مقام السيدة خولة في “بعلبك ” – حقيقة أو وهم؟

للعلامة الشيخ حسين الخشن 

في مدخل مدينة “بعلبك ” وفي جوار قلعتها الشهيرة يرتفع مقام يحمل اسم “خولة بنت الامام الحسين عليه السلام”،وقد كان هذا المقام في السابق عبارة عن غرفة صغيرة يؤمّه بعض الناس من “بعلبك”ومحيطها ،الا انه في السنوات الاخيرة سعى بعضهم الى توسعة المقام واعادة بنائه على طراز جميل وحديث كما هي طريقة بناءالمقامات الدينيّة المنتشرة في العراق وايران وغيرهما ،ولا تزال اعمال التوسعة قائمة الى اليوم. وعلى بعد امتار من هذا الضريح شجرة سرو (وقيل: لزّاب)قديمة العهد ،قيل :ان محيط جذعها ثمانية امتار ،وكان الناس يأخذون بعض اغصانها او اجزائها ،للتبرك بها (والتبرّك بالاشجار هي عادة منتشرة في كثير من الأماكن )،وذلك قبل ان تتمّ احاطتها بسور زجاجي عالٍ ومرتفع حال دون امكانية وصول ايدي الناس اليها،ولعلّ الهدف من وضع هذا السور هو حمايتها من تجاوزات بعض الناس،ولا سيّما اذا ما اتّخذ البعض من اوراق تلك الشجرة او اغصانها مادة للاتجار بها !!

والملاحظ انه في السنوات الاخيرة ازداد زوّار هذا المقام وروّاده بشكل لافت،واصبح مقصودا من مختلف المناطق اللبنانية ،ويزوره الكثيرون من غير اللبنانيين ايضا،ويلاحِظ الداخل اليه انّه قد كُتبت داخله زيارات خاصة من تأليف بعض الناس ،وعلّقت على بعض جدرانه ،وقد جاء فيها :”السلام عليكِ يا بنت رسول الله (ص) السلام عليكِ يا بنت امير المؤمنين السلام عليكِ يا بنت فاطمة الزهراء السلام عليكِ ايتها الصدّيقة الشهيدة الفاضلة… “!!

وتقول الرواية المتداولة شعبيا عن قصة هذا المقام: انه لما سُبي عيال الحسين عليه السلام بعد معركة كربلاء وجيئ بهم الى الشام ،كانت “بعلبك”احدى محطات هذا المسير ،وبسبب رحلة التعب والآلام التي مرّ بها هذا الموكب،فقد توفّيت احدى البنات الصغيرات ،وهي المسمّاة خولة بنت الحسين عليه السلام ،وكان عمرها آنذاك ستّ سنين ،فدُفنت في “بعلبك”.

وفي رواية شعبية اخرى متداولة انّ خولة ليست طفلة،بل انّها سُقطٌ القته زوجة الامام الحسين عليه السلام عندما عَبَرَ ركب السبايا مدينة “بعلبكّ” في الطريق الى دمشق

المشاعر والحقائق ..

وقبل الدخول في بحث هذا الموضوع ،فاني اريد مصارحة القارئ الكريم بحقيقة مشاعري التي تنطوي عليها سريرتي ،وهي انّي ربما اكون ميّالا وراغبا ًفي الوصول الى نتيجة ايجابية تُثبت صدقيّة هذا المقام ،وذلك يرضي عواطفي وحبّي لبلادي واهلي ورغبتي وأُنسي في ان يكون لأهل البيت عليهم السلام ولا سيّما الامام الحسين عليه السلام بضعةٌ طاهرة في ارضنا ومناطقنا العزيزة على قلوبنا ،ولكنّي ادركُ انّ المشاعر لا تكفي في الاثبات او النفي في مجالنا هذا وغيره من المجالات العلميّة ،بل ربما كان اللازم على الباحث ليكون منسجما مع المنهج العلمي الاصيل ان يتجرّد من مشاعره الخاصة او يضعها جانبا اثناء عملية البحث حتى لا تملي عليه -هذه المشاعر-اتجاها معيّنا ،فيبتعد عن الحقيقة والموضوعية ،كما يحصل مع بعض الباحثين ممّن يقع اسير مشاعره او مصالحه ،فيعمد الى تحشيد الشواهد ،وتكلّف “الدلائل”وتطويع النصوص وتأويلها بما ينسجم مع ميوله ورغباته !!!

مراحل البحث… 

واثباتاً لصدقيّة هذا المقام يتحتّم علينا ان نجد جواباً مقنعاً عن الاسئلة التالية :

ً 1-هل ثمّة بنتٌ للامام الحسين عليه السلام باسم خولة ??

2-اذا ثبت ان ثمّة بنتاً باسم خولة ،وانّها كانت مع عيال الامام الحسين عليه السلام في سفره الى العراق ،فهل مرّ موكب العيال( السبايا)في مدينة “بعلبك”???

3-اذا ثبت ان هذا الموكب مرّ في “بعلبك”،فهل توفيت احدى بنات الموكب في تلك المحطة من محطات رحلة الاحزان?? 

4-اذا لم يثبت شيئ من ذلك ،فكيف نفسّر وجود هذا المقام في “بعلبك”المنسوب الى خولة بنت الحسين عليه السلام ??

●- هل للحسين عليه السلام بنت باسم خولة??? 

اما فيما يرتبط بالسؤال الاول ،فلا يوجد ما يسعفنا-اطلاقا-على القول بوجود بنت للامام الحسين عليه السلام اسمها خولة،فالمصادر التاريخية وكُتُب الحديث والانساب وغيرها التي تحدّثت عن حياة الامام الحسين عليه السلام وزوجاته واولاده لم تُشر الى هذا الاسم في عداد بناته عليهم السلام .وعدم الاشارة الى هذه البنت -لو كانت-لا يمكن ان يُفهم على انّه مجرّد سكوت او عدم اكتراث او اهمال ،لاننا لسنا نتحدّث عن بنت لشخصيّة مغمورة او عاديّة ،وانّما نتحدّث عن بنت الحسين بن علي عليه السلام سيّد شباب اهل الجنّة ،والذي تتطلّع اليه والى ذرّيته الانظار ،كما انّ قصّة موتها -بحسب الفرض-في رحلة السبي والمعاناة التي لم تعرف سابقة في الاسلام تستلفت الانتباه،ومن البعيد جدّا ان تمرّ مرور الكرام دون ان يشير اليها احد من المؤرّخين ،او ينوّه بظلامتها احد من ائمّة اهل البيت عليهم السلام او غيرهم .باختصار: انّه ومع توفّر الحوافز والدواعي لذكر اسم خولة وتسجيل اسمها في عداد بنات الحسين عليه السلام ،فلا يمكننا ان نفهم عدم ذكرها والاشارة اليها الا باعتباره دليلاً على عدم وجودها. 

وتجدر الاشارة الى ان ّاسم خولة لم يرد ليس فقط في اسماء بنات الامام الحسين عليه السلام بل وفي بنات امير المؤمنين عليه السلام ايضا على كثرتهنّ، وفي بنات الامام الحسن عليه السلام ،وهكذا في بنات سائر الأئمة من اهل البيت عليهم السلام ،مع انّه لو كان ل “خولة “بنت الحسين عليه السلام وجود حقيقيّ وتوفّيت بهذه الطريقة المأساويّة ،فان من الطبيعي ان تتمّ استعادة هذا الاسم وابقائه حاضرا في الاذهان من خلال الاجيال اللاحقة ،كما تمّت استعادة اسم “فاطمة”او “رقيّة”او “زينب”او “خديجة”او “ام كلثوم”،كما نلاحظ ذلك في بنات الأئمة عليهم السلام .

هذا لو اخذنا بنظر الاعتبار رواية الطفلة،وامّا لو اخذنا بالحسبان رواية السُّقْط،فان امر اغفالها من قبل المؤرخين ،وان كان اقلّ استغراباًمن اغفال امر الطفلة ،لانّ الاجهاض -عادة-يحصل بطريقة بعيدة عن الانظار ،الا انّه مع ذلك سيبقى الاغفال مستغربا ،لجهة انّ الاجهاض لم يحصل في ظروف اعتياديّة ،بل حصل في ظروف قاسية وصعبة للغاية،بحيث يشكّل هذا الاجهاض أحد مظاهر المظلوميّة التي تعرّض لها موكب الامام الحسين عليه السلام ،وعياله وصحابته منذ ان جعجع بهم الحرّ الرياحي -قبل توبته-في القرب من كربلاء،والى حين رجوع هذا الموكب ووصوله الى “المدينة المنورة”،ثم اذا كان الائمة من اهل البيت عليهم السلام ومَن كان في الركب المذكور من العيال والنساء،و كذا المؤرخون والنّسّابة ..اذا كان كل هؤلاء لم. يشيروا من قريب او بعيد الى امر السُّقط ،فمن يا ترى يكون هذا الذي علِم بامر الاجهاض وكشف النقاب عن حقيقة هذا السُّقط وحدّد جنسه واسمه ??!!

عدد بنات الامام الحسين عليه السلام ..

بالعودة الى المصادر التاريخية وكتب السيرة التي تطرّقت الى اولاد الامام الحسين عليه السلام ،فاننا نجد انّ الاقوال في عدد بناته عليه السلام ثلاثة: 

1-انهنّ اثنتان ،وهما: فاطمة وسكينة ،وهاتان الشخصيتان معروفتان ،ولهما حضور واضح وجليّ في احداث النهضة الحسينية فضلا عمّا بعدها ،وقد تبنّى هذا القول جمع من الأعلام ،وعلى راسهم :الشيخان المفيد والطبرسي .

2-انهنّ ثلاث ،وهنّ:فاطمة وسكينة وزينب ،وقد تبنّى هذا القول بعض الاعلام ،ومنهم :ابن شهر آشوب ،والطبري الإمامي ،والعلامة السيد محسن الأمين .

إنهنّ اربع ،وقد نقل العلامة الأربلي وابن الضباع المالكي ،هذا القول عن الشيخ كمال الدين بن طلحة ،ولم يسمِّ اصحاب هذا القول اسم البنت الرابعة ،واما الثلاث الأُخر فهنّ اللاتي ذكرت اسماؤهنّ في القول الثاني. 

وتعليقا على هذه الاقوال ،فانّي اسجّل النقاط التالية :

اوّلا: ربّما يقال: ان القول الثالث هو اضعف الاقوال ،لانه ومع تضارب الآراء في المسألة فلا نجد مرجّحا لقول الشيخ كمال الدين بن طلحة (ت654ه)على قول الاعلام المحققين ،سواء مَنْ نصّ منهم على انّ للامام الحسين عليه السلام بنتين فقط،كالمفيد والطبرسي ،او مَنْ نصّ على انّ له ثلاث بنات،كابن شهر آشوب والطبري الامامي ،ومن الواضح انّه بناءً على القوليْن الأوليْن فلا وجود لخولة وانما هي منتفية جزما. 

ثانيا :انّ ثمّة احتمالاً قويا في حصول الاشتباه في كلام ابن طلحة :وذلك لانّه -اي ابن طلحة-قد صرّح بانّ عدد الذكور من اولاد الامام الحسين عليه السلام ستة،وذَكَر اسماءهم بالتفصيل ،ثم ذكر ان عدد البنات اربع،ثم سمّى ثلاثا منهنّ ،وهنّ:سكينة وفاطمة وزينب ،ولم يصرّح باسم الرابعة ،ولم يشر الى انّ اسمها ذهب عن باله مثلا ،ولم يضع فراغا او نقاطا (… ..)للتدليل على وحود تتمّة للكلام ،الامر الذي يجعلنا امام احتمالين في تفسير كلامه: 

الاول :سقوط اسم البنت الرابعة ،اما لغفلة ،او بسبب سهو النُّساخ ،او لغيره من الاسباب المعروفة .

الثاني :ان لا يكون هناك بنت رابعة للامام الحسين عليه السلام اصلا ،وانّما حصل الاشتباه في قول ابن طلحة ،انّ عدد بناته اربع ،فبدل ان. يذكر انّ عددهن ثلاث ذكر انّ عددهن اربع. 

والاحتمالان -بنظرنا-متكافئان ولا مرجّح لاحدهما على الآخر ،لانّ احتمال الغفلة عن ذكر الرابعة ،ليس بأولى من احتمال الاشتباه في ذكر العدد. 

ثالثا: لو سلّمنا بصحة قول ابن طلحة بأنّ عدد بناته عليه السلام اربع ،ولكن هل يكفي هذا المقدار لاثبات انّ الرابعة هي خولة? ولمَ لا يقال بتطبيق البنت الرابعة على “رقية بنت الحسين عليه السلام “..المدفونة في دمشق ،كما احتمل ذلك بعضهم?!! 

2-هل مرّ موكب السبايا في بعلبكّ??

لنفرض -جدلا-انّ ثمّة بنتا للحسين عليه السلام اسمها خولة ،وانّه عليه السلام قد اصطحبها معه الى كربلاء ،او كانت جنينا في بطن امّها ،لكنّ السؤال الملحّ هنا: هل انّ موكب الاحزان الذي يضمّ عيال الحسين عليه السلام واولاده قد مرّ فعلا على مدينة بعلبكّ في رحلته الحزينة من “الكوفة”الى “الشام”??

والاجابة على هذا السؤال تفرض علينا في بادئ الأمر ان نتعرّف على الطريق الذي سلكه الموكب من “الكوفة”الى “دمشق”،لانّ المعروف-كما ذكر بعض العلماء والباحثين-انّ هناك طريقين يصلان بين هاتين المدينتين :

الاول :الطريق السلطاني ،وهو الذي رجّح المحدّث النوري ان. يكون الموكب قد سلكه ،وهو طريق طويل وكثير المنازل ،ويمكن لسالك هذا الطريق ان يمرّ على مدينة “بعلبكّ”.

الثاني :الطريق المستقيم ،وهو طريق مختصر يمكن قطعه في مدّة اسبوع،وكان “عرب عقيل”يسلكونه ،ولذا أسماه بعضهم بطريق “عرب عقيل”،ومن الواضح انّ سالك هذا الطريق لا يمرّ على “بعلبكّ”،ويبدو انّ العلامة الشهيد السيد القاضي الطباطبائي يرجّح سلوك الموكب لهذا الطريق ،مبرّرا بذلك رايه في امكانية رجوع السبايا الى كربلاء في العشرين من صفر ،وذلك في ردٍّ على المحدّث النوري الذي يعدّ من اشد المنكرين لمقولة رجوع السبايا الى كربلاء في التاريخ المذكور .

باتضاح ما تقدم نقول :انّ اثبات مرور الموكب على مدينة “بعلبك”يحتّم على صاحب هذا القول نفي سلوكه -للطريق المستقيم بين “الكوفة”و”دمشق”،وهذا امر يحتاج الى تحقيق واسع يتضمنّ تفنيد الوجوه التي يُتمسّك بها للقول بانّ الموكب قد سلك الطريق الواسع ،وبحثٌ او تحقيقٌ كهذا ،لم نجد انّ القائلين بمرور الموكب على مدينة “بعلبكّ” قد قاموا به .

لكن بصرف النظر عن ذلك ،ومع التسليم بانّ الموكب سلك الطريق السلطاني ،فهل كانت مدينة “بعلبكّ”هي احدى المنازل التي توقّف فيها?? 

غير خافٍ انّنا لا نمتلك ماينفي احتمال مرور الموكب على مدينة “بعلبكّ”ولا سيما اذا ثبت مرورهم على مدينة “حمص”،حيث من المحتمل قويّاً ان تكون “بعلبكّ”هي المحطة التالية “حمص”،الا ان الاحتمال لا يكفي في الاثبات كما هو واضح ،ما لم تعضده قرائن اخرى ترفع درجة الاحتمال الى مستوى من الوثوق يمكن التعويل عليه .

وبمراجعة المصادر الاساسية التي ارّخت لاحداث النهضة الحسينية وما جرى بعد واقعة كربلاء ،لا نجدها قد تطرّقت الى مرور موكب الاحزان على مدينة “بعلبك”،وانّما وردت الاشارة الى ذلك في كتابات بعض المتاخّرين التي لا يسعنا التعويل عليها واعتمادها في اثبات هذا الحدث ،لا لانّها مصادر غير متخصّصة فحسب ،بل لانّها ارسلت الكلام ارسالا ،واشتملت -بعضها على الاقل -على مضامين لا يمكننا قبولها ،لانّ علامات الوضع بادية عليها ،ولهذا قال الشيخ عباس القمي رحمه الله “اعلم انّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا فيها ام عبروا منها غير معلوم ولا مذكور في شيئ من الكتب المعتبرة ،بل ليس في اكثرها كيفية مسافرة اهل البيت عليهم السلام الى الشام .

واليك عرضا مُسهبا لما جاء في هذه “المصادر “التي ذكرت “بعلبك “باعتبارها احدى منازل الطريق الى الشام .

●-اولا :رواية العلامة المجلسي ..

اول ما يواجهنا على هذا الصعيد هو ما اورده العلامة محمد الباقر المجلسي (ت1111ه)في “بحار الانوار “نقلا عن بعض الكتب ،قال: “وفي بعض الكتب انهم لما قربوا من “بعلبكّ”كتبوا الى صاحبها فأمر بالرايات فنشرت وخرج الصبيان يتلقّونهم على نحو ستّة اميال ،فقالت ام كلثوم: اباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم ،ثم بكى علي بن الحسين عليه السلام وقال :

هو الزمان فلا تفنى عجائبُهُ

من الكرام وما تهدى مصائبهُ

فليت شعري الى كم ذا تجاذبنا 

بصرفه والى كم ذا نجاذبهُ

يسري بنا فوق اقتابٍ بلا وطأ

وسابقُ العيسِ يحمي عنا غاربُهُ

كأنّنا من اسارى الروم بينهم 

كانّ ما قاله المختار كاذبُهُ

كفرتم برسول الله ويْحَكُمُ

فكنتم مثل من ضلّت مذاهبُهُ.

وهذا “المصدر”لا يمكننا التعويل عليه ،اذ لا يبدو ان المجلسي نفسه على ثقة من امر الكتاب الذي نَقل منه،او انه محل اعتمادٍ عنده -فضلا على ان يكون حجة علينا-والا لسمّى الكتاب والكاتب ولم يلجأ الى اعتماد اسلوب الابهام والتجهيل ،كما تشي عبارته “وفي بعض الكتب “،وقد عرفنا من سيرة العلامة المجلسي في “بحار الانوار “انه لا يتبنى النقل من خصوص المصادر التي يراها معتبرة ،بل هو قد ينقل عن بعض المصادر التي صرّح بعدم اعتمادها ،او كونها قديمة .هذا من جهة ،ومن جهة اخرى ،فانه لا تصريح ولا دلالة على هذا النص على دخولهم مدينة “بعلبك”،اذ خروج الاهالي لتلقّيهم على نحو ستة اميال لا يدل على انهم دخلوا المدينة بعد ذلك،

●- ثانيا :رواية القندوزي ..

والكتاب الآخر الذي تحدّث عن مرور الموكب على “بعلبكّ”هو “ينابيع المودة لذوي القربى”للقندوزي ،وجاء فيه :”انّ ابن زياد دعا الشمر اللعين وخولي وشبث بن ربعي وعمر بن سعد وضمّ اليهم الف فارس وامرهم باخذ السبايا والرؤوس وامرهم ان. يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها”الى ان يقول :”ثمّ انهم قبل ان جاءوا بلدة “بعلبك”كتبوا الى واليها ان تتلقانا الناس وخرجوا على نحو ستة اميال فرحا وسرورا !!فدعت ام كلثوم عليهم وقالت :اباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من لا يرحمكم.. “،ثم يذكر نفس ما جاء في النص الذي تقدم نقله عن العلامة المجلسي .

وهذا النص لا يمكن التعويل عليه ايضا ،لان مؤلفه وهو سليمان بن. ابراهيم القندوزي الصوفي (ت1294 ه)متأخر جدا ،ولم يحدّد لنا مصدرا او مرجعا اخذ عنه هذا الكلام،وان كان التطابق او التقارب بين ما اورده وبين ما يُنقل عن ابي مخنف -مما سيأتي نقله-او ما نقله العلامة المجلسي رحمه الله عن “بعض الكتب”يدفعنا الى القول :انه اخذ هذا الكلام اما عن مقتل ابي مخنف مما سوف نبيّن قيمته العلمية لاحقا ،او عن بحار الانوار للعلامة المجلسي والذي عرفنا حال مصدره ،وعدم امكان التعويل عليه .

على ان النص -كما نلاحظ في مطلعه -يذكر ان عمر بن سعد كان من جملة الاشخاص الذين كُلّفوا باخذ السبايا والرؤوس الى يزيد ،وهذا امر لا تساعد عليه المصادر التاريخية ،كما سنشير في بعض تعليقاتنا على النص الآتي،

●- ثالثا: رواية عماد الدين الطبري.. 

والكتاب الثالث الذي تطرّق لمرور الموكب في “بعلبكّ”هو كتاب “كامل السقيفة”لمؤلفه عماد الدين الطبري( كان حيا سنة 698ه) ،واليك نصّ كلامه: 

“ثم ان عبد الله بن زياد لعنهما الله اعطى الرأس الى زجر بن قيس ومعه رؤوس الشهداء من الأصحاب واهل البيت وقال :احملها الى يزيد بن معاوية ،ثمّ سيّر الامام زين العابدين واهل البيت الى الشام وجعل عليهم شمراً بن ذي الجوشن ومخفر بن ثعلبة ووضع الغلّ في عنق الامام زين العابدين وغلّوا يديه الى عنقه فكان الامام لا يفتأ في الطريق يتلو كتاب الله ويحمد الله ويثني عليه ويستغفره ولم يكلم واحداً من الأعداء قط الا اهل بيته .

وقيل :ان يزيد لما وقعت عينه على اولئك اللعناء قال :قد كنت اقنع وارضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ،اما أني لو كنت صاحبه لعفوت عنه. 

وحملوا اهل البيت والامام السجاد على رواحل منهم ،لان القوم انتهبوا ثقلهم فلم يتركوا عندهم شيئا،ولما وصلوا الى يزيد رفع مخفر صوته مناديا :هذا مخفر بن ثعلبة اتى امير المؤمنين باللئام الفجرة .فقال الامام عليه السلام: ما ولدت امّ مخفر اشرّ وألأم ،وكان اللعناء يخشون من قبائل العرب ان تهيج عليهم والرأس معهم فيستلبونه منهم،فلم يسلكوا الطريق الاعظم وانما تنكّبوا الطراق( الطرق)حذرا من ذلك،فوصلوا الى قبيلة وطلبوا منهم علفا لدوابهم وقالوا :معنا رؤوس الخوارج نحملها الى الأمير،وهكذا ساروا بهذه الحجة حتى بلغوا “بعلبكّ”،فامر القاسم بن الربيع عامل البلد بتزيينه ،وحملوا الرأس الى البلد مع آلاف الدفوف والطبول والمزامير والشبّابات ،ولما علموا بان الرأس رأس الحسين خرج ما يقرب من نصف البلد واحرقوا الاعلام ومعالم الزينة والفرح ،وقامت الفتنة ايّاما على ساق في البلد ،وهرب الذين معهم الرأس من البلد سرّا .

ووصلوا الى اول بلد من بلاد الشام وكان الوالي عليه الملعون نصر بن عتبة ،فاظهر الفرح والاستبشار وزيّن البلد وقضى الليل كله بالرقص والغناء ،فخرجت سحابة سوداء ارعدت وابرقت واحرقت معالم الزينة كلها ،فقال عمر بن سعد وشمر لعنهما الله :هؤلاء قوم اهل نحس وشؤم فخرجوا منهم الى ” ميّافارقين”فاختصم كبار البلد بينهم كل واحد يريد دخول الرأس من بابه ،لانه عاقد الزينة فرحا به ،فوقع بينهم قتال،وقتل الآلاف من الطرفين ،فبقي كلاب “الكوفة”هناك عشرة ايام ،ومن هناك انتقلوا الى “نصيبين”.

قاب منصور بن إلياس :رفعوا اكثر من الف علم استقبالا لرأس الحسين ،وكان راس الحسين معه فاراد ان يدخل البلد فتقهقر حصانه فاقبلوا بعدة افراس له فلم تتقدم ،فبينما هم كذلك اذ وقع راس الحسين من اعلى الرمح وكان ابراهيم الموصلّي في القوم فاحتاط للرأس ،لانه عرف راس الحسين فلام الناس وقتله الشاميّون ،فاخرجوا الرأس خارج حدود البلد وراحوا ينثرون المال على الناس بحيث يعسر شرح ذلك ،فارتفع في اليوم الثالث تراب وغبار حتى اسودّت الآفاق فساء بهم ظن الناس وقالوا: ان بقيتم ها هنا قتلناكم فخرجوا منهم الى مدينة ” شبنديز” فتعاهد الناس فيما بينهم ان لا يعطوهم مؤنة لهم ولا لدوابّهم وان اضطرّتهم الحال الى القتال قاتلوهم. 

ولما علم الكوفيّون بواقع الحال هربوا ليلاً فتعقّبهم اهل البلد يلعنونهم ويسبّونهم حتى بلغوا حافّة الفرات ،فساروا على الشاطئ وقطعوا قرية قرية حتى دنوا من دمشق اربعة فراسخ ،فكان الناس يقدمون لهم النثار والهدايا وظلّوا على باب المدينة ثلاثة ايام حتى يزيّنوا البلد ،فزيّنوه بكل ما عندهم من حُليّ ورياش وزينة الى درجة لم يشابهها بهذه الزينة قبل اليوم،وخرج ما يقرب من خمسمائة الف ما بين رجل وامرأة والدفوف بايديهم واخرج امراء القوم الطبول والكوسات والابواق والدفوف وراحوا بالآلاف يرقصون نساءً ورجالاً على اصوات الدفوف والطبول والربابات وكان (هكذا في النص)النساء قد اختضبن واكتحلن ولبسوا (لبسن )الحُليّ والحُلل ،وذلك يوم الاربعاء السادس عشر من ربيع الأول .

ولمّا اشرقت الشمس أدخلوا الرؤوس الى البلد ولم يصلوا الى بيت يزيد الا وقت الزوال لكثرة الناس ،وكان يزيد لعنه الله قد اعتلى عرشه وهو ” تخت مرصع” وزيّن القصر والمجلس بانواع الزينات ووضع كراسيّ الذهب والفضّة عن اليمين وعن الشمال ،وخرح الحجّاب وادخلوا اللعناء الذين رافقوا الرؤوس فسألهم يزيد لعنه الله فقالوا: انقذنا دولة الأمير من تدمير آل ابي تراب ،وقصّوا عليه الحكاية ،ووضعوا بين يديه رؤوس اولاد النبي (ص)،

●- رابعا :مقتل ابي مخنف ..

والمصدر الخامس الذي ورد فيه الحديث عن محطة “بعلبكّ”كإحدى محطّات المسير التي سلكها الركب الحسيني في طريقه الى الشام هو مقتل ابي مخنف “لوط بن يحيى الازدي “المُتوفَى في القرن الثاني للهجرة ،فقد نُقل عن أبي مخنف انّه قال :”ثمّ أَتوا “بعلبكّ”،وكتبوا الى صاحبها أنّ معنا رأس الحسين عليه السلام ،فأمر الجواري ان يضربن الدفوف ونُشرت الأعلام وضُربت البوقات ،وأخذوا الخَلوق (الطيب) والسكر والسويق وباتوا ثملين ،فقالت أم كلثوم :ما يُقال لهذا البلد ?فقالوا :” بعلبكّ” ،فقالت: أباد الله خضراتهم ،ولا أعذب الله شرابهم ،ولا رفع أيدي الظلمة عنهم.. “

اقول :مع التسليم باشتمال مقتل “أبي مخنف”المتداول على العبارة المذكورة،فإنّ ذلك لا قيمة له،لا لأنّ “أبا مخنف”لا يُعتدّ بقوله ،أو لا يُحتجّ بكتبه ،كيف وهو “من رؤساء أهل الأخبار ،وكلّ مَن ألّف في التاريخ نقل عنه وأخذ منه”،بل لأنّ النسخة ،بل قل :النسخ المتداولة من كتابه “مقتل الحسين عليه السلام لا يوثق بصحّتها ،وقد عبثت بها الأيدي ،وتعرّضت للتزوير واشتملت على “المطالب المنكرة غير الصحيحة “والأخطاء التاريخية الفاحشة بحيث يُقطع بعدم صدور الكتاب عن ابي مخنف ،وهذا ما جزم به جَمْع من المحقّقين والباحثين،

●- خامسا :كلام منسوب الى ابن شهر آشوب.. 

وقد نسب بعض الكتّاب إلى ابن شهر آشوب أنّه نصّ على مرور الموكب في مدينة “بعلبكّ”،وأنه قد تمّ بناء مسجد في الموضع الذي وضع فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام ،قال: “وقصّة هذا المسجد ذكرها ابن شهر آشوب :وملخّصها :أنّه “لما حمل جند الأمويين رأس الحسين عليه السلام الى دمشق ،مرّوا ب “بعلبكّ” فاستقبلهم سكانها مهلّلين فرحين بقتل الخوارج :وأقام الجيش في رأس العين ،يرتوي ،ويطلب الراحة،لكنّ السيدة زينب ابنة علي بن ابي طالب عليه السلام ،كشفت حقيقة الأمر للسكان ،وعرّفتهم أنّ القتلى هم آل بيت رسول الله (ص)،فانقلب أهالي “بعلبكّ”ضدّ جند يزيد وهاجموهم يريدون اخذ الرؤوس ودفنها ،ولما فشلوا ،عبّروا عن وفائهم ببناء مسجد في الموضع الذي نُصبت فيه الرؤوس ،وأَسْمَوْهُ”مسجد الحسين”وظلّ متواضعاً حتى تسلطن الظاهر بيبرس البندقاري (658-676ه)،فأمر بعمارة المسجد وتوسيعه.. “.

ولكنّ هذه النسبة لا تصحّ ،ولم يحدّد لنا الكاتب المذكور وهو الباحث الأكاديمي ،مصدر كلامه ولا أين ذكر ابن شهر آشوب المازنداني ذلك?! كما أنّنا لم نجد احداً من المؤرخين أو الباحثين والذين تحدّثوا عن حركة الموكب الحسيني من الكوفة الى الشام قد نقل عن ابن شهر آشوب شيئاً عن ذلك ،والأهم من ذلك كلّه أنّنا وبمراجعة كتاب “المناقب “لابن شهر آشوب لا نجده قد تعرّض أو أشار لمرور الموكب على “بعلبكّ”اطلاقاً !ولا ذكر “مشهد الرأس “في “بعلبكّ” عندما تحدّث عن المشاهد التي بُنيت باسم “مشهد الرأس “في العديد من البلدان ،ابتداءً من “كربلاء الى عسقلان وما بينهما في الموصل ونصيبين وحماه وحمص ودمشق،

●- سادسا :مشهد رأس الحسين عليه السلام ..

وقد يعدّ وجود المسجد المذكور او ما عُرف بمشهد رأس الحسين عليه السلام شاهدا على مرور الموكب في “بعلبكّ” ،بل انّ وجود المشهد المذكور هو الشاهد الوحيد -بحسب الظاهر-الذي عوّل عليه بعض الباحثين في اثبات مرور السبايا على مدينة “بعلبكّ” ،وذلك في خارطة الطريق التي رسمها لموكب السبايا والرؤوس منذ أن غادروا أرض المعركة في كربلاء حتى وصولهم الى دمشق. 

الا انّ هذا الشاهد لا يمكن الوثوق به ،لأنّ المشهد المذكور لا نجد له ذِكراً في أيّ من المصادر التاريخية او كتابات الرّحالة او علماء البلدان او غيرهم ممّن سيأتي ذِكرهم ،بمن في ذلك صاحب “تاريخ بعلبكّ” “ميخائيل ألوف”،وهو الذي تحدّث قبل قرن ونيّف عن مساجد “بعلبكّ” ومزاراتها ،ومنها مقام “السيدة خولة “كما سيأتي ،ومجرّد أن يشتهر في الآونة الأخيرة في منطقة “بعلبكّ” أنّ هذا المشهد هو مشهد للرأس الشريف فهذا لا يشكّل قرينة إثبات ،ما لم يثبت امتداده التاريخي ،وهو شرط ضروري للتأكّد من مصداقيّة أي مقام او مشهد من هذا القبيل ،كما فصّلنا ذلك سابقا ،ومن العجيب أنّ الباحث المذكور قد اصرّ على أنّ هذا المسجد هو مشهد رأس الحسين عليه السلام مرتكبا ً مصادرة واضحة لم يأتِ بما يثبتها او يؤكدها ،مع أنّه اعتمد في تحديد حركة موكب الأحزان على مصدر في غاية الأهميّة وهو كتاب السائح الهروي (ت611ه)الذي سجّل فيه-بحسب الباحث نفسه-بخبرة وبصيرة ووصفٍ دقيقٍ المشاهد التي بنيت باسم مشهد رأس الحسين عليه السلام ،ولكن الهروي وهو “حلبي المسكن”لم يأتِ على ذكر أي مشهد في “بعلبكّ”،ولو كان موجوداً في زمانه لما اغفله ،لانّ كتابه “الإشارات الى معرفة الزيارات “وضع بهدف التعريف بالمزارات المنتشرة في بلاد الشام ومصر والعراق ،والرجل لم يعتمد فيما سجّله من مزارات على النقل والسماع ،وإنّما اعتمد على المعاينة ،لأنّه كان سائحا جوّالا كاد -كما قيل – ان يطبّق الارض بالدوران برّاٍ وبحرا وسهلا ووعرا حتى ضُرب به المثل ،فقال جعفر بن شمس الخلافة في رجل :

قد طَبّق الأرض من سهلٍ وجبلٍ

كأنه خطُّ ذاك السائح الهروي 

وعليه ،فكيف يُغْفل الهروي ذكر هذا المشهد??!! الّا اذا كان غير موجود في زمانه،وأمّا تبرير إغفاله له بأنّ المشهد -فيما يبدو بعيدٌ-عن المدينة لا يراه السائح كالهروي ،فهو تبرير ضعيف ،بل لا يخلو من غرابة ،لسببين :

أحدهما :أنّ دعوى بُعد المشهد عن مدينة “بعلبكّ” غير دقيقة ،لأنّه على أبعد التقادير يبتعد عن المدينة بمئات الأمتار ،وربما أنّ بناءه عالٍ ومرتفع ،فمن الطبيعي ان لا يخفى على كلّ من كان داخل المدينة. 

وثانيهما: انّ الهروي ليس سائحا عابراً،فهو خبير ولديه عناية خاصة بمعرفة المزارات ،وهو بصدد التأليف في هذا المجال ،ولذا حتى لو فرضنا أنّ رجليه لم تطأْ أرض “بعلبكّ”،فلا بدّ أن يسمع بأمر هذا المشهد لو كان موجودا بالفعل .

ثمّ إنّ القضية لا تتوقف عند عدم تطرّق خصوص الهروي لأمر هذا “المشهد”،فكافة المؤرخين والبُلدانيين والرحالة والعلماء المهتمّين بالبحث عن المقامات الدينية ممّن مروا على “بعلبكّ”وتسنّى لنا الوقوف على كلماتهم لم يتحدّثوا -ولو بإشارة عابرة – عن هذا”المشهد “،كما سنلاحظ كلماتهم فيما يأتي ،ممّا لا نستطيع تقديم تفسير مقنع له الا تفسيرا واحدا وهو عدم وجود هذا “المشهد ” في زمانهم. 

والأغرب من ذلك أن يتّهم الباحث المذكور “الظاهر بيبرس”وابنه بأنّهما سعيا الى طمس حقيقة هذا المشهد بإسباغ صفة المسجدية عليه. دون أن يأتيَ على دعواه بأيّ دليل او شاهد يعضدها !!

والخلاصة: إنّ الشواهد لا تسعفنا على تأكيد مرور موكب الأحزان على “بعلبكّ”،وإن كان ذلك محتملا ،اذ ليس لدينا ما ينفي ذلك ،كما أسلفنا. 

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …