- السيد محسن الأمين – ج 10 – ص 366 – 367
ثم رأيت وجودنا في شقرا ابعد عن الخطر فعدت إليها مع العيال والأولاد. ولاقينا في ذلك شدة ورخاء وعسرا ويسرا ووصل الحال إلى أن لم يبق عندنا من القوت شئ لأنا كنا قد بعناه جميعه بأبخس ثمن ثم وقع الغلاء المفرط فيسر الله تعالى ما اقتنينا به بقرا وماعزا وغنما وفرسا واتانا واستعملنا الفلاحة فدرت علينا ما نمون به العيال والأطفال.
ووقع الوباء في جبل عامل المسمى بالهواء الأصفر الكوليرا حتى أنه مات في يوم واحد في قريتنا شقرا وهي قرية صغيرة اثنا عشر نفسا وكان الوقت صيفا ودخل في أثناء ذلك شهر رمضان وامتنع الناس من تغسيل أمواتهم ودفنهم حتى الأخ من تغسيل أخيه وحمله إلى قبره ودفنه خوفا من العدوي وزاد في الطين بلة ان الجندرمة كانت تجول في القرى تطلب الفارين من الخدمة العسكرية فاغلق الناس بيوتهم واقفلوها واختباوا فيها فوظفنا لتغسيل الرجال رجلا فقيرا يسمى علي زين ولتغسيل النساء امرأة تسمى عمشا بنت الذيب فكان كلما توفي واحد يغسله علي الزين أو عشما ونذهب إلى البيوت ندق عليهم الأبواب ونقول لهم اخرجوا ولا تخافوا من الجندرمة فانا معكم فيخرجون ويحملون الجنازة وانا خلفهم ومع ذلك إذا وصلوا إلى منعطف يتسلل بعضهم فلا أزال معهم حتى نصلي على الجنازة وندفنها ونعود إلى البيت فما نكاد نصل حتى يأتينا خبر جنازة أخرى فنذهب إلى أن ندفنها وهكذا طول النهار.
وتوفيت امرأة فقيرة فابى كل أحد ان تغسل قرب بيته وكان هناك خربة فقلت غسلوها فيها فابى ذلك الجيران فقلت غسلوها في المعصرة ففعلوا ولم نجد من يحملها فصادفنا رجلين وامرأة فألزمتهم بحملها فحملوا جوانب النعش الثلاث وحمله انا الرابع إلى أن صادفنا رجلا فحمل مكاني ثم صادفوا مني غفلة فانسلوا وتركوا الجنازة في الزقاق إلى أن فاجأنا جماعة فألزمتهم بحملها فحملوها، وأما أقرباؤنا فخرجوا من القرية الا قليلا منهم فبعضهم ذهب إلى الصوانة وبعضهم إلىصديق مكان قرب تبنين وفي ذلك أقول:
قل للذين إلى الصوانة ارتحلوا * ومن أناخوا المطي في أرض صديق
لو تعلمون الذي قد حل بعدكم * بنا من الدهر من كرب ومن ضيق
ترى الأنام سكارى من جواه وما * ذاقوا السلافة من دن وراووق
ضيف جديد به الأرواح أضيع من * كتاب ربك في أبيات زنديق
ضيف جديد به القراء قد نفقت * أسواق من كان منهم كأسد السوق
لا مرحبا بك يا ضيف الهموم ولا * أهلا بوجهك فارحل غير موموق
وأم ملدم مع ما بالورى فعلت * أقل منك أذى يا شر مخلوق
ولست تلقى لركعات الهدية من * شخص يصلي ولو صوت في البوق
عمشا كذاك علي الزين أنفق من * شاي ومن سكر في وسط إبريق
أما انا فخرجت من البيت وبنيت خيمة بالقرب منه تحت شجرة زيتون فكان أهل القرية يأتي أحدهم فيقف وراء الحائط ويخبرني ان عنده مريضا بهذا المرض فأقول له اسقه الشاي ولولا قيامي بدفن الأموات لدفنوا بغير غسل ولا كفن وأهيل عليهم التراب أو اكلتهم الجرذان والكلاب.
ثم امرت أهل القرية ان يخرجوا من البيوت إلى الكروم ونحوها ويتفرقوا ففعلوا فخفت وطأة المرض عنهم وكان لنا جار من أقربائنا فتوفي بهذا المرض فقال أهل البيت نريد ان نذهب من هنا إلى بعض الأماكن التي ليس فيها وباء قلت ذلك إليكم أما انا فباق هنا حتى يرتفع هذا الوباء قالوا انما نريد الذهاب لأجلك فقلت انا غير ذاهب ، وكان هذا المرض قد أصاب أهل القرية قبل ذلك بمدة ومات به جماعة لكن أهل القرية لم يعرفوه ولم يعرفه أحد غيري فكتمت ذلك عنهم حتى لا يدب فيهم الذعر إلى أن جاءني يوما بعض بني عمنا يقول إن زوجتي أصابها شئ كأنه الهواء الأصفر فقلت بل هو هو فاصفر وجهه وسمعني آخر من بني عمنا فاصفر وجهه وخرج صباحا باهله من القرية.
أما انا فسلمت من هذا المرض ولم يصبني وقال لي أهل بيتنا لا شك انه سيدفع الله عنا لما نسمعه من أهل القرية من الدعاء لك ، وضاقت بنا أمور المعيشة فكنا نشتري الذرة البيضاء المد النباطي بثلاثين إلى اثنين وثلاثين قرشا فنقتات به ونشتري لأخت لنا في مجدل سلم ما يكفيها وبناتها الثلاث فكنا نطبخه مع اللحم كما نطبخ الأرز ونجرشه ونعمل منه مع اللحم كبة بالصينية ونطبخه مع الحليب كالأرز بالحليب ودعينا مرة لتشييع جنازة في بنت جبيل فوضعوا طعاما فاخرا كالذي كان يصنع قبل الحرب لأن أهل بنت جبيل كانوا يبيعون ويشترون ابان الحرب فاثروا من ذلك وكان معنا جماعة من العلماء فلما وضع الطعام تهاووا عليه بنهم زائد إما انا فرفعت يدي من الطعام ولم أستطع ان أسيغه وان كنت مثلهم تألما من حالتهم.