العميد د. أمين محمد حطيط
قد يكون السيد حسن نصرالله في خطاب يوم القدس العالمي فاجأ البعض ممن لم يصلوا إلى معرفة طبيعة المقاومة التي يقودها حزب الله وطبيعة محور المقاومة الذي ينتمي إليه الحزب. مفاجأة تمثّلت في الإعلان الواضح عن حجم الأخطار المتشكلة في الأفق، وعن مشاركة الحزب خاصة ومحور المقاومة عامة في المواجهة الدائرة في غزة واستعداده لتوسيع دائرة المواجهة. مشاركة أعلن السيد عنها بعدما رسم صورة المشهد الإقليمي بواقعية وعلمية شفافة لم يهمل فيها أي جزئية مؤثرة على مساحة المنطقة من العراق إلى فلسطين عبر سورية. لكن هل للمفاجأة ما يبررها؟
من يعرف المقاومة وطبيعتها ويتابع ما يحصى في الإقليم، لا يشكل الإعلان له أي مفاجأة، بل يراه واقعاً في السياق الطبيعي للأمور، فالمقاومة ومحورها اختارا منذ نشأتهما والتزامهما بمواجهة المشروع الصهيو ـ أميركي، العمل بأسلوب علمي ومنهجية تراعي الواقع وقواعد العمل الاستراتيجي، لتوفير أفضل فرص النجاح في المواجهة، ولأنها كذلك، وبعدما تبينت الخطة الأميركية الجديدة وحجم الأخطار التي تشكلها، اتخذت من المواقف الدفاعية ما يرى الآن بعضه في الميدان وما يحتفظ ببعضه لإطلاقه في حينه في وجه خطة العدوان الجديدة التي تطلقها أميركا بعد فشلها في أكثر من خطة عملت عليها خلال السنوات الأربع المنصرمة من «الحريق العربي».
فأميركا اليوم، ورداً على نجاح محور المقاومة في إفشال العدوان على سورية، أطلقت خطة شيطانية مركبة عُهد في تنفيذها ميدانياً إلى «داعش» و»إسرائيل»، فأوكل إلى الأولى العمل في العراق كميدان رئيسي، مع الاحتفاظ بما في اليد في سورية وبما يحتمل من التمدد غرباً إلى لبنان، وتولّت «إسرائيل» مهمة «الإجهاز على المقاومة» في غزة لفتح الطريق أمام تصفية القضية الفلسطينية، من دون أن يكون هناك عائق ميداني يحول دون توقيع صك الاستسلام.
هذه الخطة المتعددة الجبهات فرضت نفسها على الواقع، فكشفها السيد نصرالله في خطابه الآخر بهذا القدر من الوضوح، معلناً بشكل حاسم قرار التصدي لها على صعيد محور المقاومة كله، مكملاً في ذلك ما كان الرئيس الأسد بدأه، داعياً المعنيين بالشأن إلى تحمل المسؤوليات في المواجهة لصون الإنجازات التي تحققت حتى الآن، وهو الأمر نفسه الذي أكد عليه وبوضوح تام الأمام الخامنئي في خطبة العيد الأخير. إذن، كشفت الخطة وأحاط محور المقاومة بتفاصيلها الموزعة على عنصرين تنفيذيين كالآتي:
بالنسبة إلى «داعش» بات مؤكداً أن هذه المنظومة ليست في الأصل سوى جماعات مسلحة أنشأتها ونظمتها وترعاها الاستخبارات الأميركية C.I.A، بالتعاون والتنسيق مع «الموساد»، ومهمتها هدم الإسلام الصحيح وإفساد الإنجازات التي حققها محور المقاومة في سورية وتوسيع ميدان المواجهة ليشمل الحدود الإيرانية ـ العراقية، لإشغال إيران دفاعياً على حدودها، مع السعي إلى وضع اليد على منطقة شاسعة من العراق وسورية، مع إمكان تمددها إلى الغرب في لبنان حيث تتخذ طرابلس منفذاً بحرياً لها. ولم تخف «داعش» على أي حال هذا الأمر بل أعلنت وضوح خريطة دولتها تلك وضمّنتها إضافة إلى الجهات المذكورة كلاً من الكويت والأردن وفلسطين إضافة تمويهية .
أما الوظيفة العميقة لـ«داعش» فهي نشر ثقافة سلوكية تبرّر لـ«إسرائيل» سعيها إلى إعلان نفسها دولة دينية للشعب اليهودي في العالم أجمع، وهنا نرى كيف أن «داعش» أعلنت «دولة الخلافة الاسلامية»، أي الدولة الدينية، لتبرّر لـ«إسرائيل» قيامها على أساس ديني، وكيف طردت المسيحيين من الموصل لتبرر لاحقاً طرد «إسرائيل» مليوناً ونصف مليون عربي مسلم ومسيحي من الأرض المحتلة عام 1948، وكيف أن «داعش» دعت المسلمين في العالم إلى الهجرة إلى دولتها المزعومة لتبرر لـ«إسرائيل» دعوة يهود العالم للهجرة إلى فلسطين باعتبارها وطناً للشعب اليهودي، وكان مهماً أن يلفت السيد حسن نصرالله النظر إلى كيفية قيام «داعش» بهدم الكنائس والمقامات الدينية وأضرحة الأنبياء، كي ترسي سابقة إسلامية في هذا الشأن تبرر لـ«إسرائيل» لاحقاً هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة وكنيسة المهد ووضع اليد على الأماكن الإسلامية والمسيحية في فلسطين وتحويلها إلى أماكن عبادة لليهود واستئصال كل ما له علاقة بالإسلام والمسيحية على أرض فلسطين هنا تتبدّى ضرورة تشكل موقف إسلامي ومسيحي موحد يرفض ويدين تصرف «داعش» ليكون بمثابة العمل الاستباقي الدفاعي عن المسجد الاقصى وكنيسة القيامة وسواهما .
بات واضحاً أن وظيفة «داعش» في الخطة الأميركية ذات فروع ثلاثة، الأول يتعلق بالإسلام لهدمه أو على الأقل حرفه وتشويهه، والثاني إشغال محور المقاومة في الميدان لمنعه من مواجهة «إسرائيل»، والثالث التمهيد للسلوكيات «الإسرائيلية» عبر سوابق ترسي عليها «إسرائيل» قرارتها الهدامة، لذا تقوم «داعش» الآن بكل ما تريد «إسرائيل» القيام به حاضراً ومستقبلاً وترسي ثقافة مرفوضة أصلاً وتسعى إلى جعلها مألوفة وعادية يتقبلها الرأي العام إذا اعتمدتها «إسرائيل» بدأت «إسرائيل» باستثمار ذلك فظهرت دعوات للجنود «الإسرائيليين» لاغتصاب نساء المقاومين، إذ دعا إلى ذلك أحد الأساتذة الجامعيين الصهاينة مبرراً الدعوة بتفشي هذه الثقافة في المنطقة على يد الإسلاميين . هنا يستوقفنا الصمت المريب عن سلوكيات «داعش» الوحشية وإغفال الإعلام الذي تحكم الصهيونية السيطرة عليه، لما تقوم به «داعش» من جرائم. والأفظع من ذلك هو ما يبديه عرب ومسلمون من عدم اكتراث بالأمر.
أما بالنسبة إلى العنصر التنفيذي الثاني «إسرائيل»- فقد اتضح أن حربها على غزة تمّت في سياق الخطة ذاتها، وانطلقت فيها متذرّعة كذباً بقتل الصهاينة الثلاثة، وهي الذريعة التي بدأ يتكشّف زيفها على لسان الإعلام الغربي الذي يظهر بشكل أو بآخر أن الاستخبارات «الإسرائيلية» الـ»شين بيت» هي التي كانت وراءها تنفيذها، على الأقل تسهيلاً وتفعيلاً. وأن أهداف «إسرائيل» من الحرب – ورغم أنها لم تعلن عنها شيئاً تجنباً لاتخاذها لاحقاً قرينة على الهزيمة والفشل لو أخفقت في الوصول إليها -، هي تجريد المقاومة في غزة من سلاحها تلبية لرغبة «محور اجتثاث المقاومة» السعودية ودول في الخليج أو تعطيل سلاحها وشلّه تماماً بحسب رغبة «محور تدجين المقاومة» تركيا وقطر .
إن خطة العدوان الجديدة التي تنفذها «داعش» و«إسرائيل» الآن والتي انطلقت فعلياً بـ»مسرحية الموصل الداعشية» الشهر الفائت واستكملت بالعدوان على غزة، يبدو أنها تعثرت رغم ما حققت من نجاحات في بعض العناوين، وبات نجاح الخطة على ما يظهر الآن صعباً بسبب المقاومة ومحورها، وهنا يسجل ما قامت به سورية من احتواء ثم إجهاض لما قامت به «داعش» في الميدان السوري خاصة ما تم في جبل الشاعر وحلب وريفها والقلمون. ونتوقف عند مشهد الميدان في غزة الذي يظهر أن حرب «إسرائيل» فشلت حتى الآن في تحقيق أهدافها بسبب الدفاع الصلب الذي أبدته المقاومة الفلسطينية محتضنة بمحور المقاومة، وان محاولات «إسرائيل» لتعويض الإخفاق بحيل سياسية للتعويض فشلت أيضاً بعدما خرج القائد العسكري للقسام، محمد الضيف، معلناً صلابة موقف المقاومين ومناعتهم المضادة للضغوط، ومؤكداً بلباقة أن القيادة الحقيقة هي لمقاتلي الخنادق وليست لنزلاء الفنادق الذين أوكلوا إلى تركيا وقطر أمر التفاوض باسمهم.
إن مشهد المسرح الذي اختارته أميركا لتنفيذ خطتها الشيطانية الأخيرة ينبئ حتى الآن بأن الخطة هذه ستكون فاشلة كسابقاتها، ولأجل ذلك نسجل التخبط في معسكر العدوان تخبط وخشية حملت الغرب على الإلقاء بكامل ثقله لوقف إطلاق النار في غزة والحدّ من تداعيات الفشل «الإسرائيلي» ومنح «إسرائيل» فرصة التقاط الأنفاس والبحث عن مخرج من المأزق يمكّنها من استئناف العدوان. ولقاء باريس المنعقد على عجل لبحث ما آلت إليه حرب «إسرائيل» على غزة أو ما سبقه من اجتماع وزراء خارجية أميركا وفرنسا ومصر ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة في القاهرة، أو قول شمعون بيرس بـ»أن الحرب على غزة استنفدت نفسها ويجب أن تتوقف»… كلها مواقف ما كانت لتكون لو لم تكن «إسرائيل» في مأزق فرض على هؤلاء البحث عن حبل نجاة يلقونه لها لمنع غرقها أكثر في الرمال المتحركة.
إن فشل الخطة الأميركية الجديدة ستكون له تداعيات تفوق تداعيات الإخفاقات السابقة كافة، فهذه الخطة هي الورقة الأخيرة التي أخال أن أميركا ستلعبها لإنقاذ مشروعها في الشرق الأوسط، ولذلك تحشد لها كل ما يمكن حشده وفوق ما حشد للخطط السابقة، ولذلك حذّر السيد نصرالله من الأخطار وأكد الاستعداد والجهوزية الكاملة للمواجهة حيث يجد محور المقاومة نفسه ملزماً بالنزول بكامل مكوناته إلى الميدان لمنع نجاح «داعش» في وظيفتها، ومنع تحقيق «إسرائيل» أهدافها، وعندئذ يكون الانتصار الذي تلوح بعض عناصره، رغم بعض الهنات هنا وهناك، أو حجم الخسائر والتضحيات.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية