من التقوى

من التقوى، الاعتبار مما حدث في أيام رسول الله(ص)، حيث يُروى أنَّ شأس بن قيس، وهو حبر من أحبار اليهود، مرَّ يوماً على جماعة من الأوس والخزرج، وهم يتبادلون الحديث ويتسامرون، فغاظه ما رأى بينهم من محبة وألفة ووئام، وقال لنفسه: “والله، ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار!”. ثم قال لشاب من شباب اليهود: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث (وهو اسم حرب وقعت بين الأوس والخزرج في الجاهلية)، وأنشدهم بما كانوا يتقاولون من الأشعار، فذهب الشاب اليهودي، وجلس بينهم، ونفَّذ ما أمِر به، فأثار النزاع بين القوم، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يتنادوا: السلاح السلاح، القتال القتال…
ولما وصل الخبر إلى رسول الله(ص)، خرج إليهم مسرعاً ومعه جماعة من المهاجرين، ووقف بينهم قائلاً: “يا معشر المسلمين، الله الله.. اتقوا الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟!”.
كانت كلمات رسول الله كافية كي يعود هؤلاء إلى إيمانهم، ويندموا على ما صدر منهم، ويدركوا أن ما حصل معهم هو نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من مكائد اليهود، فتعانقوا وهم يبكون. وعندها، نزلت الآيتان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
أيها الأحبة، هذا المشهد يتكرَّر دائماً في واقعنا، عندما يدخل المغرضون على خط الخلافات التاريخية أو العقائدية أو الفقهية أو السياسية، ليثيروا الحساسيات والعصبيات والفتن الطائفية والمذهبية والسياسية بين الناس. ومع الأسف، يجدون عندنا أرضاً خصبة لذلك، فكل ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من توترات، يشير إلى مدى قدرة هؤلاء على استباحة واقعنا.
أيها الأحبة، قد لا يكون رسول الله بيننا حتى يسارع إلى وأد الفتنة، كما حصل بين أتباعه ومحبيه، ولكن كلمات رسول الله ووصاياه ومواقفه، لاتزال حاضرة، وعلينا أن لا ننساها وسط ضجيج العصبيات فينا، فبذلك يسلم واقعنا، ونصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …