محمد طرّاف *
إنّه لمن المُستحسن أن يتريّث الإنسان في اتّخاذ بعض القرارات أو القيام بردِّ فعل على بعض الأفعال أو الأقوال، سواء كانت ذات أهميّة أو تافهة كالمتفوّهين بها، وبخاصّة إن كانت القرارات أو الكلمات دقيقة ويبقى أثرُها طويلاً وطويلاً جداً، ويُبنى عليها. كما ينبغي على الرساليّين توفير جهودهم وكلامهم وحتى لحظات تفكيرهم فيما ينفع وفيما جعلهم الله مسؤولين عنه، وعدم الدخول في الأخذ والرد وبخاصّة فيما كان كالشّمس السّاطعة في كبد السماء… إلا أن يُقيموا حقّاً أو يدفعوا باطلاً…
كان يجب أن أكتب هذه الكلمات منذ شهرٍ ونصف الشهر، أي في الذكرى السنوية الخامسة لرحيل المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رضوان الله عليه)، وما رافق هذه الذكرى – وكما في كلّ عام ومع كلّ مناسبة دينية أو تأريخية كان للسيد رأي فيها – من حملة مسعورة لرعاع جهلة حاقدين تقودها عمائم حاقدة مأجورة، وإن كانت هذه السنة اختلفت عن سابقاتها، لا بل ساوت مجموع عشرين عاماً مضت من الحملات. وإن كان هذا العام شهد جنوح هؤلاء إلى السُّباب وما حفظوه وحوته نفوسهم من الألفاظ النابية التي تليق بهم… لقد فقدوا أي حجة أو وسيلة – وإن كانت معدومة عندهم – ليواجهوا بها أفكار السيّد، فأصيبوا بحالة من الهيستيريا وفقدان الوعي لما يقومون به.
نعم، لم أكتب في ذكرى رحيل السيّد(رض) والتي جاءت في شهر رمضان المبارك، هذا الشهر المسمى بشهر الله، ويا لله لما يستحلّه عديمو الدين في هذا الشهر لمجرد الاختلاف في الرأي – وإن كانوا لا يملكونه – في مسألة فقهية لتحديد بدايات الشهور القمرية، فلم تفصل ذكرى السيّد عن عيد الفطر سوى أيام، فكنت أعلم مسبقاً وكالعادة بأنّ نار فتنتهم ستعود وتستعر وتشتد، وسيذهب كل أمرهم جفاءً…
وكنت أفضّل أن أكتب فيما ينفعني وينفع الناس، لا أن أكتفي بالرد على سفيه هنا ومضلَّلٍ هناك، فكما كان يقول السيد (رض)، لا وقت لدينا لنرد على أحد أو نضيعه في جدال أحد، فالساحة تنتظر من يملأها بما ينفع… ولكن لكي لا يتوّهم أهل الباطل أنّهم على حق، أو أن ينشأ جيل على أكاذيب وافتراءات، فمن الواجب أن نقدم قليل الحق الذي يُذهب كثير الباطل… وكذا من مبدأ {إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا} أرى لزاماً ووفاءً لمن علّمنا الإسلام كلّه والدين كلّه أن ندفع عنه ما استطعنا من البهتان…
قد تمرّ أعوام وسنوات لندرك بعض معاني الكلام، أو حقيقة بعض الأمور، وفي هذا العام فقط أدركت بعد هذه الحملات الحاقدة ماذا قصد السيد فضل الله (رض) بقوله للذين يختلفون معه: “حاولوا أن لا تحقدوا لأن الحقد يقتل إنسانيتكم وأنا أشفق على إنسانيتكم أن تُقتَل…” نعم أشفقت على هؤلاء، الذين يتخبطون بعمى قلوبهم، وأين سيرميهم الزمان لاحقاً جاثمين دون حراك…
ظنّ هؤلاء ومن خلفهم أنّ الموت سيريحهم من (عدوّهم) إلى الأبد ويتلاشى ذكرُه واسمُه فيمن ذهب وانتهى. ولكن عاماً بعد عام وكما في حياته، ظلّ السيّد يفاجئهم ويبهتهم، فظلّ السيد بفضل الله وحده الذي يرفع من يشاء، يسمو للعلا، فكلما حاصروا مريديه انتشر فكره، وكلما ضخّوا بهتانهم رفع اللهُ له ذِكره. فلقد أرادوا أن يضعوه فرفعه الله، وانقلب سحرهم الذي جاؤوا به ليسحروا به أعين الناس عليهم، وارتدوا خاسئين. وفي كلّ يوم وكل ساعة سيبقون هكذا ما دام ليس فيهم رجلٌ رشيد!!
ما كان يؤثّر في الماضي لم يعد ينفعهم ولو قليلاً، فلقد بنى السيد منهجاً بفضل الله، ورسم خطاً إسلامياً مستقيماً غير ذي عوجٍ بعون الله، ومن ارتاده لن تذهب به السُّبل بعد ذلك، والزمن لم يعد ذلك الزمن قبل عشرين عاماً، حيث كان السيد وحيداً فأصبح اليوم أمّةً تكبر كلّ يوم بإذن ربها..
لن نعيش السيد كظُلامة أو كمأساة ونحشره في قمقم الضعفاء، لأنّ هذا الفكر عصيٌّ على الموت كما تُثبت الأيام، وهو كالهواء ينتشر في كلّ أرض ويحيي كلّ العقول والنفوس، فهو السيّد العالمي الذي لا يحد فكره مكان أو زمان.
يبقى أمران يجب التنبيه إليهما:
الأوّل، لا بدّ من الوقوف وبشدة ضدّ تزوير التاريخ والحقائق، وضد سرقة الفكر وتبنّيه ونسبته لمن ليس أهلاً له، فليس من بذل عمره في سبيل الله ولم يخف في الله لومة لائم ليبيّن أحكام الله للناس، كمن جاء ليتبنى هذه الأفكار بعد أن شبع منها هدماً وتضليلاً طيلة حياة السيّد، بعد أن ثبتت صحّتها وأهليتها للحياة. لن يُبخسَ السيدُ حقَّه في التجديد، كيف لا وهو الذي جدّد في الدين من داخل الدين، ليظهره كما أراده الله ورسوله والأئمة من بعده. فبعض الزخارف التي يأتي بها البعض دون أساس متين لن تصمد أو تصلح للحياة.
ثانياً، هذا السيّد الذي كان كهف المقاومة منذ نشأتها، وحاميها في أكثر الأوقات شدة، والذي بذل كلّ ما لديه لكي تبقى منارة عزة وكرامة، ولم يسلمها حتى لحظاته الأخيرة، فإن غفل أو تغافل عن ذكره البعض أو حاول البعض الآخر إلباس ثوب العزة هذا لمن لا يليق به، أو حاول دس اسمه في سجل المقاومة والدفاع عنها، فإنّ التاريخ لن يرحمه لأنّ الوعي ملأ عقول المؤمنين، وتزوير الحقائق لم يعد ينطلي إلا على البسطاء. وسينصف التاريخُ السيدَ ويطوي الآخرين.
لأنّ هذا السيد (المظلوم) بعين الله وحده، وهو الذي يرفع الذين آمنوا ويؤتيهم الدرجات، ولأنّ هذا الرجل كان لله فالله كفيل به، فالله رفعه فلن يضعه أحد، والله كفيلٌ بفكره فلن يذهب جفاءً بل سيمكث في الأرض، فلا يُتعبنّ البعضُ نفسَه ويخلد للأرض متّبعاً هواه، ويذرّ بعض رماد الباطل في عيون الحقائق، لأن سير القافلة لن يوقفه أمثالُه…
والله من وراء القصد
* كاتب إسلامي
الوسومفضل الله
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …