التخطيط الإلهي لربط شهر رمضان بالقرآن الكريم

السيد محمد حسين فضل اللهيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185].في هذا الشّهر، ينطلق التّخطيط الإلهي من أجل أن يربط بينه وبين القرآن، وقد تكون قيمة هذا الشّهر أنّه الشّهر الذي أراد الله لكتابه أن يبدأ النّزول فيه وأن يخطّط للنّاس حياتهم من خلال ما يريد الله لهم أن يأخذوا به أو يبتعدوا عنه أو ينفتحوا عليه.ولذلك، فإنّ الله جعل القرآن هدىً للناس يهتدون به للالتزام بتوحيده، وليعرفوا أنّه سبحانه وتعالى هو خالق الخلق وباسط الرزق وهو الرّحمن الرّحيم والمهيمن على الأمر كلّه, فليس هناك للنّاس أيّة علاقةٍ بغيره، فإذا أرادوا الرّزق فإنّ الله هو الرّزّاق وإذا أرادوا العافية فإنّ الله هو وليّ العافية وإذا أرادوا النّعمة فإنّ الله هو وليّ النعمة.ولذلك، فإنّ على النّاس في كلّ ما يواجهون في حياتهم من مشاكل ومن تعقيدات أن يلجأوا إليه، ويبتهلوا إليه ويطلبوا منه كلّ حاجاتهم وكلّ حلٍّ لمشاكلهم لأنّه ليس هناك بين الله وبين أحدٍ من خلقه أيّة واسطة، فالإنسان يخاطب ربّه بشكلٍ مباشر ولا يحتاج إلى توسيط أحدٍ مهما كانت عظمته في خطابه لربّه وفي دعائه لربّه وهذا ما أكّده القرآن الكريم {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60] فأراد منهم أن يرفعوا أيديهم إليه بالدّعاء في كلّ حالاتهم، سواء كانت حالات قيام أو حالات ركوع أو حالات سجود، وأراد لهم أن يعمّقوا العلاقة به والعبادة له ويتواضعوا بين يديه تواضع العبد لمولاه وتواضع المخلوق لخالقه، لأنّه هو سرّ وجودهم ولأنّه هو سرّ النّعمة التي يتقلّبون فيها {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم : 34] وعليهم أن يعبّروا عن عبوديّتهم له بسجودهم بين يديه سجود شكرٍ على النّعمة، وسجود عبادةٍ ومحبّة. وقد جاء في خطبة النّبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ على النّاس في هذا الشّهر أن يتقرّبوا إلى الله بطول سجودهم، فإنّها أفضل الأوضاع عنده وقد أقسم الله سبحانه وتعالى أن لا يعذّب المصلّين السّاجدين يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى –في هذا الرّبط بين الشّهر وبين القرآن- أن نقرأ القرآن لا قراءة حروفٍ وكلمات ولكن قراءة وعيٍ ومعرفةٍ وعلم، أن نقرأه في حالة تدبُّر {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء : 82].وهكذا، أراد الله لنا ان نقرأ القرآن لنهتديَ به في كلّ أمورنا، في قراراتنا ومعاملاتنا ومواقفنا ومواقعنا، {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185] أي لِنعرف فيه الفرق بين الحقّ والباطل وبين الخير والشرّ وبين العدل والظّلم وبين الانحراف والاستقامة حتّى لا تختلط علينا الأمور…لذلك، فإنّ الله أراد لهذا الشّهر أن يكون شهر دعوةٍ من خلال القرآن، وأن ينطلق النّاس كلّهم من أجل أن يدرسوا القرآن في تفسيره، وأراد للمثقّفين وللقرآنيين من العلماء أن يبادروا إلى تعليم النّاس للقرآن، لأنّه ليس هناك قيمة لألف ختمة للقرآن إذا كان النّاس يقرأونه من غير فهمٍ وغير وعي. لذلك، إننا نرى الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) يصف هذا الشّهر بأنّه الشّهر الذي أراد الله فيه للإنسان أن يغيّر نفسه وأن يمحّص نفسه وأن يدرس نفسه ويعرف نقاط الضّعف ونقاط القوّة فيها، وليعرف السّلبيّات من الإيجابيّات وأن يعمل على أن يدرّب نفسه على الخير في مقابل الشّر وعلى العدل في مقابل الظّلم، وعلى الحقّ في مقابل الباطل لأنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يقف غداً بين يديه وهو في حالة السّلامة العقليّة التي ينطلق فيها العقل بالحقّ، والسّلامة القلبيّة التي ينبض فيها القلب بالمحبّة والرّحمة، والسّلامة الجسديّة التي يتمثّل فيها الجسد بالطّاعة إليه. إنّه شهر الطَّهور كما يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام)، يتطهّر فيه الإنسان من كلّ القذارات التي يوسوس فيها الشّيطان إليه والتي يوحي إليه بأنّ عليه أن يجعل من علاقاته بالنّاس علاقاتٍ للإغرار بالنّاس، وعلاقاتٍ للانحراف عن الخطّ المستقيم، أن ينتبه الإنسان إلى الوسواس الخنّاس ليستجير بالله منه، لِيُطهّر الإنسان نفسه من الدّاخل فليست القضيّة هي أن يطهّر الإنسان جسده من الخارج وهو ما يهتمّ به النّاس، بل أن يطهّر نفسه من الدّاخل فيكون عقله طاهراً وقلبه طاهراً وحياته طاهرةً ولسانه طاهراً وأهدافه طاهرةً وعلاقاته طاهرةً إنّه شهر الطّهور بحيث تخرج من شهر رمضان وأنت تتطهّر في كلّ يوم، فتخرج طاهراً سليماً لتقف غداّ بين يدي الله {َيوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء : 88] {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 89].قلبٌ سليمٌ من الكفر والشّرك ومن الحقد والعداوة والبغضاء، وهكذا يؤكّد لنا الإمام زين العابدين(عليه السّلام) عن هذا الشّهر أنّه شهر الإسلام، ففي شهر رمضان لابدّ للمسلمين جميعاً أن يتحمّلوا مسؤوليّة الإسلام في ثقافته ليكون لهم العلم والمعرفة الإسلاميّة لكلّ ما شرّعه الله ولكلّ ما أوحى به الله سبحانه وتعالى ولكلّ ما بلّغه رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون هذا الشّهر الشّهر الذي يحيا فيه الإنسان حياةً روحيّةً وحياةً عقليّةً وحياةً إنسانيّةً {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال : 24].وهكذا، أن ينفتح الإنسان في هذا الشّهر ليكون شهر السّلام، ليُثبت المسلم في شهره هذا في صيامه في قيامه في ليله ونهارهللعالَم أنَ الإسلام هو دين السّلام، فالله جعل التّحيّة بين النّاس من المسلم إلى الآخرين كلمة “السّلام عليكم”، وقد ورد في الحديث أنّ للسّلام سبعين حسنة تسعٌ وستّون للمبتدىء وواحدة للرّادّ، وهكذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى أراد للنّاس في حياتهم الاجتماعيّة أن تكون تحيّتهم تحيّة السّلام وأن لا يستبدلوا بها غيرها كما يفعل بعض المسلمين الذين يختارون عن كلمة السّلام في التّحيّة كلمات أجنبيّة أو كلمات الصباح والمساء في هذا المجال.لقد أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن ننطلق لنتحرّك بكلمة السّلام حتّى نتدرّب في الدّنيا على هذه التّحية لننتقل إلى الجنّة وقد عشنا هذه التّحيّة لأنّ تحيّة أهل الجنّة هي السّلام {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس : 10]. وهكذا، نجد أنّ الملائكة عندما يستقبلون المؤمنين في الجنّة فإنّهم يستقبلونهم بكلمة ال “سلام”{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23-24]هكذا يخاطبنا الملائكة لا يقولون “صباح الخير” “مساء الخير” أو كلمات أجنبية، بعض النّاس يستحون أن يقولوا كلمة “سلام” يعتبرونها نقطة ضعف ويعتبرون الكلمات الأجنبيّة هي “تمدّن“.وهكذا أيها الأحبة، أراد الله سبحانه وتعالى لهذا الشّهر أن يكون شهر التّقوى التي يرتفع فيها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى ليكون قريباً منه، ولتكون إرادته إرادة الخير وإرادة الحقّ وإرادة العدل وليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى في إرادةٍ حرّةٍ ينطلق فيها من خلال إيمانه ومن خلال إسلامه ومن خلال خوفه من ربّه ومن خلال محبّته لربّه ومن خلال اتّباعه لرسوله في هذا المجال. إنّ القضيّة ليست فقط في أن تكون لك الإرادة ولكن لابدّ أن تكون لك الإرادة الخيّرة والإرادة المؤمنة والإرادة العادلة حتّى تكون الإنسان الذي يتحرّك في الحياة ليكون خيراً لنفسه وخيراً لعياله وخيراً لأهله وخيراً للنّاس من حوله وخيراً لدينه وخيراً للحياة كلّها. أيّها الأحبّة، في هذا الشّهر لابدّ لنا أن نتخفّف من الكثير من أحقادنا ومن اختلافاتنا، أن ننطلق في هذا الشّهر الذي هو شهر الإسلام ليلتقيَ المسلمون جميعاً على أساس الوحدة –الوحدة الإسلاميّة- لأنّهم جميعاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله وأنّ النّاس سوف يُبعثون إلى الله يوم القيامة، يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله..علينا أيّها الأحبّة، حتّى لو اختلفنا في مذاهبنا أو في فتاوانا أو في بعض أوضاعنا، أن نعمل على أساس أن ننطلق بالكلمة السّواء وبالكلمة الواحدة والإسلام الواحد لنكون قوّةً للإسلام في العالَم كلّه لأنّ العالَم المستكبر كلّه ولأنّ العالَم الكافر كلّه بدأ يخطّط ويستعدّ بكلّ ما لديه من قوّة وبكلّ ما لديه من سلاح من أجل أن يحارب المسلمين في دينهم ويحارب المسلمين في سياستهم وفي اقتصادهم وأمنهم في كلّ المجالات العمليّة هنا وهناك. لذلك، علينا أن نستعدّ لذلك كلّه لِنكون كما أرادنا الله {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 110] إنّ المسلمين لا يشكون قلّة العدد فإنّهم يزيدون على المليار وربّما يبلغون المليار والنّصف ولكنّ المشكلة أنّهم يختلفون فيما بينهم اختلافات مذهبيّة فهذا يكفّر ذاك وهذا يحقد على ذاك. ولذلك، فقد استطاع الاستكبار العالمي أن يُشغِل المسلمين ببعضهم البعض ويلقي الفتنة فيما بينهم، فالمسلم يقاطع المسلم، والمسلم يستحلّ قتل المسلم، والمسلم يدمّر حياة المسلم الآخر، هذا أمرٌ لا يرضى الله به وقد جاء عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) “أيها الناس لا ترجعنّ بعدي كفاراً يلعن بعضكم بعضاً ويضرب بعضكم رقاب بعض”، فالمسلم كلّ المسلم حرامٌ دمه وماله وعرضه ولا يحلّ مال امرىءٍ مسلمٍ إلا برضاه، وهكذا أيها الأحبّة لابدّ أن يكون المسلم هو مَن سلِم الناس من يده ولسانه.أيها الأحبة، استعدّوا للقاء الله في هذا الشّهر في الدنيا لقاءً يقترب فيه العقل والقلب والحياة من الله لِنكون القريبين من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة حيث ينطلق النداء {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر : 16] هل لهذا الزّعيم أو ذاك الزّعيم؟ هل لهذه الدّولة أو تلك الدّولة؟ ويأتي الجواب {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر : 16]. وحّدوا الله في كلّ حياتكم وانطلقوا من أجل رضاه ولا شيء إلا رضاه ففيه كلّ السّعادة وفيه كلّ الخير وفيه كلّ سلامة المصير. نسأل الله أن يوفّقنا لصيامه وتلاوة كتابه وللتوبة في لياليه ونهاره.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …