ربما لا يعرف الكثير من الناس شخصيّة علي(ع) المفسّر ومنهجه المتميّز في تفسير آيات الله سبحانه وتعالى في القرآن. ومع الأسف، فإنَّ ما تركه (الشريف الرضيّ) لنا من هذا قليل جدّاً، ولكنّنا نريد أن نلتقط بعض هذه التجارب التفسيريَّة، فلعلّنا نستوحي منهجاً جديداً في التفسير يتجاوز الأسلوب التّقليديّ الّذي درج عليه المفسّرون.
خصوصيّات الذّاكرين لله
فمن بين الآيات الَّتي استوحاها الإمام عليّ(ع)، الآية الّتي تقول: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ}1، فلقد تحدَّث عند تلاوته هذه الآية، عن هؤلاء الرّجال الّذين يؤكِّدون ذكر الله، بحيث إنَّهم يعيشون هذا الذّكر في مواقع حياتهم كلِّها، فهم في تجارتهم يذكرون الله، وهكذا في بيعهم ومجالات حياتهم الأخرى، فالله تعالى لا يغيب عن وجدانهم في أيّة حال، فذكر الله هو الأهمّ عندهم، ومن هنا، فلا يبتعدون عنه في أيّ شأنٍ من شؤون الحياة، حتى تلك الّتي تتَّصل بأوضاعهم الخاصَّة.
ويؤكِّد الإمام(ع) في هذه الخطبة خصوصيّتين للذّاكرين:
الخصوصيّة الأولى، الذّكر الَّذي ينفتح على إحساس الذاكر بمسؤوليَّته عن معرفة الناس بالله، وعن انفتاحهم عليه ودعوتهم إليه، فالذّاكر لا يعيش الذّكر مجرَّد حالة ذاتيَّة تجعله يذكر الله في لسانه، ولكنَّه ينطلق من هذا الذّكر الّذي يجعل الله محور رسالته، وحاضراً في مواقع عظمته ونعمته وفي امتداده في الكون كلّه، وفي وجدان النّاس، بحيث يتمثّلونه في كلّ وعيهم الفكريّ وحركتهم العمليَّة.
ثم يتحدَّث الإمام(ع) في الخصوصيَّة الأخرى عن شخصيَّة الذاكر في ذكره لله، أنه يملأ كلّ شخصيَّته بالله، إن في عقله أو قلبه أو حياته، أو انفتاحه على المصير فيما أراده الله للإنسان من جنّة أو نار، تبعاً لطاعته أو معصيته، بحيث يعيشون آفاق الآخرة كما لو كانوا يتحسَّسونها في الدنيا.
ومن هنا، نعرف ـ أيّها الأحبَّة ـ أنَّ الإمام يريد أن يقول لنا إنَّ الذّكر ليس كلمة، بل إنّه وعي لله، بحيث لا يغيب عن عقلك ولا عن قلبك ولا عن حياتك، كما أنّه يمثّل حركتك في الدّعوة، لتكون الذّاكر لله في حياة النَّاس، من أجل أن يرتبطوا بالله من خلال ذلك. فالذّكر هنا هو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(الذّكر ـ الدّعوة)، الَّذي يجعلك تتحرّك كداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فتذكره في دعوتك للنّاس بأن يؤمنوا ويرتبطوا به.. و(ذكر الممارسة) الّذي يجعلك تعيش ذكر الله في داخل ذاتك، لتمتلئ كلّها بالله. وعلى ضوء هذا، يمكن أن نقسِّم ذكر الله من قبل الذّاكر إلى قسمين: الذّكر الذي يتحرّك في خطِّ الدّعوة، والذّكر الّذي يتحرّك في خطّ بناء الشخصيّة وانفتاحها على الله، ولعلّ هذا هو ما يتمثّل في كلمة الإمام عليّ(ع).
الذّكر جلاء القلوب
فتعالوا نتابع عليّاً(ع) في هذا الكلام الذي قاله عند تلاوته: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ}، “إنّ الله سبحانه جعل الذّكر جلاءً للقلوب”2، فدور الذّكر هو أن يزيل صدأ القلب، فكما ورد عن رسول الله(ص): “إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد”3، فهو يتحدَّث عن الصّدأ من خلال الذّنوب الّتي يرتكبها الإنسان، وما يحيط به في أشغاله وأوضاعه في الحياة وتعقيداتها الّتي تمنعه من الانفتاح على مواقع النّور والصّفاء وينابيع النّقاء، فيصدأ قلبه، فإذا عاش الإنسان ذكر الله في قلبه، فإنَّ هذا الذِّكر يتحرّك ليزيل كلّ صدأ عن هذا القلب الّذي يصدأ عندما يغيب ذكر الله عنه.
“إنَّ الله سبحانه جعل الذّكر جلاءً للقلوب، تسمعُ به بعد الوقرة”، والوقرة هي الثِّقل في الأذن، أي يكون الذّكر وسيلةً من وسائل السَّمع، لأنَّ للقلوب آذاناً تسمع بها الأحاسيس الّتي تمتصّها، والمشاعر الّتي تنبض بها، مما يستوحيه القلب مما يحيط به، فقد تمرّ على القلب حالات لا يسمع بها بسبب الرّنين والطّنين الذي ربما يحلّ في الأذن فيمنعها من السّماع، ولذا يقول تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}4، فالوقر إذاً هو الضّجيج الذي يحصل في داخل الأذن فيحجبها عن السّماع، ويأتي الذكر ـ كما يقول الإمام ـ ليفتح أسماع القلوب بعد أن يمتنع السَّمع عليها.
“وتبصر به بعد العشوة”، فالقلوب لها أبصار، والله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}5، وقد يعمى القلب وقد يبصر، فالذّكر يأتي ليعطي القلب هذا البصر المعنويّ بعد أن يُصاب بالعشوة، وهي ضعف البصر، والمراد بها هنا منع القلب عن الرّؤية.
“وتنقادُ به بعد المعاندة”، وقد يتسلّط العناد في القلب جرّاء حركة الشّيطان في داخل قلب الإنسان ليحجب عنه رؤية الحق ويملأه بالباطل، فيعاند الحقّ عند ذلك ويمنعه من أن يفكّر ويعي الأشياء، فإذا عاشت القلوب ذكر الله، وكانت في حالةٍ من العناد من خلال ما يغرسه الشّيطان فيها من الباطل، وما يغلقه عنها من الحقّ، فإنَّ ذكر الله يؤدّي إلى انقياد القلوب للإيمان وللحقيقة.
وعلينا أن نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ أنّ المراد بالقلب في القرآن ليس هو هذا العضو المادّي الذي يسمّى بـ(القلب الصنوبري)، بل المراد منطقة الوعي الذي يشمل العقل والإحساس والشعور، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}6، أي أنّ له وعياً للأشياء، إن من خلال التّذكير أو العاطفة.
مناجاة الله للعبد
“وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البُرهة بعد البُرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم”، فبعد أن تحدَّث عن الذّكر تحدَّث عن الذّاكرين، فقال إنّ لله ـ بين وقت وآخر ـ رجالاً يناجيهم في فكرهم، وهذا هو من أدقّ التّعابير، فمناجاة الله للإنسان في فكره، هي بما يلهمه سبحانه من إلهاماته، فكأنّه يحدّثهم وهم يستمعون إلى حديثه.
“وكلّمهم في ذات عقولهم”، من خلال ما أودع في تلك العقول من أفكارٍ وأحاسيس ومشاعر، فكأنّه يكلّمهم في ذلك، “فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع والأبصار والأفئدة”، بأن ألهمهم ذكره ومعناه وعظمته وامتداد صفته وما يملأ قلوبهم بالنّور، فأصبحوا في نور يقظة تستيقظ به أسماعهم فتسمع الحقّ، وتتفتح به أبصارهم فتتحرّك البصيرة فيها، وتنفتح به أفئدتهم وهي مناطق الوعي في داخلهم لتعي حقائق الأمور.
“يذكّرون بأيّام الله”، وهذا هو الذّكر المزدوج، وهو أن يذكر الله فيذكِّر به، وأيّام الله هي الأيّام الّتي يعيش الإنسان فيها كلّ ما يتَّصل بالله سبحانه وتعالى في آلائه ونعمائه ومواقع عظمته وغضبه وسخطه، “ويخوّفون مقامه”، أي يخوّفون النّاس من مقام الله سبحانه وتعالى، من خلال ما يتحدّثون به من سخطه عند المعصية، وما يثيرونه في نفوس النّاس من مواقع العظمة.
“بمنزلة الأدلّة في الفلوات”، فدورهم الإصلاحيّ والتّذكيريّ والتبليغيّ هو دور الأدلاّء في الصّحارى، ففي صحارى الضّلال والضّياع، يتحركون ليرشدوا النّاس إلى الطّريق التي تؤدّي إلى الله.
“من أخذ القصد، حمدوا إليه طريقه، وبشَّروه بالنّجاة، ومن أخذ يميناً وشمالاً، ذمّوا إليه الطّريق، وحذَّروه من الهلكة”، فعندما يتحرّكون في السّاحة، ويرون إنساناً يميل يميناً وشمالاً، وذلك كناية عن الانحراف عن الخطّ المستقيم، فإنّهم لا يقفون موقف الحياد، ليقولوا: ما همّنا إن ضاع فلان أو انحرف! بل يتحسّسون مسؤوليّتهم عن كلّ إنسانٍ منحرف، ليبيّنوا له أنّ هذه الطّريق التي يسير فيها، هي طريق تؤدّي إلى المشاكل في حياته وإلى التّعقيدات في أوضاعه كلّها.
“وحذّروه من الهلكة”، يحذّرونه من أنّه إذا سار في هذا الطّريق، فستواجهه أوضاع الهلاك في نهاية الطّريق أو في أثنائه، “وكانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات”، وإذا عاشوا في الظّلمات التي يتحرّك فيها الباطل والظّلم والاستكبار، كانوا المصابيح الّتي تضيء الطّريق في تلك الظّلمات، وتشير إليهم أن الحقّ هنا والعدل هنا والخير هناك.
“وأدلّة تلك الشبهات”، فإذا عاش الناس بعض الشبهات التي تجعلهم متحيّرين متردّدين في فهم الحقّ، كانوا الأدلّة لحلّ تلك الشّبهات وإيضاحها.
أهل الذّكر
“وإنَّ للذّكر لأهلاً أخذوه من الدّنيا بدلاً”، فليس كلّ ذاكرٍ لله بلسانه هو من أهل الذّكر، بل إنَّ أهل الذّكر هم الَّذين جعلوا ذكر الله في عقولهم وقلوبهم وألسنتهم وحياتهم بدلاً من الدّنيا.
“فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه”، فحتى في تجارتهم يذكرون الله، حتى لا تكون تجارة باطل، ويذكرون الله في بيعهم، حتى لا يكون بيعاً حراماً.
“يقطعون به أيّام الحياة”، ففي كلّ هذه الأيام الّتي يعيشونها ذكر لله، “ويهتفون بالزواجر عن محارم الله”، فيحاولون أن يعيشوا مع الناس ليهتفوا بهم عما يردعهم ويزجرهم عن ارتكاب ما حرّم الله سبحانه وتعالى، “في أسماع الغافلين”، لأنَّ النّاس قد يغفلون عن الآخرة وعن ذكر الله، فيرتكبون المحرّمات من خلال الغفلة، لكنَّهم ينطلقون من أجل أن يهتفوا في أسماع الغافلين، ليقرّبوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
“ويأمرون بالقسط”، إذا رأوا النّاس قد أخذوا بأسباب الظّلم، “ويأتمرون به”، فهم لا يريدون للنّاس أن يظلموا بعضهم بعضاً، كما أنهم يأمرون أنفسهم بأن لا يظلموا أحداً، “وينهون عن المنكر”، في كلّ ما حرَّمه الله، “ويتناهون عنه”، فهم لا يتناهون عن المنكر ويفعلونه، بل ينهون عنه ويتناهون عنه.
“فكأنَّما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة وهم فيها”، فهم يعيشون في الدّنيا في أجسادهم، ولكنّهم يتحركون فيها كما لو كانوا يعيشون في الآخرة، فكأنما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة، “فشاهدوا ما وراء ذلك”، أي أنهم عندما انطلقوا في التّفكير في الآخرة، فكأنهم شاهدوها على الطّبيعة، “فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ”، أي الفاصل بين الدّنيا والآخرة فيما فيه من جنّة وما فيه من جحيم، “في طول الإقامة فيه، وحقَّقت القيامة عليهم عداتها”، أي ما وعدهم الله فيها، “فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا”، فحدّثوهم عمّا في الآخرة، “حتى كأنهم يرون ما لا يرى النّاس، ويسمعون ما لا يسمعون”، لأن روحية الذكر في نفوسهم، جعلتهم يرون ما لا يرى النّاس، لأنّ الإنسان عندما يعظّم ذكر الله في قلبه، فإنّه يتوجّه إلى كلّ ما عند الله سبحانه وتعالى.
محاسبة الذّاكرين لأنفسهم
“فلو مثَّلتهم لعقلك”، أي لو أردت أن تتصوّر هذا النّموذج من الذاكرين، “في مقاومهم المحمودة”، أي في مقاماتهم، “ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم”، أي عندما يجلسون في مواقعهم ومجالسهم، فإنهم يعيشون كما لو أنهم نشروا دواوين أعمالهم كلّها.
ففي كلّ يوم، يحاول أحدهم أن يفتح صفحات عمله ليتساءل: ماذا عملت في الماضي؟ وماذا عملت في الحاضر؟ وماذا سأعمل في المستقبل؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}7، فهم دائماً في ذكرٍ لما أسلفوا من عمل، ولما يمارسونه الآن من العمل، “وفرغوا لمحاسبة أنفسهم عن كلّ صغيرة وكبيرة”، أي لا يغفلون عن أنفسهم، ولا يتركون ما عملوه للضّياع، بل يحاول أحدهم أن يحاسب نفسه في دنياه ماذا عمل من صغائر الذّنوب وكبائرها، وماذا عمل من صغائر الطّاعة وكبائرها، حتى يعرف نفسه، ويعرف ماذا يقبل عليه غداً قبل أن يقدَّم إليه كتابه: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}8، ولذلك، فهو يقرأ في كتاب أعماله في الدّنيا، ليعرف كيف ينقّح كتابه، وكيف يزيل منه السّواد والسيّئات كلّها، بالتوبة وبالإقبال على الله سبحانه وتعالى.
“أمروا بها فقصَّروا عنها، أو نهوا عنها ففرَّطوا فيها، وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم”، وهو كناية عن السيِّئات، فوجدوا التّقصير من أنفسهم، ولم يحمّلوا ربّهم هذا التّقصير، بل تحمّلوا مسؤوليّة ما جنوا، “فضعفوا عن الاستقلال بها”، أي أدركوا صعوبة ذلك، فالّذي يرى ظهره مثقلاً، وأنّ طاقته لا تتحمَّل هذا الثّقل، فكيف يعمل؟ إنّه يحاول إزالة هذا الثّقل عن ظهره ليتخفَّف، فما هي الوسيلة الّتي يعمل بها هؤلاء من أجل أن يزيلوا هذا الثِّقل عن ظهورهم؟
“فنشجوا نشيجاً وتجاوبوا نحيباً”، ونقول نشج الباكي إذا اختنق بعبرته، وتجاوبوا به، يعني أجاب بعضهم بعضاً بالنّحيب، وهو رفع الصّوت بالبكاء، أي أنهم جلسوا في جلسة توبة واستغفار، يبكون من خشية الله، بحيث يجيب بعضهم بعضاً.
“يعجّون إلى ربّهم من مقاوم ندم واعتراف”، أي يصيحون من مواقف الندم والاعتراف بالخطأ.
وهنا يأتي الجواب: فلو مثَّلتهم لعقلك، فماذا ترى؟ “لرأيت أعلام هدى”، أي رأيت في هذه النّماذج الإنسانيّة أعلام هدى، باعتبار أنهم يعيشون الهدى في أنفسهم ويحرّكونه في نشاطهم، “ومصابيح دجى”، لأنهم عاشوا نور الإيمان والمحبّة لله والإحساس بعظمته ونعمته، ولأنّ الباطل والشّرّ زال عن كيانهم، فكانوا نوراً كلّهم.
الذَّاكرون محفوفون بالملائكة
“قد حفَّت بهم الملائكة”، لأنهم يقولون للمؤمنين في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}9، فمعنى ذلك أنَّ الملائكة تتنزَّل على المؤمنين في الدنيا، كما تتنزَّل عليهم في الآخرة، وتزورهم أيضاً هناك، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}10.
“وتنزَّلت عليهم السَّكينة”، لأنهم أصحاب النّفوس المطمئنَّة، “وفتحت لهم أبواب السَّماء”، لأنَّ أدعيتهم ومناجاتهم وابتهالاتهم ترتفع إلى السَّماء، “وأعدَّت لهم مقاعد الكرامات في مقامٍ اطّلع الله عليهم فيه”، فرأى كيف يعبدونه ويذكرونه ويدعون إليه، “فرضي سعيهم، وحمد مقامهم، يتنسَّمون بدعائه روح التَّجاوز”، أي يستروحون رائحة العفو، “رهائن فاقة إلى فضله”، فهم يعتبرون أنفسهم من قبيل الرّهائن الّذين يحتاجون ما ينزله الله عليهم من فضل، “وأسارى ذلّة لعظمته”، أي أنهم يعيشون الذّلّ مع الله أمام إحساسهم بعظمته، “جرح طولُ الأسى قلوبهم، وطولُ البكاء عيونهم، لكلّ بابٍ رغبة إلى الله منهم يدٌ قارعة”، فهم في كلّ الرّغبات الّتي يرغبون فيها إلى الله برحمته وعفوه ومغفرته، يدقّون كلّ باب رغبة بعض عطايا الله، “يسألون من لا تضيق لديه المنادح”، جمع مندوحة وهي السّعة، أي من تتّسع لديه كلّ الفرص، ولا يضيق عليه أيّ عطاء، “ولا يخيب عليه الرّاغبون”.
“فحاسب نفسك لنفسك”، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}11، فحاسب نفسك لمصلحة نفسك، “فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك”12، فلا تشغل نفسك بحساب غيرك: ماذا فعل فلان؟ وماذا جنى فلان؟ لأنَّ الأنفس الأخرى لها محاسب غيرك.
وهذا هو المنهج التفسيريّ الّذي يستوحي فيه الإمام من الآية: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ}، حيث يجعل مسألة الذّكر تشمل حياة الإنسان كلّها ونشاطه كلّه، وما يتعلّق بالله مع الآخرين ومع نفسه، وعلينا أن نعيش ذلك كلّه لنكون من هؤلاء الرّجال الّذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}13.
الذّكر في شهر الله
هذا هو حديث عليّ(ع)، ونحن مقبلون على شهر الله، وعلى ذكر الله في هذا الشّهر الذي أرادنا الله سبحانه أن نذكره فيه بعقولنا لتكون عقول الحقّ، وبقلوبنا لتكون قلوب الخير، وبعملنا ليكون عمل العدل، هذا الشّهر الّذي أراد الله لنا أن نذكره فيه بكتابه، بأن نقرأ كتابه قراءة تدبّر وتأمّل، وقد عظَّم الله هذا الشّهر بأن أنزل القرآن فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}14 فكان شهر الهدى وحركة البيِّنات الّتي تقود النّاس إلى الهدى وإلى الفارق بين الحقّ والباطل، وأرادنا أن نجلس إليه لندعوه ولنبتهل إليه ونزداد قرباً منه، لنتحدَّث معه عن همومنا كلّها وآلامنا كلّها وأحلامنا كلّها وقضايانا كلّها، لنتحدّث إليه ونطلب منه أن يجعل قلوبنا خالصةً له في كلّ ما أرادنا أن نعيشه من الإخلاص له والإيمان به والطّاعة إليه.
وأرادنا ـ في هذا الشّهر ـ أن نذكره بصلاتنا، لنصلّي إليه أكثر مما نصلّي في أيّ شهر آخر، حتى يكون شهر رمضان شهر الموسم الّذي روي عن رسول الله(ص) أنّه قال: “شهرٌ دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله، وجُعِلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّاتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشّقيّ ـ وهذه كلمة كبيرة جدّاً ـ من حُرِم فيه غفران الله في هذا الشّهر العظيم”15، لأنّه موسم الطاعة والرّحمة والمغفرة والرجوع إلى الله.
ولذلك ورد في حديث علي(ع) عندما جاء عيد الفطر ورأى الناس يتحركون هنا وهناك محتفلين به، قال: “إنّما هو عيدٌ لمن قبل الله من صيامه وشكر قيامه، وكلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد”16، فشهر رمضان هو شهر الطّاعة لله، والعيد هو عيد السّعادة بهذه الطّاعة، ولذلك يمكن أن نجعل كلّ أيامنا أعياداً إذا كنّا نحصل على رضا الله في هذا العيد وذاك العيد. فتعالوا ـ أيّها الأحبّة ـ لنعيش عيد الطّاعة، وعيد الإيمان، وعيد المحبّة، وعيد العدل، وعيد الخير، وعيد الإسلام في حياتنا كلّها، حتى ننطلق إلى الله سبحانه وتعالى ونسمع تلك الهمسة الحبيبة في آخر لحظات الحياة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}17، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}18.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 25 شعبان 1419هـ/ الموافق: 12 – 12 – 1998م.
1 [النور: 37].
2 نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 211.
3 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 32، ص 349.
4 [الأنعام: 25].
5 [الحج: 46].
6 [ق: 37].
7 [الحشر: 18].
8 [الإسراء: 14].
9 [فصّلت: 30، 31].
10 [الرّعد: 23، 24].
11 [الحشر: 19].
12 نهج البلاغة، ج 2، ص 211 ـ 213.
13 [النّور: 37].
14 [البقرة: 185].
15 وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 10، ص 313.
16 نهج البلاغة، ج 4، ص 100.
17 [الفجر: 27 ـ 30].
18 [المطفّفين: 26].
المصدر: بينات