نعم لشعرك ولا لسياستك

نصري الصايغ

تاريخ المقال: 29-11-2014 01:47 AM
الشاعر الذي ملأ قرنا، ينتمي إلى الأسطورة، أو يتشبَّه بأعمدة الكاتدرائيات وعقود الهياكل. صنع الشعر وفاض. نبع خاص، وماؤه من مرمر الكلام. يَدينُ بالجمال ويوحِّد اللغة به. الشاعر الذي قبض على الغابر فأحياه، سما بالحاضر إلى مقام التمثال المنحوت بإرادة الخلق، وقاس المستقبل بسحابة الشعر.
الشاعر الذي ملأ قرنا، ترهبنَ للجمال. الجمال عنده عبادة، وشاء للغة أن تكون إلهة جمال، فكانت. حلّق، وما دنا من أحد أو اقتبس. من فوقه المترامي، طلب أن يرتفع القارئ إليه. وهو، إن ارتقى، أصيب بالدهشة وأغراه فن، احترف الاختصار وأجاد بالإشارة والالتباس والسحر، إلى المكمن.
الشاعر الذي ملأ قرنا، كان وحيداً، لا سلالة له لا من قبل ولا من بعد. انفصل عمن جاء قبله. لا نجد عنده شيئاً من الأخطل الصغير أو شبلي الملاط أو رواد الرومنطيقية التقليديين الحزانى. سحره منه، لغته صنعه، غزله غناء، ومجده من كوكب آخر، يضفيه على عابرات الزمان. من الأسطورة جاء، وإلى قاعات الرخام أدخل الشعر، فبات متحفاً ولو بارداً. فالشعور مفسدة للشعر.
هذا الشاعر الذي ملأ قرنا، جاء من كلاسيكية مخضّبة بالبلاغة، «بنت يفتاح» و»المجدلية» و»قدموس»، باقة قدمت تجربة لمسرح شعري كان مات في موطنه الغربي. سعيد عقل أحيا الشعر وطوَّعه ومرَّنه على خشبة المشاهد. مات المسرح ولم تمت قصائده التي خط فيها بريشته طريقاً ما ارتاده سواه. طريق صنيعة إبداعه، وما أنجز احد مثله.
هذا الشاعر الذي ملأ قرنا، خرج من صرامة الفضائل والسمو، ليبدع غزلا، تجد فيه السحر والسوسن والوردة وكأس الخمر وتنهيدة العبارة. كأنه ليس صانع «بنت يفتاح». وهو في هذا، قد أخضع العقل لتجربة الإبداع الفني. طوَّع العقل، لكنه ظل عقلاً. صفّى الكلمة من لواحقها لكنها ظلت شعراً وفيض سحر. طاف في الحضارات والمدنيات حتى بلغ القدرة على تأويلها والتلاعب بها وفق ما يفرضه الإبداع وتجديد الرؤيا.
هذا الشاعر كان مكتفياً باللغة. اللغة كتابه وفضاؤه. انتقى منها مفردات، اختص باستعمالها. قاموسه قليل، وشعره من هذا القليل كثير. غير أن ما يُفتقد في شعره، هو الناس. لا ناس ولا بشر في شعر سعيد عقل. هؤلاء، كما يظن، لا يستحقون هذا السمو الفني. أو، كأن الناس، في مشهد اللغة، يسيئون إلى الجمال. جماله، والمجد عنده، خاليان من نبض الناس وأحاسيسهم ومشكلاتهم ومصائرهم… هو في عليائه يعيش نعيماً، والناس في ما دونه يعيشون بؤسهم، ولا يهتم.
انفصاله عن البشر سر ابتداعه عالما لا يعيش فيه غير الأبطال. لهذا، قال مراراً: لن أموت. كان مستعداً ليعيش قرناً إضافياً. وفي محادثة عن سرديته الحياتية والشعرية قال: «أنا أول الشعراء (القلة) في العالم» و»معلم الشعر للكبار» يكفي ان يقول ذلك، حتى يصبح هو كذلك، و»شعري يتفوق على شعر المتنبي وغيره، وهو أعمق منه». فهو ليس الشاعر إذاً، بل هو الشعر كله. وإذا تواضع قال: «إلا قليله».
هذا الشاعر الذي ملأ قرنا، لم يكن سهلاً وذا سيرة عادية. كان إشكالية دائمة. عندما خرج من الشعر إلى السياسة والوطن والحضارة والفلسفة واللغة ككائن متصل بالحياة (اللغة المحكية)، بات إشكالية تحمل التناقض الفج.
خرج من الشعر إلى السياسة فخاب. التحق ولم يلتحق به أحد. قاتل بلغة مالت إلى عنصرية. لبنانه، بعدما كان في شعره، أخاً للشام، صار معادياً. لبنانه الذي جعله فينيقياً، ومن ثم أماً للعالم، (كما في كتابه «لبنان ان حكى»)، اختصره في طائفة وخندق وزقاق ومنشور يحث على الكراهية والقتل… شيء من الجنون ينتاب القارئ والمتابع والمعاين، كيف لهذا الجنون الشعري الخلاق والإبداع الفني الراقي، أن يقترب من لغة الأزقة، ويحث على الكراهية. لم ينزهه شعره المنزّه، عن غزوة العصبية في ذروة انحطاطها الأخلاقي والإنساني.
أن يكون شاعراً مفرداً وفريداً، فهذا ما حازه بجدارته. وأن يكون داعية لجعل لبنان وطناً مُصَفَّى من بعض أحيائه وناسه وعروبته وشامه وفلسطينه، فتلك من حبائل السياسة ومن تعبيرات البيئة التي غلبت الشاعر والعاقل. فليته ظل هذا المجنون الذي أضاف إلى بعلبك بعضاً من أعمدة شعره. ولقد قيل فيه، إن بيتاً من شعره، أكبر من بحور الشعر.
نترك لغيرنا تفسير هذا الانفصام المذهل، بين تغنيه بدمشق وتخليه عنها. غناها وقال فيها:
«وأنا لو رحتُ أسترضي الشذا
لانثنى لبنان عطراً، يا شآم
قل لذاك الليث في آجامه:
واحد نحن إذا الشامُ تُضام».
(والمقصود بالليث: سلطان باشا الأطرش الذي قاد ثورتين ضد الفرنسيين)
ويكمل:
ظمئ الشرق فيا شام اسكبي
واملإي الكأس له حتى الجمام
من أنا؟ أغنيةٌ لم تكتمل
رُصِدَت… إلا إذا كنتِ الختام.
من حق الشعراء أن يتناولوا السياسة وأن يسوسوا، إنما الطلاق الذي أحدثه سعيد عقل، بين شعره والسياسة، جعل شعره الرائع يبدو كأنه يتيمٌ…
أما موقفه من إسرائيل، من العدوان الصهيوني على بيروت واجتياحه ثلثي لبنان، فيستحق الخجل، ان لم نقل أكثر.
من قال في علي بن أبي طالب كلاماً نبوياً من شعره، يصير شعراً طافراً منه. فكيف لمن كان ابنه سيد الشهداء، والذي قال فيه سعيد عقل، رائعته «كلامي على رب الكلام»، ان يبقى على نقائه وجماله وصدق ما تجلى فيه من قيم؟
نختم بما قاله عن علي:
وكانت إمامات وكانت مطارحٌ
محط نزول الله أو يقرب القرْبُ
ومن لا يحب البيت، سيفُ عليِّه
جميل، وذاك النهج كوثره عذبُ؟
أن تحب شعر سعيد عقل، فهذا من نِعَم الفن. أن تنأى عن سعيد عقل السياسي فهو من نعمِ الحفاظ على الشعر، والانتماء إلى الناس والقضايا.
يغيب سعيد عقل… سنحتفظ بالشعر منه. فهو منه لنا. ولن نحتفظ أبداً بسيرته السياسية. لأنها منه وضدنا. وعذراً إن قيل هذا الكلام في هذا المقام، فهو أقل مما يجب أن يقال في غير مقام الرحيل.
كنت أحب شعره وأرفضه. وليس هذا من قواعد الشذوذ والتناقض. ناديا تويني التي أحبت الروائية الفرنسية نتالي ساروت لم يمنعها ذلك من كتابة نص نقدي وقاس لساروت بسبب موقفها الداعم لإسرائيل. وهذا ما يمكن أن يقال في يوجين يونيسكو، ذي الموقف العنصري من الفلسطينيين والمسلمين، وما يقال في جان بول سارتر.
خطيئة الشعر جميلة بل رائعة. أما خطيئة العنصرية فلا يمكن احتمالها أو السكوت عنها.

السفير

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …