محنة إعلان بعبدا

لم يرمِ بيان رئاسة الجمهورية الى الدفاع عن «اعلان بعبدا» وتبرير التمسك به، مقدار تأكيده ان قوى 8 و14 آذار وافقتا عليه قبل سنة وثلاثة اشهر صوريا، وأدارتا في ما بعد تباعا ظهريهما له، كي تغامر كل منهما في رهان على الحرب السورية ومصير النظام والمعارضة في آن واحد

نقولا ناصيف

في السنة الأخيرة من الولاية، يبدو رئيس الجمهورية ميشال سليمان في وسط الافرقاء جميعا الذين يتصرفون كأنهم يحتاجون اليه والى دوره والاحتكام لديه، فيما واقع الامر ان كلا منهم، في قوى 8 و14 آذار، يحتاج الى الآخر عدوا له. يتغذى من نزاعه مع خصمه كي يبرّر مضيه في لعبة المواجهة والرهان على صراعات المحاور. في الوقت نفسه يتذرعون بلجوئهم الى رئيس الدولة كي يفصل في ما بينهم في الوقت الضائع، من غير ان يتزحزح احدهم قيد انملة عن مواقفه وتصلبه.

لم يُعطَ الرئيس انجاح تجربة غير مسبوقة في العهود المتعاقبة عرفها اللبنانيون معه لاول مرة، واقترنت بانتخابه عام 2008، وهي «الرئيس التوافقي». فأخفقت وانهارت تماما بانقضاء سنتين على الولاية. قيل حينذاك ان الرئيس التوافقي نقيض «الرئيس القوي» كالرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وسليمان فرنجيه، و«الرئيس الضعيف» كالرئيسين شارل حلو والياس سركيس، وقد انتهت عهودهم جميعا بأزمات. بل يسعه بصفته المحدثة ان يكون اقرب الى تجربة الرئيس فؤاد شهاب يستقطب الافرقاء من حوله، ويحكم من فوقهم لا في ظلهم.
لا تختلف ولاية سليمان عن اي من اسلافه عن قاعدة شائعة، لكنها صحيحة. هي ان السنة الاخيرة من ولاية رئيس للجمهورية ينتخب باجماع او بشبه اجماع تنتهي بمحنة. قالت القاعدة الشائعة ان كلا من الرؤساء المتعاقبين شاء في سنته الاخيرة ان يكون طرفا في نزاعات داخلية او اقليمية كي يصبح رأس حربة فريق ضد آخر. وحده شهاب كان الاستثناء. في سنته الاخيرة كالسنة الاولى هو نفسه، وعهده متين. غادر البلاد بلا ثورة شعبية، او حرب اهلية، او ازمة وطنية خطيرة واحيانا كيانية.
تظهر السنة الاخيرة كأن الامتحان هو نفسه. الجمهورية في محنة. ليس اول الرؤساء الذين يعانون ازمة حكومية على ابواب نهاية الولاية. قبله خبر الشيخ بشارة عام 1952 انهيار عهده في منتصف الولاية الثانية بسبب رفض الزعماء السنّة التعاون معه وتأليف حكومة فتنحّى. ثم خبر حلو عام 1969 تجربة الرئيس رشيد كرامي سبعة اشهر كان فيها الرئيس المستقيل للحكومة والرئيس المكلف تأليفها والرئيس العازف عن التأليف في آن واحد. ثم خبر فرنجيه عام 1976 انقضاء ولايته بحكومة كان يختصرها وزير واحد هو الرئيس كميل شمعون، رئيسها بالوكالة ونائب رئيسها ووزير الخارجية والدفاع والداخلية لان كرامي اراد مقاطعة رئيس الدولة. خبر الرئيس امين الجميل ايضا عام 1988 نهاية الولاية بحكومتين ومجلس نيابي لا رئيس له وجمهورية بلا رئيس خلف. كذلك الرئيس اميل لحود انهى الولاية عام 2007 بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة بنصف شرعية تقاطعه وترفض التعاون معه وتطعن في دستورية التمديد له، فيما اختارت ان تستمد سلطتها من الغرب.
هكذا انتظرت ازمات حكومية خاتمة عهود كما يشهد سليمان اليوم خاتمة عهده.
لا تقتصر الاشهر الاخيرة من الولاية الحالية على حكومة تصريف اعمال لستة اشهر خلت، ورئيس مكلف يقترب من الرقم القياسي الذي سبقه اليه كرامي وهو سبعة اشهر، ومجلس نيابي ممدد له لا يجتمع، وقيادة للجيش ممدد لها بمذكرة ادارية ليس الا، ووزارة خارجية لا تشبه الا وزيرها. في جمهورية على الورق فحسب، بات على رئيس الجمهورية ان يصنع في قصر بعبدا وزارة للخارجية رديفة للوزارة في قصر بسترس. يفسّر ذلك استقبال الرئيس ومعاونيه السفراء والوفود الزائرة واحيانا دون سواه، وتلقيه مباشرة برقيات البعثات اللبنانية في الخارج، وتوجيهه السياسة الخارجية سواء بمخاطبة هذا الخارج او تحدث الخارج معه ورسائله الخاصة اليه وخصوصا نظراءه رؤساء الدول الذين ينظرون الى رئيس الجمهورية على انه هو ـــ لا الوزير ولا مجلس الوزراء ـــ رأس الديبلوماسية اللبنانية. وقد يكون البيان الاخير لرئاسة الجمهورية، الخميس الفائت، من «اعلان بعبدا» خير معبّر عن محنة جمهورية وازمة سياسة خارجية تحت وطأة انقسام داخلي حاد عليها.
منذ اقر في جلسة طاولة الحوار الوطني في 11 حزيران 2012، رمى «اعلان بعبدا» الى تحقيق حد ادنى من توافق الافرقاء على سياسة خارجية تجنب لبنان الانزلاق الى النزاعات الاقليمية ومحاورها، كان دافعا في ان يحصل الرئيس سلفا على دعم السعودية وايران ـــ المتورّطتين في الحرب السورية ـــ من اجل حمل الطرفين اللبنانيين المواليين لهما على تبنيه كي يخرجا معا من تلك الحرب. بدا «اعلان بعبدا» حينذاك بمثابة انذار مبكر للفريقين من الانزلاق ايضا الى نزاعات داخلية بسبب انقسامهما على الموقف من الحرب السورية ومن النظام والمعارضة المسلحة. لم يكن «حزب الله» قد تورّط علنا الى هذا الحد في ما يجري هناك وينتقل من حماية القرى الشيعية المتاخمة للحدود الى الدفاع عن النظام نفسه ومؤازرة الجيش السوري في مواجهاته الضارية، ولم تكن التيّارات السلفية قد صعدت على نحو ما بدا اخيرا بامساكها باستقرار الشمال السنّي واحالة طرابلس وعكار جبهة مفتوحة على الحرب السورية.
صدر «اعلان بعبدا» بعد اسابيع قليلة على احداث عكار بين الجيش وتيّارات سلفية في 20 ايار على اثر مقتل الشيخ احمد عبد الواحد ومرافقه، وانتقلت المشكلة من الخلاف على سوريا ومدّها بالسلاح والمسلحين الى ازمة بين الجيش وعكار دعمها تيّار المستقبل، آخذا على الجيش افتعاله الصدام وتساهله حيال قصف الجيش السوري مناطق الشمال. للفور رمى الاعلان الى تدارك انفجار بدا وشيكا آنذاك بين الجيش وتلك التيّارات، واوحى بتمدده الى طرابلس والبقاع الغربي بعدما حمل العسكريين في الشمال على الانكفاء عن حواجزهم الى ثكنهم وحصول تسيّب وفوضى. في 11 حزيران صدر «اعلان بعبدا» عن طاولة الحوار الوطني كي يوجّه الانتباه الى مسألتين حساستين بدتا مترابطتين: عدم التورّط في الحرب السورية، وتحييد المؤسسة العسكرية عن خلافات قوى 8 و14 آذار حيال ما يجري هناك، وتجنيب وحدتها وتماسكها تداعيات هذه الخلافات.
سرعان ما اضحى الاعلان اليوم مشكلة في ذاتها لسببين على الاقل:
ـــ احدهما ان ايا من الطرفين لم يعد يسعه التخلي عن رهانه على مصير الحرب السورية، وبات يجهر به اكثر من اي وقت مضى.
ـــ والآخر ان «إعلان بعبدا» لم يعد، بالنسبة الى الطرفين، يوجز الازمة كما بين ايار وحزيران 2011.

20130915-093711.jpg

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …