفّق الكبير إلى أميركا حصل بعد العام 1968، حين دعا أحد الأشخاص المعروفين في بنت جبيل السفير الأميركي إلى الغداء، فلبّى السفير الدعوة وأمضى يوماً كاملاً في بنت جبيل وجال في أرجائها، ولفتته كثرة مصانع الأحذية المنتشرة فيها. وبعد شهرَين على زيارته، نُشر إعلان في جريدة «النهار» يقول: «الولايات المتّحدة الأميركيّة تفتح أبواب الهجرة لعمّال الأحذية»!! فهاجر عندها حوالى 500 شخص على الأقلّ من بنت جبيل إلى أميركا لكنّهم لم يعملوا في صناعة الأحذية إطلاقاً، وقاموا بسحب بنت جبيل كلّها إلى هناك»!
في أميركا، عمل أبناء الجيل الأوّل من مغتربي بنت جبيل الذين كانوا يقيمون في مدينة «ديربورن» إحدى ضواحي «ديترويت»، في مجال «فبارك» السيّارات، لذلك أقاموا في حي «ديكس» بالقرب من المصانع مباشرة. أمّا المجموعة الثانية الذين قصدوا أميركا في العام 1968، فكانوا يتزاحمون أيضاً للعمل في مجال «فبركة» السيّارات، ولا سيّما مع وجود أحد أبناء المدينة ويُدعى طلال طرفة، (ابن الحاج علي طرفة الذي هاجر إلى أميركا عام 1914 وعمل في مجال «الفبارك» وتعرّف إلى مسؤولين كبار في هذا المجال)، وقد تسلّم وظيفة كبيرة ومهمّة في شركة «فورد» كانت تؤهّله لأن يُحضر موظّفين إلى مصانع الفبارك، وكان أبناء بنت جبيل يتوافدون إليه ليملأ لهم طلبات الدخول إليها. فعمل حوالى 50 % منهم في مجال «الفبارك» و50 % في مجال الـ Business وخصوصاً في محطّات البنزين، حيث أقبلوا على شراء محطّات البنزين التي وصل عددها إلى حوالى 1500 محطّة يملكها أبناء بنت جبيل في أميركا، وحينها كان ثمن المحطّة لا يتعدّى العشرة آلاف دولار، لكن في العامَين 1985 و1986 ارتفع سعرها وبات يتراوح ما بين 400 إلى 500 ألف دولار!
في العام 1986 تبدّلت الأمور في أميركا، وفق د. حوراني الذي قال: «بات هناك 20 % فقط من المهاجرين يعملون في الفبارك و80 % في أعمال تجاريّة أخرى، وشكّلت محطّات الوقود العمود الفقري لعمل أبناء بنت جبيل في أميركا. لكن خلال الأزمة الماليّة عام 2008 تأثّرت أسعار محطّات الوقود وفقدت ما بين 60 إلى 70 % من قيمتها وتراجع إنتاجها، فتأثّر عدد كبير من المغتربين بهذه الأزمة.
حاليّاً لم يعد هناك أكثر من 10 % من أبناء بنت جبيل يعملون في مصانع السيّارات في أميركا، والباقون أصبح لديهم أعمالهم الخاصّة، وصار هناك نسبة كبيرة من المتعلّمين في صفوفهم، إذ يوجد اليوم من بنت جبيل وحدها حوالى 100 طبيب على الأقلّ في ديترويت، وحوالى 200 مهندس، وكلّ المديرين والأساتذة الموجودين في المدارس الرسميّة في ديربورن هم عرب و70 % منهم هم من بنت جبيل وتبنين».
وتابع د. حوراني قائلاً: «عندما تزور ديربورن في الوقت الحالي، تخال نفسك في الضاحية الجنوبيّة من لبنان! فاللافتات كلّها مكتوبة باللغة العربيّة، ولا داعي للتحدّث باللغة الانكليزيّة هناك، ومَن يريد أن يتعلّمها فعليه أن لا يقيم في ديربورن لأنّه لن يتعلّم الانكليزيّة أبداً!! (مازحاً). ثمّ إنّ الحكومة المحليّة في ديترويت اعتبرت اللغة العربيّة اللغة الرسميّة الثانية فيها، كما تستقبلك في مطار ديترويت يافطة مكتوب عليها باللغة الانكليزيّة Welcome to Detroit وبالعربية «أهلاً وسهلاً بكم في ديترويت».
.. بكلّ صراحة!
سألناه: «ماذا بقي من الوطن ومن بنت جبيل في ذاكرة أبنائها المغتربين»؟ أجاب: «لا يزال الوطن راسخاً في ذاكرة الجيل الأوّل، أمّا الجيل الثاني فلا علاقة له بالوطن لا من قريب ولا من بعيد، لا يعنيه الوطن كثيراً!! ثمّ إنّ 70 % من أبناء الجالية لا يجيدون اللغة العربيّة و30 % منهم فقط علّموا أبناءهم اللغة العربيّة»!
حوراني الذي سافر في العام 1976 إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة للمرّة الأولى بصفة طالب لا مهاجر وبقي فيها (ديربورن) مدّة عام، رأى بعين الناقد تغيّر أحوال الجالية في أميركا، من هنا كان في حديثه صريحاً شفّافاً، فقال: «للأسف إنّ العادات والتقاليد كافّة التي كدنا أن ننساها في وطننا بدأت من جديد في مغترباتنا! العلاقات الاجتماعيّة القائمة بين أفراد الجالية العربيّة بشكل عام، واللبنانيّة بشكل خاصّ وبنت جبيليّة على الأخصّ في ديربورن غير صحيّة وغير سليمة. تخيّلوا أنّ عدد سكّان ديربورن يبلغ حوالى 300 ألف نسمة، منهم 200 ألف عربي، 150 ألف لبناني، 100 ألف من الجنوب اللبناني، وبالرغم من ذلك فإنّ رئيس البلديّة إيطالي!! هذا أكبر نموذج على تشتّت الجاليات العربيّة وعدم تضامنها وتعاونها في مغترباتها.. إنّه واقع أليم ومتخلّف»!!
عن الدور الانمائي لمغتربي بنت جبيل في بلدتهم، قال د. حوراني: «بعد التحرير في العام 2000، انتُخب فيّاض شرارة بالتزكية رئيساً للبلديّة، فاقترح تنظيم رحلة إلى ديترويت للقاء أبناء الجالية هناك فسافر برفقة ثلاثة أعضاء من البلديّة والتقى بأبناء البلدة في نادي بنت جبيل وطرح عليهم موضوع إنماء المدينة. فقوبل هذا الطرح بالإيجاب، وعرض عليهم مجموعة من المشاريع (حوالى 13 مشروعاً ملحّاً).. بالكلام جمعنا حوالى مليون ونصف المليون دولار، وحوالى خمسة أشخاص تبرّعوا بمشاريع، أحدهم تبرّع بمأوى عجزة، وآخر تبرّع بتشجير بنت جبيل، وآخر تبرّع بإنشاء ملعب كرة قدم، وأحدهم قال إنّه سيعمل مع مجموعة من الأشخاص على بناء مركز لبلديّة بنت جبيل. فعاد شرارة من أميركا مسروراً. لكن في الواقع تمّ جمع حوالى 45 ألف دولار فقط لا غير!! وكلّ الذين تعهّدوا بالمشاريع ما لبثوا أن تراجعوا وكانت وعودهم مجرّد وهم وسراب»!!
وتابع د. حوراني: «في العام 2008 سافرت إلى أميركا، فزارني مجموعة من أبناء البلدة المقيمين هناك وأخبروني أنّهم يريدون بناء مركز للبلديّة، فأنشأوا لجنة من 25 شخصاً تقريباً وجمعوا مبلغ 300 ألف دولار نقداً كدفعة أولى لبناء المجمّع، وزارت اللجنة بنت جبيل وقصّوا شريط افتتاح المشروع الذي قُدّرت تكلفته بحوالى مليون دولار. فبدأ العمل لكن نفد المال وتوقّف العمل، وأولئك الذين كانوا ملتزمين بإكمال المشروع قالوا إنّه لم يعد في إمكانهم ذلك!! وتقوم البلديّة اليوم بإكماله على حسابها الخاص».
في المحصّلة، أشار د. حوراني إلى أنّ «الجالية لم تقم بأي دور إنمائي في بنت جبيل إطلاقاً وبكلّ صدق وشفافية»!! ومؤكّداً أنّ «الجالية لم تكن على مستوى آمال وطموحات وتطلّعات أبناء بنت جبيل المقيمين أبداً»!!
في معرض حديثه عن «نادي بنت جبيل» في ديربورن، قال د. حوراني إنّه تأسّس في التسعينيّات، وإنّ أحد أبناء بنت جبيل الحاج محمّد طرفة وهو من قدامى المهاجرين، قام بإنشاء النادي باستخدامه أسلوباً طريفاً وذكيّاً في آن، حيث جمع حوالى 100 شخص من أبناء بنت جبيل المقيمين في أميركا، واستدان من كلّ شخص منهم مبلغ 5000 $ واعداً إيّاهم أنّه ما إن تسير أمور النادي سيعيدها إليهم، وبالفعل جمع مبلغ 500 ألف دولار وبنى صرحاً مهمّاً وراقياً، وأعاد للجميع أموالهم من إنتاج النادي الذي ضمّنه مطبخاً عربيّاً وبدأ بتنظيم حفلات الزفاف فيه، وكانت تبلغ أرباح النادي السنويّة في ذلك الحين حوالى 500 ألف دولار، وأكّد الحاج طرفة خلال زيارة قام بها إلى بنت جبيل أنّه سيخصّص نصف هذا المبلغ لمدينته والنصف الآخر لأبناء الجالية هناك، لكنّ ذلك لم يحصل ولو التزم طرفة بإرسال هذا المبلغ في كلّ عام لكانت بنت جبيل اليوم بمثابة «جنّة على الأرض»، لكنّ «كلام الليل محاه النهار»!! لافتاً إلى أنّ هذا النادي أصبح نادياً للأعمال التجاريّة أكثر من كونه نادياً للإنماء.
وختم د. حوراني قائلاً إنّ بنت جبيل تحوّلت من مدينة إلى قرية، والوضع الاقتصادي فيها تعيس وصعب و«بدّو حلّ»!!

رئيس الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب، ورئيس الحركة الثقافيّة في لبنان
بلال شرارة
للعمل السياسي في بنت جبيل تاريخ عريق، فقد برز منها رجالات ساهموا في تأسيس العديد من الحركات السياسيّة، وكذلك الأمر على الصعيد الثقافي والأدبي.
انطلاقاً من هنا، كان لـ «المغترب» لقاء مع ابن بنت جبيل رئيس الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب، ورئيس الحركة الثقافيّة في لبنان بلال شرارة، الذي تحدّث عن تاريخ العمل السياسي في بنت جبيل، فأشار إلى أنّ التشكيلات التي كانت موجودة في المدينة هي تشكيلات اقطاعيّة كان لكلّ منها مناصرون، وكان العمل السياسي يتمظهر بالصراع العائلي، حتّى تاريخ وصول الأحزاب إلى بنت جبيل، ومنها الحزب الشيوعي وحزب البعث. فكانت بنت جبيل من أوائل المدن التي شهدت نشاطاً حزبيّاً في الأربعينيّات والخمسينيّات.
وتابع شرارة: «الحزب الشيوعي هو أوّل حزب فعلي وُجد في بنت جبيل، ومن بين الأسماء التي انخرطت في هذا الحزب، ابراهيم نعيم بزي الذي توفي منذ حوالى العام عن عمر يناهز 100 عام. ثمّ كان هناك وجود كبير لحزب البعث في بنت جبيل، والذي كان ينتمي إليه قياديون كبار بقيادة أحمد شرارة وهو أستاذ البعثيين الأوائل، إضافة إلى وجود حركة القوميين العرب».
وأضاف شرارة: «كانت بنت جبيل بلدة حزبيّة وطنيّة، ففي العام 1969 وصلت المقاومة الفلسطينيّة إليها فاحتضنتها، وانتمت مباشرة للعمل الفدائي الذي اشترك فيه البعثيون، وصار هناك حضور كبير لحركة «فتح» التي كانت بمثابة «التنظيم القائد» في ذلك الوقت».
الثقافة
على الصعيد الثقافي، قال شرارة إنّ بنت جبيل هي مدينة ثقافيّة شهدت حركة ثقافيّة من بدايات القرن الماضي، وفيها العديد من الشعراء والأدباء لكن ضمن الإطار المشيخي الذي لم يكن صارماً بل يعمل ضمن إطار تعليم اللغة والشعر والقواعد وكان منفتحاً على الأفكار كافّة. مضيفاً إنّ بنت جبيل تشتهر بأنّها بلدة «مشيخيّة» علمائيّة يكثر فيها علماء الدين الذين هم في غالبيّتهم مثقّفون وشعراء.
وأشار شرارة إلى أنّ المثقفين والمتنوّرين من أبناء بنت جبيل، قرأوا الثقافة الغربيّة والتراجم وعملوا في مجال الترجمة. مشيراً إلى أنّ عبد الكريم شرارة هو أوّل شخص أصدر كتاباً عن الصهيونيّة تحت عنوان «الصهيونيّة جريمة العصر» في الخمسينيّات. أمّا الشاعر والعلامة الكبير موسى الزين شرارة، فقد كان وطنيّاً في أشعاره ومناهضاً للاحتلال الفرنسي وأيضاً للعنف بأشكاله كافّة.
شرارة الذي زار أبناء بنت جبيل في الولايات المتّحدة الأميركيّة حوالى عشر مرّات، أكّد أنّ أبناء الجالية في ديترويت لا يزالون يحافظون على الروابط الأسريّة، وعلى لهجتهم وعاداتهم.
بنت جبيل كانت عبر التاريخ حاضنة للقرى المحيطة بها وللقرى التي تشكّل ملجأ ووجهة أساسيّة لها، من هنا أكّد شرارة أنّ علاقة بنت جبيل بقرى الجوار هي علاقة تاريخيّة لا تزال قائمة، وأضاف: «للأسف نعاني من وجود محاولة لانتقاص هويّة بنت جبيل! ولا سيّما أنّ هذه المدينة قدّمت عدداً كبيراً من الشهداء الذين يناهز عددهم عدد سكّان بعض القرى، ولديها تاريخ ضخم وكبير. صحيح أنّنا جميعاً نقول إنّ بنت جبيل هي عاصمة الانتفاضات، عاصمة المقاومة، عاصمة التحرير، عاصمة العواصم، وهي أيضاً عاصمة تجاريّة تاريخيّة، لكن لسبب أو لآخر لم يتمّ الاعتناء بهذا الأمر، بمعنى أنّه إذا كانت بنت جبيل تتمتّع بكلّ تلك الرمزيّة فيجب أن تكون هي رئيسة اتّحاد بلديّاتها، فـ بنت جبيل تستحقّ أن يتمّ الحفاظ عليها وأن تُصنّف متحفاً للتاريخ، إذ لا يمكن لأحد أن يلغي موقعها تجاه القضيّة الفلسطينيّة والقضية العربيّة».
«ماذا بقي من بنت جبيل في ذاكرة بلال شرارة»؟ أجاب: «بنت جبيل لا تزال حاضرة وراسخة في ذاكرتي بأحيائها كافّة وتفاصيلها، بيوميّاتها ونضالاتها، وبرجالاتها التاريخيين»…
الحركة الثقافيّة في لبنان
يرأس شرارة الحركة الثقافيّة في لبنان التي أسّسها في العام 1995، مع مجموعة من الأدباء والشعراء حين قاموا بكتابة أوّل نظام داخلي للحركة وتقدّموا بطلب ترخيص وعلم وخبر وهكذا كان.
للحركة الثقافيّة في لبنان مراكز منتشرة في العديد من المناطق، ففي بنت جبيل هناك مركز يُطلق عليه اسم «مركز قضاء بنت جبيل»، وفي قرى الجنوب يوجد 4 مراكز في الزراريّة وصور والمصيلح، إضافة إلى أنّ مرجعيون كانت تضمّ مركزَين لكن تمّ إقفالهما، وهنا توجّه شرارة إلى رئيس بلديّة مرجعيون أمل حوراني بالقول: «في مرجعيون يجب أن يتمّ إقفال أمور كثيرة لكن ليس المركز الثقافي، وأناشده عبر «المغترب» بأن يعيد افتتاح مركز الحركة هناك».
وفي معرض ردّه عن اتّهام البعض له بأنّه عمل على شقّ اتّحاد الكتّاب اللبنانيين، قال شرارة: «ما زلت منتسباً لاتّحاد الكتّاب اللبنانيين.. لقد منعت اغتياله وقتله، فمن المعروف أنّ الاتّحاد ليس لديه إمكانات ماديّة لكنّني أعمل على دعمه من هذه الناحية كي يستمرّ. إلا أنّني أسجّل على هذا الاتّحاد أنّه لم يستطع أن يكون نقابة فعليّة للكتّاب والشعراء، فالمعايير التي كان يعتمدها كانت عشوائيّة! ونأمل في أن يبقى الاتّحاد مؤسّسة فاعلة». مشيراً إلى أنّ عدد المكرّمين الذين كرّمتهم الحركة وصل إلى حوالى 100 شخص، من بينهم 42 أستاذاً من بنت جبيل.

المغترب في أستراليا
الحاج محمّد نجيب بزّي
هاجر ابن بنت جبيل الحاج محمّد نجيب بزّي إلى أستراليا في العام 1968 وكان عمره 22 عاماً، وأصبح عمر هجرته الآن حوالى 46 عاماً، وهو ثاني شخص وصل إلى أستراليا من بنت جبيل بعدما سبقه صديقه عبد الكريم بوصي بحوالى شهرَين وهو من بنت جبيل أيضاً، حيث كانا قد تقدّما سويّاً بطلبَي هجرة إلى كندا وأستراليا.
وأكّد بزّي لـ «المغترب» التي التقته في بنت جبيل أنّه وصل إلى «سيدني» ولم يكن فيها سوى ثمانية لبنانيين من الجنوب فقط.
وتابع بزّي حديثه عن بدايات رحلته إلى أستراليا، فقال: «خلال الفترة الأولى من وجودي في أستراليا عشتُ أيّاماً صعبة جدّاً، خاصّة أنّني لم أكن أتقن لغتها، لكنّني بدأتُ العمل مباشرة في اليوم الثاني من وصولي».
بدأ بزّي العمل في مجال «الفبارك» ثمّ في البريد، وبعدها موظّفاً في مصلحة سكّة الحديد، إلى أن قرّر متابعة دراسته فدخل إلى جامعة University of technology في سيدني وتخصّص في إدارة الأعمال وفي مجال الشؤون العقاريّة.
في العام 1975 بدأ الجنوبيون يتوافدون إلى أستراليا، ومن بينهم توافد عدد كبير من أبناء بنت جبيل، عندها أسّس بزي «الصندوق الخيري لأبناء بنت جبيل» و«الرّابطة الثقافيّة لأبناء بنت جبيل في أستراليا»، كذلك افتتح مكتباً عقاريّاً خاصّاً به في سيدني، ولا يزال حتّى اليوم يعمل في مجال العقارات.
وتابع بزي قائلاً: «بعد مضي أربع سنوات على وجودي في أستراليا، قمت بأوّل زيارة إلى لبنان في العام 1972، وقمت أيضاً بجولة في أميركا وأوروبا وغيرها من البلدان… تزوّجت في العام 1974 وانتقلت زوجتي للإقامة معي في أستراليا حيث أسّسنا عائلة تتألّف من ابنتَين وابنَين».
.. بين لبنان وأستراليا
بعد تحرير بنت جبيل عام 2000، تمّ انتخاب بزي نائباً لرئيس بلديّة بنت جبيل، فأنتج التوأمة بين مدينتَي بنت جبيل وسيدني، وكان لهذه التوأمة صدى كبير، ووظّف طاقاته في خدمة مدينته وكان عضواً فاعلاً في العمل البلدي. لكن بعد 46 عاماً أمضاها في أستراليا اعتاد خلالها على نمط حياة معيّن، اصطدم بزّي بعوائق كثيرة تمثّلت بسيطرة المحسوبيّات إضافة إلى غيرها من العوائق في إنجاز المعاملات، على عكس ما يحصل في أستراليا، ما ولّد لديه إحباطاً لم يثنه عن الجد والاجتهاد في سبيل خدمة بنت جبيل.
يشغل بزي اليوم منصب نائب رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل، وهي جمعيّة خيريّة، اجتماعيّة وثقافيّة غير سياسيّة، وتُعتبر حالياً من أكبر الجمعيّات المنتشرة في أستراليا وأنجحها، وتهدف إلى جمع شمل أبناء المدينة ولا سيّما في المناسبات الوطنيّة والدينيّة وتعزيز تواصلهم بالوطن.
سألناه: «تنتمي لوطنَين: أستراليا ولبنان، كيف تعيش هذه الإشكاليّة؟ وهل تشعر بأنّك تنتمي إلى هذَين البلدَين بالتساوي»؟ فأجاب: «ليس أمراً سهلاً أن يقيم المرء في مجتمعَين يختلفان كلّياً سواء لجهة نمط الحياة، العادات، التقاليد وغيرها، فهناك شيء معيّن يشدّني إلى لبنان وشيء آخر يشدّني إلى أستراليا». وأضاف: «أحاول أن أوفّق بين البلدَين، لكنّه أمر صعب خاصّة بعدما اعتدت على نمط الحياة في أستراليا التي يسودها النظام فهناك لا مكان للمحسوبيات بل فقط للكفاءة».
وأعلن بزّي أنّه سيترشّح للدخول إلى مجلس الشيوخ الأسترالي. وعندما سألناه: «على ماذا تعتمد»؟ أجاب: «أعتمد أوّلاً على كفاءتي وقدرتي وحبّي للعمل في الشأن العام وخدمة البلد الذي أقيم فيه. فإسمي بات معروفاً في أستراليا حيث ينادونني بإسم «مايكل بزّي». لقد صمّمت أن أجد لنفسي مكاناً هناك، وأرغب في أن أحقّق هذا الهدف الذي أضعه نصب عينيّ بالرغم من وجود بعض الصعوبات». لافتاً إلى أنّه في إمكان أي فرد أن يتبوّأ أي منصب يسعى إليه في أستراليا، فاللبنانيّة الأصل ماري بشير مثلاً تبوّأت منصب الحاكم العام هناك، وهي انسانة عاديّة ومتواضعة.
سألناه: «إذا خيّروك بين وطنَين: أستراليا أم لبنان، ماذا تختار»؟ أجاب بتلقائيّة: «أختار أستراليا، وإذا أردت أن أضع نسبة لكلّ من البلدَين فإنّني أعطي نسبة 60 % لأستراليا و40 % للبنان! وسبب ذلك أنّني أقمت في مجتمع سليم في أستراليا التي أعطتني الكثير وبالتالي يجب عليّ أن أبادلها العطاء».
الجالية اللبنانيّة في أستراليا
ولفت بزي إلى أنّ عدد أبناء بنت جبيل المقيمين في أستراليا يتراوح ما بين 3500 و4000 شخص، وهم على تواصل دائم في ما بينهم، مشيراً إلى أنّه تمّ إجراء إحصاء شامل عنهم وتمّ إصدار دليل يتضمّن أسماءهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم. مؤكّداً أنّ أبناء بنت جبيل في أستراليا لا يزالون على تواصل دائم مع وطنهم ومدينتهم بنت جبيل.
وعمّا إذا كان هناك من مشاريع قام بها مغتربو أستراليا في مدينتهم بنت جبيل، لفت بزي إلى أنّ المستشفى الحكومي في بنت جبيل يتلقّى تبرّعات ومساعدات من أبناء البلدة المغتربين، إضافة إلى الصليب الأحمر فضلاً عن التحويلات الماليّة إلى أهلهم المقيمين.

المغترب في الولايات المتحدة الأميركيّة غسّان حوراني
هاجر إبن بنت جبيل غسان حوراني إلى ديربورن في الولايات المتحدة الأميركية في العام 1979 ولا يزال حتى الآن، حيث يمتلك فيها عدداً من المصالح التجارية الصغيرة، وهو ناشط بين أبناء الجالية اللبنانية هناك وفي الحقل العام أيضاً. حوراني الذي وُلد في بنت جبيل في العام 1956، درس في ثانويتها قبل أن يهاجر إلى أميركا وهو متزوج ولديه ثلاث بنات.
حوراني لفت في حديثه لـ «المغترب»، إلى إنّ «أبناء المدينة المغتربين هم كسائر الجاليات الأخرى في الولايات المتّحدة الأميركيّة يشعرون بالحنين إلى مسقط رأسهم وفي الوقت نفسه يندمجون في وطنهم الثاني ويلتزمون بقوانينه ويتأقلمون في مجتمعه، وأخصّ بذلك أولادنا الذين وُلدوا في أميركا. ولا تتفاجأوا إن قلت إنّني شخصيّاً أرى أولادنا في المغترب ما زالوا أفضل منّا نحن في فهم الدين، فهم يتحلّون بالصفاء ولم تلوّثهم أبداً أدران ما نشاهده على شاشات التلفزة من مشاهد القتل والذبح والكره والحقد»…
ولفت حوراني إلى أنّ عدد أبناء بنت جبيل المقيمين في مدينة ديربورن وضواحيها يزيد عن 15 ألف نسمة، ويشكّلون 15 % من عدد سكّان ديربورن البالغ 100 ألف نسمة. ففي انتخابات المجلس البلدي الأخيرة في ديربورن، فازت المحامية سوزان دباجه وهي من مواليد ديربورن عام 1977 وحصلت على أكبر نسبة من الأصوات، ما جعلها تترأّس المجلس البلدي الذي يبلغ عدد أعضائه 7 أعضاء.
وفي ما خصّ وجود أبناء بنت جبيل في أميركا، قال حوراني إنّ وجودهم في أميركا الشماليّة في ولاية ميتشيغان يعود إلى الوقت الذي شرّعت فيه الولايات المتّحدة أبوابها للألوف المؤلفة من رعايا ما كان يُطلق عليه اسم «سوريّا العظمى» التابعة لسلطة الدولة العثمانيّة في الحقبة التي تمتدّ ما بين العامَين 1875 و1912، حيث كان في عداد الذين غرقوا في سفينة «Titanic» الشهيرة ثلاثة من أبناء بنت جبيل. وأضاف: «أقام أبناء بنت جبيل في ولاية ميتشيغان في مدينة «هايلاند بارك» High Land Park في شارع Victor القريب من مدينة ديترويت. ومنهم مَن حطّ رحاله في «ميتشيغان سيتي» Michigan City التابعة لولاية «إنديانا» Indiana».

نادي بنت جبيل في ديترويت
وفي ما خصّ نادي بنت جبيل في ديترويت، أكّد حوراني أنّ نشاطاته محدودة، ولا سيّما الاجتماعيّة والثقافيّة منها، بالرغم من أنّ نظامه الداخلي يتضمّن الكثير من البنود التي تتيح له أن يكون أكثر نشاطاً وعلى أكثر من صعيد، إلا أنّ «شخصنة» الأمور من قبل بعض المؤسّسين جعله ينكفئ ويصبّ تركيزه على دخله السنوي من خلال حفلات الأعراس وغيرها، لكي يسدّد أقساطه الشهريّة للمصارف». وأضاف: «هذا الأمر كان طبيعيّاً في البداية، لكنّ النادي بقي على هذا الحال لمدّة طويلة تفوق العقد من الزمن، ولم يستطع «النّادي» أن يكون كذلك وأن يشكّل صلة الوصل بين أبناء بنت جبيل المغتربين ولا أن يكون ملتقى القادمين وبالأخص المثقّفين منهم، وذلك من خلال تخصيص مكان في النادي يلتقي فيه أبناء البلدة القادمون مع أبنائها المغتربين، إضافة إلى إنشاء مكتبة راقية بمستوى بنت جبيل وأهميّتها.
وتابع حوراني قائلاً: «نفتقد بشكل عام ثقافة المؤسّسة وثقافة احترام الأنظمة الداخليّة وتطبيقها على أرض الواقع. لكن الشيء المطمئن أنّني علمت أخيراً أنّه جرى فتح باب الانتساب إلى النادي وتمّ إدخال عدد لا بأس به من أبنائنا من الجيل الصاعد، فغيابهم كان عاملاً مهمّاً في عدم تقدّم مسيرة النادي، نظراً لما يتمتّعون به من قدرات علميّة لا يُستهان بها. ويبقى الأهمّ برأيي، أنّه يجب أن يكون هناك دور أساسي للمرأة، حيث إنّ نسبة النساء قليلة جدّاً لدرجة أنّ عددهنّ يزيد قليلاً على عدد أصابع اليد، وذلك من أصل 150 عضواً في الهيئة العامّة».
وفي معرض ردّه عن رأي أبناء بنت جبيل المقيمين من أنّ أبناء البلدة المغتربين لم يكونوا على مستوى الآمال المعقودة عليهم في مساعدة مدينتهم وتنميتها، قال حوراني: «هذا الموضوع كان وما زال مدار جدل واسع وكبير لأنّه موضوع حسّاس، فالكلّ ينظر انطلاقاً من رؤيته الخاصّة ومن خلال واقع معيّن، سواء أكان المقيم أو المغترب. ويجب علينا أن لا ننسى أمراً مهمّاً كان بمثابة حجر عثرة أمام تنمية بنت جبيل وهو خضوعها للاحتلال لفترة طويلة، وكانت الأحوال حينها تنتقل من سيّئ إلى أسوأ ولم أذكر أنّه طيلة فترة الاحتلال كان في إمكان المغتربين أن يستثمروا تجاريّاً في المدينة، بل قاموا ببناء منازل وأنفقوا الكثير من المال لأجل ذلك، وهذا بدوره يساعد على التشبّث بالأرض والصمود في وجه العدوّ الاسرائيلي. لكن بعد التحرير عام 2000، حاولنا العمل على تنفيذ مشاريع تنمويّة عديدة في العام 2003 إضافة إلى مشروع القصر البلدي وبناء مستوصف وقاعة ومكتبة بمشاركة بلديّة بنت جبيل برئاسة الحاج فيّاض شرارة، لكنّنا لم نستطع في أي شكل من الأشكال إنهاء المشروع، والسبب في ذلك يتحمّله أبناء بنت جبيل المقيمون لا المغتربون، فهم مَن وضع العصي في الدواليب لكلّ شيء أردنا أن نبنيه وهذا موضوع الحديث عنه طويل وشائك».
وتوقّف حوراني عند الأزمة الاقتصاديّة الماليّة التي شهدتها أميركا في بداية العام 2008، وتأثّر بها أبناء المدينة هناك، الأمر الذي شكّل عاملاً كبيراً في مساهمة أهالي بنت جبيل المقيمين في أميركا في تنمية مدينتهم، فـ «هذا التسونامي الاقتصادي كان سيّئاً جدّاً لدرجة أنّنا ما زلنا متأثّرين بنتائجه حتّى الآن»!! وأضاف: «علينا أن لا ننسى أيضاً تقصير الدولة ومؤسّساتها وعدم اهتمامها بالمغتربين، فقد عانينا ما عانيناه من فساد مستفحل في المؤسّسات الرسميّة وغير الرسمية كافّة، بما في ذلك فساد القيمين والمسؤولين عنها».
وختم حوراني مشيراً إلى «أخطاء فادحة حصلت ما بين عامَي 2000 و2010، والتي تمثّلت بانتخاب رؤساء بلديّات ينتمون إلى منظّمات وأحزاب متّهمة من قبل السلطات الأميركيّة بالإرهاب، لذلك وبصفتنا مواطنون أميركيّون لا نستطيع أن نتعامل مع البلديّات ولا مع رؤسائها كمغتربين، فقوانين الإرهاب «باتريوت 1 وباتريوت 2» تشمل معاقبة كلّ أميركي يتعاطى معهم أو يتّصل بهم. لذلك كان يجب أن يبقى رؤساء البلديّة مستقلّين عن الأحزاب من أجل أن يكون في إمكان المغترب العمل وبشكل قانوني لخدمة البلد الذي هاجر إليه».

بنت جبيل- ميتشغان
«لـلّـــهــو آونـــةٌ تــــمــــرّ كــــأنّـــهــا قُـبـلٌ يُـزوّدهـا حـبـيـبٌ راحـلُ
جَمَحَ الزمانُ فلا لذيذٌ خالصٌ ممّا يشوبُ ولا سرورٌ كاملُ»
بهذَين البيتَين للمتنبّي ارتأى ابن بنت جبيل الكاتب والمؤلّف أحمد بيضون أن يبدأ كتابه «بنت جبيل- ميتشغان» واصفاً إيّاه بـ «حفلة تكريم، شئتها فرحة لبنت جبيل- ميتشغان».
عبارة «صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن «دار العربيّة للتوثيق والدراسات والنشر، في بيروت، سنة 1989» ليست كغيرها من العبارات التي تتصدّر صفحات كلّ كتاب أو قصّة أو رواية، إذ إنّ لتاريخ صدور هذا الكتاب دلالات ومعانٍ تنسجم ومحتواه، فـ «بنت جبيل» بنسختها الأميركيّة كانت حاضرة بقوّة في هذا الكتاب الذي يلامس واقع ونمط حياة أبناء المدينة الذين هاجروا بشكل كبير وأساسي إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة في تلك الفترة، وتركّزوا في ديربورن في ولاية ميتشغان.
«حفلة التكريم» تبدأ أحداثها في مطار ديترويت «الجديد» حيث «كانوا نحواً من ستين جاء معظمهم من ضاحية ديربورن القريبة وبعضهم من مواضع أبعد، والذي لم يكن يسعني أن أناديه من بينهم بـ «ابن العمّ» كنت أناديه بـ «الجار» في بعض الحالات وبـ «الأخ» في أغلبها، فكأنّ الحاجة إلى تقريب القرابة الرمزيّة تشتدّ كلّما تراخت قرابة الدم»… وتنتهي أيضاً في المطار حيث «تذكّرت بنت جبيل- لبنان لا بنت جبيل- ميتشغان. وخطر لي أنّه كان ممكناً، لو كانت بنت جبيل بيدنا، أن نذهب إليها سويّة، من هذا المطار، على ظهور خيل عابرة للأطلسي»…
يختصر هذان المقطعان رحلة قام بها ابن بنت جبيل إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة لزيارة أقاربه هناك، فيحمل من خلال عيونه القارئ على رؤية مشهد أبناء الجالية كيف تأقلموا مع عادات وتقاليد وظروف ونمط عيش وفّرتها لهم أميركا، وفي الوقت نفسه يكتب سطور هذا الكتاب بقلم الناقد والمراقب، مجرياً بذلك مقارنة حيّة بين أبناء بنت جبيل بنسختها اللبنانيّة وأبناء بنت جبيل بنسختها الأميركيّة، كيف لا و«الجبيليّون في ديربورن الصغيرة، هم ثلاثة أمثال الذين ما زالوا مقيمين، الآن، في بنت جبيل المحتلّة»؟ (في تلك الفترة).
عادات وتقاليد بنت جبيل وفق هذا الكتاب لا تزال حاضرة بين أبناء الجالية هناك، والمفاهيم الوطنيّة تأخذ بعداً ومفهوماً يختلف من شخص لآخر كلّ بحسب تأقلمه مع ظروفه الجديدة. وقد تطرّق الكاتب إلى تلك المواضيع بلغة طريفة في بعض الأحيان وناقدة في بعضها الآخر، عبر 19 عنواناً تألّف منها الكتاب، تحدّثت عن رحلة الكاتب لحظة وصوله مطار ديترويت وحتّى مغادرته، وأبرز تلك العناوين: الوطن والمهجر، أبو رشيد: المهنة والمكانة، التصوير، الآغا، نساء ورجال، العرس، وغيرها…
يتطرّق هذا الكتاب إلى مواضيع مهمّة خاصّة بأبناء بنت جبيل الذين هاجروا إلى أميركا، لكن يمكن القول إنّها تنطبق أيضاً على عموم أبناء لبنان المغتربين، وأبرزها: إشكاليّة «الزعامة» والقيادة، المواطنة بكلّ ما تحمله من معانٍ مطّاطة وكبيرة، الصراعات العائليّة ونقلها إلى المهجر، الدين والوطن، الثقافة وغيرها…
باختصار، يمكن القول بعد قراءة هذا الكتاب إنّ أبناء بنت جبيل نقلوها بعاداتها وتقاليدها ولغتها وتاريخها وكيانها إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، لتكون بذلك نسخة ثانية لكن بصيغة جديدة.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …