هل تنطلق معركة تحرير الاقتصاد من الارتهان للخارج؟!

الدّكتور أنطون حريق

مقابلة مع العلامة #السيّدمحمدحسينفضلالله، يتشعَّب الحديث الاقتصادي لتتداخل فيه الأمور الدينيَّة والاجتماعيَّة وحتى السياسية، باعتبار أنَّ الاقتصاد ملتصق التصاقاً بتلك القضايا جميعاً.

ومع العلامة السيِّد، وفي حضوره، تشعر بأنَّك بحاجة إلى مزيد من المعلومات والتحليلات والمتوقّعات، وتحسّ بأنّ الوقت يمرّ مسرعاً.

“مال وأعمال” كان لها مع العلامة السيّد حوار ومداخلات في أوّل حديث اقتصادي يدلي به لمطبوعة، ويعلّق فيه على شؤون الساعة وشجونها وقضايا الشّرق والغرب…

من هذا المنطلق، كان لي مع العلامة السيّد لقاء، هو أشبه بجولة أفق عامّة منه بحديث، عرضنا عليه أفكاراً فردّ علينا بمثلها، استوضحته في نقاط معيّنة، فما تأخر عن الإجابة، وفي مطلق الأحوال، كان دائماً كما عهدناه في كلّ مواقفه السابقة، رجل دين يرفع بالاقتصاد إلى مستواه العلميّ، ولا ينزل به إلى درك السياسة، كما يمارسها السياسيّون عندنا.

طرحت عليه أسئلة عامّة أحياناً، وساخنة أخرى، وكان في الحالتين يردّ فلسفياً على الأسئلة، سواء تطرق إلى السياسة أو الاجتماع أو الدين، وهو يتحدّث في الاقتصاد.

لقد رسم لنا خطوطاً عامّة في كلّ ما يقول وما يريد أن يقول…خطوطاً هي أشبه بالقواعد الحسابيّة التي لا مجال للخطأ فيها. أما التفاصيل، فتركها لغيره، للبارعين في التقاط الأفكار وتوسيعها وتوضيحها.

الارتهان للدّولار؟!

سألته عن الاقتصاد اللّبناني الذي بات الدولار يتحكم به، حدثته عن خطورة اعتماد الدولرة في العمل التجاري المحلي، وفي كل القطاعات، قلت له: إن العلة الأساسية في اقتصادنا تتمثل بأوجه عديدة، أبرزها اثنان: الأول عدم قدرة المراجع النقدية في لبنان على المحافظة على ما هو ضروري من نقد أجنبي لتمويل حاجة لبنان من الواردات. والثاني حمى تقلبات قيمة العملة المحلية، وما ينتج من ذلك من تبخر لمدّخرات المواطن، تقلّبات يمسك بها عادة المقتدرون مالياً وأصحاب المؤسسات المصرفية وغيرهم، ثم لفته من ناحية، وهي إخراج التجارة الداخلية في لبنان من قبضة الدولار، لأننا بذلك نخرج ما لا يقلّ عن 95% من المتعاملين في سوق القطع، وخاصّة صغار المودعين منهم من هذه الدوّامة، لأنه بتجاهلنا هذا الحلّ، نكون قد ساهمنا في زيادة الضغط المعيشي على المواطن، ونقلنا القرار الاقتصادي في لبنان العالمي بواسطة الإخوة العرب، في كلّ مشروع تنوي الدولة إنجازه، كإعادة تعمير الوسط التجاري والدامور والقليعات، وتأهيل كهرباء لبنان.

من هنا ـ قلت للعلامة السيّد ـ يجب أن نخوض معركة إخراج الاقتصاد اللبناني من دائرة الارتهان للدولار، وهي معركة يجب أن تخاض بقرار قومي يساهم في اتخاذه أصحاب الشّأن، ولا سيّما منهم رجال الدين، وذلك بمنع التداول بالدولار، بل وبتحريم الدولرة، فهل مثل هذا التوجه الاقتصادي يلقى القبول لديكم؟

كان جواب العلامة السيد على مداخلتي هذه عامّاً، ولكنه كان جواباً واضح المعاني، قال لنا: إنّ لبنان عندما أسِّس أعطي له دور للتحرّك ضمن دوائر اقتصادية، ولمهمات معيّنة: اجتذاب الآخرين سياحياً وخدماتياً، واجتذاب الكثير من الأجهزة على مستوى أمني، لغايات سياسيّة بالدرجة الأولى مرتبطة بجغرافية لبنان وبعلاقات هذا البلد مع محيطه، وربما أبعد من هذا المحيط.

لهذا، يقول العلامة السيّد، اتّسم لبنان ببعض العناوين المميزة، كحرية الصحافة وحرية العمل السياسي، ومن هذه الحريّة، انبثقت الحالة الاقتصادية بوجهها الحالي المعروف.

إذاً، الاقتصاد، ولا سيما في العالم الثالث، ينطلق من السياسة وليس العكس، هو مرآتها، فبقدر ما يكون العمل السياسي عميقاً، بقدر ما يأتي الاقتصاد صورة عنه. وهذه بعض الأمثلة:

في بداية الثورة المصرية، انطلقت السياسة بشكل ارتجالي حماسي، فلم تلتفت إلى الزراعة التي هي العصب الحساب، وفي الجزائر كما في العراق، بقي الإصلاح الزّراعي هامشياً، ولذلك لم نجد فيهما، كما في دول عربيّة أخرى، نمواً اقتصادياً يمكن أن يحرّك السياسة باتجاهه، حتى النفط، فإننا نلاحظ أنه تحرّك اقتصادياً في سياسة الاستهلاك لا في سياسة الإنتاج، وهذا طبيعي وبديهي، لأن السياسة عندنا وفي الدول العربيّة لا تنطلق من قاعدة شعبيّة، وإنما تتحرّك برجال سياسة تقليديّين أو ناشئين بفعل عوامل وظروف معيّنة، وبذلك يفرغون العمل السياسيّ من محتواه.

قد تندفع انتفاضة شعبيّة هنا وأخرى هناك – يقول العلامة السيّد – وتكون عفوية، ولكن يأتي من يركب الموجة ويوجّهها بمسار آخر، كما حدث في انتفاضة 6 أيار الماضية، تماماً كما يحصل في الانقلابات العسكرية أو ما يسمّى بالثّورة في علم السياسة.

صحيح أن الدولرة تعني إسقاط العملة الوطنية من ذهن الناس، وربط الاقتصاد كلّه بالذين يتحكمون بالدولار في الخارج، إلا أنّ قضية تحريم هذه الدولرة ليست فتوى نطلقها وكفى، لا بدّ لك أن تكون واقعياً وأنت تخاطب الناس، ومنطقياً مع نفسك ومعهم، فإذا عرفنا أن طبيعة السياسة تحشر الواقع الشعبي في الزاوية لتقول له: “إنك بمقدار ما تملك من دولارات تملك استقرارك الاقتصادي، لأنّك عندها لن تعود تعيش تحت هزات المتعاملين الذين يتحركون في لعبة الدولار ولعبة اللّيرة”…

عندها لن تستطيع أن تقول فتوى أو أن تحرّم عملاً من هذا النوع، وخصوصاً في غياب الاستقرار السياسي والأمني، وبطبيعة الحال الاقتصادي، بمعنى أن مسألة التوعية يجب أن ترتبط بمفردات الواقع، أي أن الاتجاه الثوري والإصلاحي لا بدّ أن يتحرّك واقعياً.

فإذا قلت للمواطن إن الدولرة تأكل اقتصادك، وهو ما يؤدي إلى الكثير من المآسي، فإنه سرعان ما يطالبك بالوسائل التي يستطيع من خلالها أن يتجاوز هذه المسألة، وماذا تقول له والدّولة عاجزة عن فعل شيء على هذا الصعيد؟!

ثم إن الدولة عندما تستسلم لحركة الدولار، فتزيد الرواتب عشوائياً، وتزيد الصرف عشوائياً، فإنما توحي للمواطن بأنّ الدولار هو الذي يتحكّم بكلّ القرارات الاقتصادية، لأنك عندما تزيد راتب الموظّف على أساس حركة الدولار، فمعنى ذلك أنّ هناك إيحاءً بأنّ الدولار هو الأصل، وهو الذي يتحكم في علاقة الدولة بموظفيها ومشاريعها.

خذ مثلاً على ذلك: عندما تتعاقد الدّولة مع أي مقاول من أجل فتح طريق أو القيام بمشروع معيّن على أساس اللّيرة، ثم يتجاوز الدّولار السقف الذي كان موجوداً عند التعاقد، فإن الدولة تدفع الفروق بطريقة أو بأخرى على أساس الخطوط الاقتصاديّة في هذا المجال للمقاول، باعتبار أن حركة الدولار جعلت الأرقام المطروحة غير واقعية وغير عملية.

إنّ معنى ذلك أن الدولة تتحرّك دولارياً حتى وهي تشرع اللّيرة في رواتب الموظفين أو في المشاريع أو ما إلى ذلك… فكيف لك في هذا الجوّ وهذا الواقع أن تقود المواطن إلى زاوية معيّنة وتقول له: “إن مكانك هنا”؟!

عندما تريد من المواطن أن يعيش في مكان معيّن، فلا بدّ لك من أن تفتح له أكثر من نافذة ليتنفّس الهواء، ويعيش مع الضّوء، كي يستطيع أن يستمرّ.

لذلك، فإن النصائح والوصايا التي تقدَّم إلى المواطن، سواء بلغة دينيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، لا بد أن تركّز على أساس المفردات الواقعية التي تمكنه من احتواء هذه الوصايا وتطبيقها.

مساعدات الخارج ليست حلّاً

إذاً ما الحلّ؟ أيكون في خفض عدد موظّفي الدّولة؟ في الأداء الاقتصادي للحكومة؟ في وضع برامج معيّنة للتعامل بالدولار؟ أم ماذا؟

يستمع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله للسّؤال، ولا ينتظر طويلاً للإجابة، فيسارع إلى القول:

قد لا أكون من الناس الذي يملكون خبرة اقتصادية على الطريقة العلمية، لكنني أفهم أنّ الاقتصاد لا بدّ أن يرتكز على قاعدة؛ قاعدة البنية الاقتصادية التحتية التي تمثّل المشاريع الصناعية والزراعية في حقل الإنتاج، بالإضافة إلى المشاريع السياحية وما إلى ذلك، كما تنطلق هذه القاعدة من خلال طبيعة حركة الرأسمال اللبناني الذي يمكن أن يغذي هذه المشاريع ويتغذّى بها، لأننا نعرف أن لبنان غني بالإمكانات التي يملكها اللّبنانيون في بلاد الاغتراب، وحتى اللبنانيون في الداخل. ولكن المشكلة أنّ رأس المال اللّبناني يهرَّب إلى الخارج أو يتجمد بلحظة خطر، خوفاً من الاهتزازات الأمنية والسياسية.

ولهذا، فإن مجرد الأداء الاقتصادي الجيد للحكومة لا يمكن أن يحلّ المشكلة الاقتصادية بشكل كبير؛ إنه قد يخدّر المشكلة، فعندما تعزل عشرين ألف موظّف، تستطيع أن تحقق من خلال ذلك توفيراً في الميزانيّة، ولكنك لا تستطيع أن تحلّ المشكلة الاقتصادية إذا كانت المعامل معطّلة، والزراعة لا تتحرك ضمن خطة علميّة منتجة، أو إذا كان الجانب الأمني يتحرّك في وضع اهتزازي قد لا يكون حاراً، ولكنّه يثير القلق والحيرة.

المشكلة التي نواجهها الآن هي أنّ الحكومة اللّبنانيّة ركّزت كلّ حركة الحلّ للمشكلة الاقتصاديّة بالمساعدات الخارجيّة

ومن هنا، فإنك لا تستطيع أن تجتذب أصحاب الرّساميل الكبار من اللّبنانيين ولا من غيرهم إلى أن يعملوا في لبنان، فإذا لم ينطلق اللبنانيون من أصحاب الرساميل لتوظيف رساميلهم في لبنان، فكيف يمكن أن تغري أصحاب الرّساميل الأخرى لأن يأتوا ويوظفوا أموالهم في لبنان؟!

إنّ المشكلة التي نواجهها الآن، هي أن الحكومة اللّبنانيّة ركزت كل حركة الحلّ للمشكلة الاقتصادية بالمساعدات الخارجيّة.

في الوقت الذي لا نهوّن قيمة المساعدات، ولكن المسألة إنما هي في القاعدة الاقتصاديّة التي يملك البلد الكثير من ركائزها.

لهذا، أنا أتصوّر أنّ المسألة بحاجة إلى خطّة اقتصاديّة ينطلق فيها البلد من فكرة اللامساعدات الخارجيّة، بحيث إنّنا نعتمد على أنفسنا في ذلك، ولا أقول هذه الكلمة كشعار، ولكن كواقع، لأنّك عندما تظلّ في عمليّة تحديق بالمساعدات الخارجيَّة، فمعنى ذلك أنَّك سوف تكون خاضعاً لكلِّ ما يفرضه الخارج عليك إزاء هذه المساعدات، من قرارات سياسيّة وشروط أمنيّة لا تستطيع الوفاء بها.

مواطنٌ لا يُحترَم؟!

الإعلام الخاصّ المكتوب والمرئي والمسموع، يتحدّث في هذه الفترة بإسهاب عن وزير الاقتصاد الدكتور سمير مقدسي، الّذي جيء به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في وضعنا المالي والاقتصادي، والدّكتور مقدسي البروتستنتي المذهب والتربية، أميركي العلم والمعلومات، شخصيّة اقتصادية أكاديميّة.. هل لديكم تعليق على خطوة من هذا النّوع أقدمت عليها حكومة راعت في تركيبتها مبدأ 6 و 6 مكرَّر؟

إنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وانفعاليّ…

لا أتصوّر أن المشكلة في لبنان هي مشكلة نقصان الخبرة الاقتصاديّة، أو نقصان العلاقات الشخصية لبعض رجال الاقتصاد والسياسة بمواقع القرار الدّولي، لكنّ هذه الأمور قد تكون عنصراً تخديرياً يعطى المواطن ثقة فيما تعارف عليه المواطن من ربط المشكلة بالشّخص، بدلاً من ربط المشكلة بالمؤسّسة.

إنّني أتصوّر أنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وبسيط وعبيط وانفعاليّ واستعراضيّ، وأن من الممكن أن يضحك عليه حتى لو أدّى ذلك إلى أن يبكي.

لذلك، نجد في الانتخابات أنّ الذي يحكم علاقة المواطن بالمرشَّح، هو علاقة المرشَّح بالمواطن في أفراحه وأحزانه وخدماته الصّغيرة، لا علاقة المرشَّح بالوطن في حقوقه السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك.. هذه المساحة بين الدّولة وبين المواطن قد تكون مسؤولة عن كثير من مشاكل المواطن ومشاكل الدّولة.

  • مقابلة أجرتها مجلّة “مال وأعمال” مع سماحة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض)، بتاريخ 15 حزيران 1992م، العدد 27.

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …