العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل اللهحاوره:
إبراهيم بيرم
التاريخ:٢٧/٧/١٩٩٥ / 29 ـ 2 ـ 1416هـ
العلامة فضل الله في مقابلةٍ مع النَّهار:
إعلان مرجعيَّتي لم يكن بالمبادرة بل بضغطٍ من النَّاس
قبل نحو ثلاثة أشهر، أصدر العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله الجزء الأوَّل من كتاب بعنوان “المسائل الفقهيَّة” (338 صفحة)، وتضمَّن إجابات عن نحو ألف ومئتي مسألة في كلِّ أبواب الفقه، من صلاةٍ وصومٍ وخمسٍ وتجارةٍ وزواجٍ وجنسٍ وفنونٍ وآدابٍ وسواها.
والمطّلعون على الفقه الشّيعيّ، يعرفون أنَّ هذا النّوع من الكتب هو بمثابة رسالة عمليَّة يطلقها عادةً المرجع المطلق إلى مقلّديه، وهذا يعني أنَّ العلامة فضل الله أشهر أخيراً مرجعيَّته على العالم الشّيعي كلّه، وهي المرتبة القصوى الّتي يطمح إليها العالِم الشّيعي الّذي يبلغ مرحلة الاجتهاد المجتزأ ثم الاجتهاد المطلق، إذ يكون في إمكانه الفتوى في كلّ شاردة وواردة تصل إليه من أمور الدّنيا والآخرة، ويسبق ذلك عادةً إصدار الرّسالة العمليّة التي ترسم للمقلّدين حدود كلّ أمورهم.
وأهميَّة المرجع عند الشّيعة، تنبع من أنَّ المرجعيّة ترتبط ارتباطاً عضويّاً بفكرة الإمامة الّتي هي واحدة من أبرز معالم الفكر الشّيعيّ، وتأتي بعد النّبوّة مباشرة، ومن أنه تبطل صلاة أيّ مكلّف شيعي وصومه وكلّ واجباته الدينيّة، ما لم يسمّ بينه وبين نفسه مرجعاً ما يجعله موضع تقليده، ويعمل بوحيٍ من رسالته العمليَّة، أو بواسطة الوكلاء الّذين يسمّيهم.
والمقرَّبون من فضل الله يعرفون أنّه لم يظهر مرجعيَّته ويبثّ رسالته إلا بعد ضغط مريديه وأنصاره الكثر، وقد اشتدّ الضّغط بعد وفاة آخر المراجع الشيعيّين الكبار في حاضنة المرجعيَّة في النجف، السيّد أبي القاسم الخوئي، وقبله الإمام الخميني.
لذا، شرع يطرح للنّاس نظرته إلى المرجعيّة ورؤيته التطويريّة، بل التثويريّة لها، لجعلها أكثر فاعليّة، ولربطها أكثر فأكثر بحياة الإنسان الشّيعي، وخصوصاً جيل الشباب.. وباختصار، أراد السيّد أن يحرّر المرجعيّة من كثيرٍ من “الجمادات” التي أحاطتها طوال القرون الماضية، وأن ينقلها إلى طور المؤسَّسة الفاعلة على غرار الفاتيكان.
وهذه الرّؤية التطويريّة للمرجعيّة، طبَّقها العلامة فضل الله أوَّل ما طبَّقها في مضامين الرّسالة العمليّة نفسها، التي تميَّزت عن رسائل أسلافه من المراجع، كونها عبارة عن أسئلة وأجوبة قصيرة صيغت بلغة عصريَّة سهلة خالية من التّقعير اللّغوي، ولا تتضمّن كثيراً (الأحوط وجوباً)، فيمكن لأيّ قارئ أن يستوعبها، أيّاً تكن درجة ثقافته.
والتَّجديد والتّطوير في رسالة السيِّد لم يكونا في الأسلوب فحسب، بل إنَّ مسائل الرّسالة وإشكالاتها دخلت أدقّ تفاصيل الحياة اليوميَّة العصريّة، من حبٍّ وجنسٍ وزواجٍ وعلاقة المسلم بأبناء الدّيانات الأخرى، الّتي تنزع أيّ نظرة تحريميّة أو تكفيريّة أو “تنجيسية” عن غير المسلم.
ولقد خالف في هذه الرّسالة اجتهادات وفتاوى مشهورة لسواه، كانت عند الشيعة ثوابت لا تمسّ؛ من مسألة حلق اللّحية، إلى العادة السّريّة عند المرأة، إلى استهلال هلال رمضان، إلى اللّعب بالورق والشّطرنج…
وفي حوارنا معه، يلقي فضل الله أضواءً على رسالته وجديدها، وعلى نظرته إلى المرجعيَّة، وإمكان تعدّد المراجع.
نبذة عن حياة السيِّد فضل لله
رحلة العلامة فضل الله بدأت من النجف، حيث ولد في العام 1936، فكان بكر عائلة مؤلَّفة من 10 أولاد. والده علامة سليل عائلة دينيّة معروفة (الأصل من عيناثا، قضاء بنت جبيل)، ووالدته شقيقة النّائب والوزير الراحل علي بزي من بنت جبيل.
في النّجف؛ حاضرة المرجعيَّة الشيعيَّة، ومكان المدرسة العلميَّة والفقهيَّة التاريخيَّة للشّيعة ومرقد الإمام علي، تلقَّى علومه الحوزويّة على يد مراجع عظام، أمثال السيّد أبي القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم وسواهما، وزامل كباراً أمثال السيّد محمد باقر الصدر، الَّذي كان أيضاً رفيق نضال سياسيّ، غاياته الأولى أن يخرج رجل الدّين الشيعي من كونه مرشداً في القضايا الحياتيّة فقط، ومبتعداً عن العمل السياسي والسلطة في انتظار الحجّة المنتظر، إلى لعب دورٍ في الحياة السياسيّة، عبر مواجهة الأفكار غير الإسلاميّة أوّلاً، ومن ثم طرح الإسلام عقيدة دينيّة ودنيويَّة.
وفي السّتينات، كانت عودته إلى بنت جبيل، ثم إلى منطقة النبعة، حيث التجمّع الشيعي النّازح من الجنوب والبقاع، وهناك أسَّس إلى المسجد والحسينيّة، “أسرة التآخي”، التي كانت نقطة الانطلاق لعملٍ سياسيٍّ مختلف.
وبعد تهجير النبعة العام 1976، كانت عودة أخرى إلى بنت جبيل، ثم إلى بئر العبد. والبروز الأكبر كان بعد العام 1982، ثم عقب الانفجار الضّخم في بئر العبد العام 1984، الَّذي جعله محطَّ الأنظار.
والمحطّة الأخيرة كانت في حارة حريك، في فيلا مستقلّة محاطة بحرس خاصّ يحمي حياة السيّد المستهدف، الذي تسمّيه وسائل الإعلام العالميّة “المرشد الروحيّ للجماعات الأصوليّة”.
خطيب مفوَّه، وباحث مدقّق، ومجتهد كبير، وسياسيّ بارع، وفوق هذه الصّفات، صبر على العمل اليوميّ قلّما يتوافر لسواه، فهو يعمل في حدود الـخمس عشرة ساعة يوميّاً، ويتنوَّع العمل بين استقبال الشخصيّات، ومعالجة قضايا النّاس على تنوّعها، وإدارة مؤسَّسات علميَّة، وإلقاء محاضرات وخطب جمعة ودروس علميّة لرجال دين وصلوا إلى مرحلة البحث في الخارج، وزيارات شبه أسبوعيّة إلى دمشق للقاء علماء شيعة يقطنون هناك.
وإلى جانب ذلك كلّه، يدير مكاتب ثلاثة: المكتب الشَّرعي الَّذي يتلقّى يوميّاً نحو عشرين شكوى، والمكتب الاجتماعيّ الّذي يتصرّف بأموال خمس تصل سنوياً إلى نحو ملياري ليرة، والمكتب الإعلامي..
ومن أبرز المؤسَّسات الّتي يديرها، “جمعيّة المبرات الخيرية”، الَّتي تضمّ مبرات ومدارس ومعاهد للمكفوفين والصُمّ والبُكْم، ومراكز دينيّة ومستشفيات تنتشر في كلّ الأراضي اللّبنانيّة، وترعى نحو 3 آلاف يتيم، وتصرف كلّ عام نحو مليوني دولار أميركيّ. وهو إلى ذلك، قارئ من الدّرجة الأولى، ومتابع للإصدارات الأدبيَّة والثقافيَّة كلّها، ويشرف على “الاتحاد اللّبناني للطلبة المسلمين”، الذي يصدر مجلّة فكريّة شهريّة هي “المنطلق”.
وللعلاّمة فضل الله نحو 20 مؤلّفاً بين مجلّد وكرّاس، أبرزها “قضايا الحركة الإسلاميّة”، “الحوار في القرآن”، “دنيا الشَّباب”، وحوارات عن “قضايا شبابيّة معاصرة”، وديوانان هما “على شاطئ الوجدان” و”في ظلال الإسلام”.
إعلان مرجعيّتي لم يكن بالمبادرة، بل نتيجة ضغطٍ من أكثر من جماعةٍ في أنحاء العالم
إعلان المرجعيَّة!
ـ كتاب “المسائل الفقهيَّة” الّذي أصدرته أخيراً كان بمثابة رسالة عمليّة كتلك الّتي تصدر عادةً عن مراجع التقليد، وإن كان بأسلوب ومنهج جديدين، فهل أشهرت مرجعيّتك؟
ـ في الواقع، لم أعلن هذا الأمر بالمبادرة، ولكنّ الإعلان كان نتيجة ضغط من أكثر من جماعة في كلِّ أنحاء العالم لإصدار هذه الرّسالة، انطلاقاً من حديثهم المتنوّع في اختيارهم الرجوع إليَّ في التقليد على أساس ما كانوا يقولونه من اقتناع بذلك.
من هنا، كان إصدار هذه الرّسالة الفقهيَّة العمليّة استجابةً لطلبات هؤلاء، وتسجيلاً للاستفتاءات الموجَّهة منهم في أكثر موارد الرّسالة.. ومن خلال ذلك، اعتُبر اسمي من بين الأسماء المتداولة، فأنا أتلقّى يوميّاً الكثير من الأسئلة الفقهيَّة الّتي يطلب فيها رأيي لعمل المقلّدين من أفريقيا والخليج وأوروبّا وكندا والولايات المتّحدة الأميركيّة ولبنان ومن إيران.
أسلوب السيِّد في إطلاق الفتاوى
ـ إذا كان يفترض بكلِّ رسالة عمليَّة يصدرها المرجع لمقلّديه أن تحمل جديداً، فما هي العناوين والنقاط التي تعتبرها عناوين جديدة مميَّزة في رسالتك؟
ـ هناك فرق في الأسلوب الَّذي أتبنَّاه في الفتاوى الفقهيَّة، والأسلوب الَّذي يتبنَّاه الكثيرون من فقهائنا المعاصرين ومن تقدَّمهم في المرحلة السّابقة، وهو أنّني إذا ثبت لديّ دليل حكم شرعيّ من الكتاب والسنَّة والقواعد الاجتهاديّة، فإنّني أفتي به على أساس اقتناعي به، حتى لو كان مخالفاً للمشهور ومثيراً للجدل، بينما نجد أنَّ الكثيرين من فقهائنا، إذا لم يقتنعوا بحكم اقتناعاً كاملاً، وكان مشهور الفقهاء السَّابقين يتّخذ رأياً، فإنّهم يلجأون إلى الاحتياط، ويطلبون من النّاس الاحتياط في هذا المجال.
مثلاً في حلق اللّحية، نجد أنَّ كثيراً من علمائنا، ومن بينهم أستاذنا السيّد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله)، كان لا يرى من ناحية الدَّليل الاجتهاديّ وضوح حرمة حلق اللّحية، لأنّه يناقش الأدلّة المطروحة في السّاحة، ولكن لأنَّ الفقهاء الّذين كانوا قد تقدّموه لم يفتوا بالحليّة، فضَّل الفتوى بالاحتياط، فذكر أنَّ الأحوط وجوباً ترك حلق اللّحية إلا في حالات الضَّرورة.
كذلك مثلاً، هناك الرّأي الذي يقول بنجاسة الكافرين من أهل الكتاب، فإنَّ السيّد الخوئي (رحمه الله)، كان يفتي بالاحتياط في النَّجاسة، ولم يفتِ بالطّهارة رغم وضوح أدلَّة الطّهارة عنده، بينما كان بعض معاصريه، وهو السيّد محسن الحكيم، يفتي بالطهارة عند أهل الكتاب.
أمّا بالنّسبة إليّ، فإنَّني أرى أنّه ليس هناك إنسان نجس، سواء أكان مسلماً أم كافراً، كتابيّاً أم غير كتابي، فأنا أرى طهارة كلِّ إنسان، وقد كان السيِّد الشّهيد السيّد محمد باقر الصّدر، يرى هذا الرأي، ولكنّه يحتاط احتياطاً وجوبيّاً بالنّسبة إلى الكافر غير الكتابي، فلا يفتي بالنَّجاسة ولا يفتي بالطّهارة، انطلاقاً من تحفّظاتٍ تنطلق من أنَّ آراء العلماء الّذين سبقوا كانت على النّجاسة، وهو لم يقتنع بها، ففضَّل أن يحتاط، ولكنّني لما ثبت لديّ هذا الحكم الشّرعيّ أفتيت بالطهارة، وكان هذا غير مألوف في السّاحة، وربما كنت أوَّل من أفتى بالطَّهارة المطلقة للإنسان.
أمّا وجهة نظري في هذا المجال، فهي أنَّ الله سبحانه وتعالى شرّع أحكامه لتحلّ مشاكل النّاس، والأحكام هي بين يدي المجتهدين، حسب فهمهم الاجتهاديّ للنّصوص الواردة في هذا المضمون. وإنّني أتصوّر أنّه إذا ثبت لنا حكم شرعيّ يمكن أن يحلّ مشكلة الناس، فلماذا نبقي حياتهم في دائرة التّعقيد؟! وأذكر أنّ المرحوم السيّد محسن الحكيم (رحمه الله)، عندما أراد أن يفتي بطهارة أهل الكتاب بعدما كان رأيه السّابق النّجاسة، تحدَّث إليه بعض معاونيه ومستشاريه أنّ هذه الفتوى قد تثير ضدّه جدلاً كبيراً من المخالفين له، لأنّه أوّل مجتهدٍ شيعيٍّ يفتي بالطّهارة، وكان جوابه: لديّ الكثير من المقلّدين الذين يواجهون مشكلات عامّة وخاصّة نتيجة اختلاطهم بالآخرين، ولما كنت مقتنعاً بهذه الفتوى، كان عليّ أن أطلقها لأحلّ مشكلات هؤلاء الناس.
أنا أرى أنَّ الاحتياط يكون في الفتوى بالأمور الّتي تثير الجدل، أو الأمور الّتي خالف فيها الفتوى[1]، فمشهور الفقهاء ينطلق من حال تحفّظٍ تقويّةٍ يقف الإنسان فيها أمام نفسه ليحتاط لنفسه، حتى لا يفتي بفتوى يمكن أن تحمّله مسؤوليّة، ولو بنسبة عشرة في المئة أمام الله، مما يمكن أن يكون قد أخطأ فيه في الواقع، ولكنّي لا أمانع أن يعيش الإنسان هذا النّوع من التحفّظ التّقويّ، وفي الوقت عينه، أجد أنَّ القضيَّة سلاح ذو حدَّين، فنحن في الوقت الَّذي نتحفَّظ عن ملاحظةٍ لحماية أنفسنا من احتمالاتٍ في مخالفة الواقع، نجد أنَّ هناك مشكلةً عامَّةً في النَّاس تفرض علينا أن نواجه حاجاتهم من موقع المسؤوليَّة، في المجالات الّتي نستطيع فيها أن نخلِّصهم من الأزمات الَّتي يعيشون نتيجة فتوى سلبيَّة في مجالٍ أو آخر.
إنّني أقول إنَّ الإنسان إذا أراد أن يعيش اجتهاده لنفسه من خلال تحفّظاته الذاتيَّة، فعليه أن لا يبرز إلى المجتمع كمرجعٍ في الفتوى، بل عليه أن يحتفظ بفتاواه واحتياطاته لنفسه.. أمّا إذا كنت الإنسان الّذي يقف لينيب عن المجتمع في اجتهاداته، وفي اكتشاف الحكم الشّرعيّ، فعليك أن تحمل مسؤوليَّاتك الاجتماعيّة، فإذا تمّت لديك الأدلّة الشرعيّة التي تستطيع أن تقدّمها أمام الله لو حاسبك، فليست هناك مشكلة في أن تطلق الفتوى، ولن يحاسبك الله على ما لا يد لك فيه لو كان هناك خطأ غير مقصود.
كيفيّة استنباط الفتوى
ـ كيف يتمّ استنباط الفتوى عند مراجع الشّيعة؟ وهل يمكن الاستعانة بأطبّاء وأصحاب خبرة علميّة في مواضع معيّنة مثلاً؟
ـ هناك بعض الأبحاث الّتي يمكن أن تختلف فيها الفتاوى نتيجة اختلافٍ في فهم النّص، ولا بدَّ لك من أن تلجأ فيها إلى استنطاق النّصّ.
مثلاً، إنَّ الفقهاء الَّذين يفتون بنجاسة الكافرين، حتى من غير أهل الكتاب، يعتمدون الآية الكريمة الَّتي تقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا}[1]، فهم عندما استنطقوا هذه الآية، قالوا إنَّ ظاهر كلمة (نجس) هي المبالغة في النّجاسة، وهي القذارة البدنيَّة، معناه: إنما المشركون يمثّلون عنوان القذارة فيما تتمثّل به أجسادهم من النّجاسة.. فلو أنَّ الإنسان مسَّ جسد المشرك برطوبةٍ، لتنجّس العضو الذي مسّه من بدنه.. وعلى هذا الأساس، إذا كان المشركون الّذين يؤمنون بالله ويشركون بغيره محكومين بالنَّجاسة، فإنَّ الكافر الملحد محكوم بالنَّجاسة بطريقٍ أولى، لأنَّ ذلك يؤمن بالله ويشرك به، بينما ذاك لا يؤمن بالله، وهذا هو دليلهم على نجاسة الكافر الملحد والكافر المشرك.
هكذا فهموا الأمر، فقد استنطقوا كلمة النَّجس، وفهموا منها النّجاسة الماديّة التي يصطلح عليها في الفقه بالنَّجاسة الخبيثة.
أمّا أنا، ووفاقاً لكثيرٍ من الفقهاء، فقد استفدت من كلمة النّجس، بأنَّ المراد بها النّجاسة المعنويّة؛ نجاسة الفكر ونجاسة العقيدة، باعتبار أنَّ الشِّرك يمثّل شيئاً قذراً في العقيدة وفي الفكر، لأنّه يمثِّل عبادة إنسانٍ يعيش إنسانيّته في كلّ أجوائها الفكريّة والروحيّة، ويسقط أمام عبادة حجرٍ لا يحمل أيَّ معنى من القداسة، لكي يمنحه القداسة في مستوى الألوهيَّة أو الربوبيّة التي تجعله يعبده وينحني له، فهي نوع من القذارة الروحيّة والقذارة الفكريَّة الَّتي لا علاقة لها بالجسد، تماماً كما يقال باللّسان العربيّ إنَّ فلاناً من “أنجس الناس”.. إنّك لا تقصد أنّه من أنجس النّاس في جسده، بل تقصد أنّه من أنجس النّاس في فكره وفي طباعه في أخلاقيّاته وفي سلوكه.
وهكذا، انتهيت بنتيجة أنَّ النّجاسة هنا هي نجاسة الشّرك في مقابل طهارة التّوحيد، فهي نجاسة معنويّة وليست مادّيّة، فلا تترك آثارها في جسد الإنسان، بحيث يكون محكوماً بالقذارة الماديّة إذا مسَّه إنسان انتقلت النّجاسة إليه.. وقد استوحيت ذلك أيضاً من قوله تعالى في الفقرة الثّانية: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}[2]، فإنَّني قلت إنّه إذا كانت النجاسة هنا هي نجاسة البدن، يعني النجاسة الماديّة، فهذا التفريع يفرض علينا أن كلَّ نجسٍ لا يمكن أن ندخله المسجد الحرام، فلا يمكن أن ندخل قنّينة دم مغلقة إلى المسجد الحرام، ولا يمكن أن ندخل جلداً ميتاً نجساً إلى المسجد الحرام، مع أنَّ الفقهاء بأجمعهم يقولون إنَّه لا مانع من إدخال النَّجاسة الماديّة إلى المسجد الحرام إذا لم تؤثّر في تقذير أرضه، أي بأن لا نسكب الدّم على أرض المسجد، أو تكون الميتة رطبة، وما إلى ذلك.
من هنا، عرفنا أن لا علاقة بين النَّجاسة المادّية والمسجد الحرام، لذلك، لا بدَّ من أن تكون المسألة هي أنَّ المسجد الحرام بناه إبراهيم (عليه السلام) بأمر من الله ليطهِّره {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[3]، ليطهِّره من الأصنام.. ولذلك، فإنَّ المشركين عندما وضعوا الأصنام، وعندما كان دخولهم المسجد الحرام وسيلةً من وسائل عبادة الأصنام في داخل المسجد، أراد الله أن يطردهم من المسجد، حتى يكون المسجد مسجد توحيدٍ لا مسجد شرك.
هذا نموذجٌ من نماذج الاختلاف في استنطاق النصّ. وربما تحتاج بعض القضايا فيها إلى الرّجوع إلى الخبراء. مثلاً، هناك جدلٌ في مسألة، وهذا الجدل ينطلق من فكرة أنَّ الرّجل إذا خرج منه المني فعليه أن يغتسل، كما أنّه لا يجوز له الاستمناء، أي ممارسة العادة السريّة لإخراج المني، هذا أمر لا شكَّ فيه، هنا وقع نزاع: هل حكم المرأة كحكم الرّجل؟ هل المرأة إذا وصلت إلى قمَّة الشَّهوة من دون عمليّة جنسيّة كاملة، من دون دخول كما يقولون، عليها الاغتسال أم لا؟ وهل يحرم على المرأة العادة السريّة، بقطع النّظر عن النتائج السّلبيّة النفسيّة وغيرها؟ هل يحرم هذا العمل في ذاته، بقطع النّظر عن النتائج السّلبية التي تجعله حراماً بالعنوان الثانويّ؟
هنا ينطلق البحث من حيث كان لدى القدماء، ولكنَّهم لم يصلوا فيه إلى نتيجة: هل للمرأة مني أم ليس للمرأة مني؟ هل يخرج من المرأة عند وصولها إلى قمَّة الشَّهوة ماء كماء الرّجل، أم أنَّ المسألة هي مسألة توتّرات وتشنّجات نفسيّة، من دون أن يكون هناك أيّ ماءٍ عند وصولها إلى اللّحظة الحاسمة؟ هناك ماء يخرج في بداية الشَّهوة، ولكن هذا الماء ليس هو المني؛ هو بمثابة المني، هو مظهر الشَّهوة، وليس قمّتها.. والسؤال عندما تصل إلى منتهى اللذّة في شكل سطحيّ من دون دخول: هل يخرج منها شيء أم لا؟
كانت الذهنيّة الفقهيَّة من خلال بعض النّصوص أو غيرها، تقول إنَّ للمرأة ماءً كما للرّجل، وكما أنَّ الرّجل إذا خرج منه الماء يحكم عليه بوجوب الغسل، ويحرم عليه إخراجه بطريقة ذاتية، كذلك المرأة.
حاولت أن أرجع إلى أهل الخبرة في هذا المجال، لأنَّنا لا نملك الوسائل الَّتي نستطيع أن ننهي فيها هذا الجدل؛ هل للمرأة ماء أم لا؟ لأنَّ المسألة متَّصلة بالجانب التّشريعيّ.. ولذلك، حملت أسئلتي هذه إلى بعض المختصّين من أصدقائنا في أميركا، ليرجعوا فيها إلى أهل الاختصاص الكبار.. وجَّهت سؤالاً إلى عميد كلية الطبّ في الجامعة الأميركيّة سابقاً، الدكتور عدنان مروّة، وكانت النّتيجة أنَّ المرأة لا مني لها، وأنَّ هناك ماءً يخرج في بداية الشّهوة يعادل عمليّة الانتصاب للرّجل، فهو مظهر الشَّهوة، وليس نهاية الشَّهوة، وهذا ليس هو المني.. أمّا عندما تصل المرأة إلى قمَّة اللَّذّة، فإنَّه لا يخرج منها شيء، وليست هناك غدَّة تفرز الماء.
وبعدما وصلت إلى هذه النّتيجة، والَّتي رأيت أنها من الأمور البديهيَّة لدى الأطبَّاء، تقرَّرت لديَّ الفتوى بأنَّ المرأة إذا لم تدخل في عمليّة جنسيّة كاملة لا تحكم بالجنابة، حتى لو وصلت إلى قمَّة الشَّهوة، فليس عليها الغسل.. وهكذا، فإنَّ العادة السريّة بالنّسبة إلى المرأة ليست محرَّمة من هذه الجهة، لأنَّ العادة السريّة تحرم مع حصول الإمناء، كما يقول السيّد الخوئي في بعض أجوبة استفتاءاته، فإذا لم يكن هناك مني فليس هناك إمناء.
لكنَّنا في الوقت نفسه، لا نشجِّع على ممارسة هذه العادة، ليس من ناحية الحرمة الذاتيَّة، بل من ناحية الأضرار النفسيَّة وغير النفسيَّة التي قد تؤثّر في الحياة الجنسيَّة للمرأة في المستقبل، وقد تؤدّي إلى أزمات نفسيَّة في ذاتها، لكنّنا كنا نعالج الأمر من خلال ذاتيَّة العمل، لا من خلال العناوين السَّلبيّة الأخرى التي يمكن أن تنعكس على العمل في الجانب النفسيّ من حياة المرأة، أو في الجانب الجسديّ الآخر الّذي قد يؤدّي إليه إدمان هذه العادة مثلاً.
وفي موضوع الهلال، كنّا نرجع إلى أهل الخبرة. ومثال ثانٍ أثار الجدل ولا يزال، هو الفتوى بأنَّ مسألة بداية الشَّهر هي في الهلال الفلكيّ لا في الهلال الرّؤيوي، إذا صحّ التّعبير، فقد لاحظت أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الصِّيام منوطاً بعنوان الشّهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـ إلى أن يقول ـ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ـ شهد يعني حضر وليس رأى وكان حاضراً غير مسافر ـ فَلْيَصُمْهُ}[4]، فعلّق وجوب الصَّوم على تحقّق عنوان الشَّهر، وقلت إنَّ الشَّهر ظاهرة كونيَّة، وكلّ الظواهر الكونية تخضع لأسبابها الطبيعيّة المودعة في الكون، كما أنَّ اللّيل ظاهرة كونيّة طبيعيَّة، والنّهار ظاهرة كونيّة طبيعيّة.. فاللّيل يبدأ بالغروب والنّهار بالشّروق، سواء أرأينا الغروب أم لم نره..
فالرؤية وعدمها لا دخل لها في مسألة تحقّق الظاهرة الكونيّة، فالرؤية حالة ذاتيّة في الرّائي، وليست حالة موضوعيَّة في الظّاهرة..
إنَّ الظاهرة تحدث بأسبابها الطبيعيَّة، سواء أشاهدتها أم لم تشاهدها، فلماذا نريد أن نربط الظَّاهرة بالرّؤية؟ هكذا كنت أفكّر، ولذلك قلت إنَّ مسألة الشهر هي ظاهرة كونيّة تتكرّر في السنة اثنتي عشرة مرّة، ووجَّهت السؤال إلى نفسي: ما الَّذي يجعل الشَّهر شهراً مختلفاً عمّا بعده وعمّا قبله؟ الزمن مستمرّ، وما قسَّمه هو دخول القمر المحاق في نهاية الشّهر وخروجه منه بداية الشّهر، فإذا أخبرَنَا أهلُ الاختصاصِ الّذين يوجب قولهم اليقين بأنَّ القمر خرج من المحاق، يكون معناه أنَّ الشّهر بدأ، فلا أحتاج إلى أن أجمع الناس لأطلب منهم الرؤية، ونحن نعرف أنَّ الرؤية ليست دقيقةً حتى للرائي، لأنَّ الإنسان الذي يستغرق في فكرة القمر، قد يرى آلاف الأقمار أمامه من خلال هذا الاستغراق في الفكرة، ومن خلال التخيّلات التي تحفل بها تموّجات الفضاء، وخصوصاً في تموّجات النور والظلمة وما إلى ذلك، حتى إنَّ البعض يدَّعي رؤية الهلال قبل غروب الشّمس.
هنا وقفت أمام نصٍّ شرعيّ هو الذي اعتمده الفقهاء من السنّة والشيعة في مسألة اعتبار الرّؤية أساساً في الحكم في بداية الشّهر أو نهايته: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”، فقد يستفاد من هذا الحديث أنَّ الصَّوم معلّق على الرؤية، وأنَّ الإفطار معلَّق على الرّؤية.. فما لم نرَ الهلال، فليس لنا أن نصوم في البداية، أو أن نفطر في النّهاية، حتى لو قرَّر الفلكيّون أنّ الشّهر بدأ.
هنا، انتبهت إلى ملاحظة كانت في بعض أبحاث السيّد الخوئي، وإن لم ينتهِ إلى النّتيجة التي انتهيت إليها.. فالسيّد الخوئي يقول إنّ الرؤية هي وسيلة إثبات وحركة في المعرفة، ولذلك ليس لها موضوعيّة في المسألة، ليست هي موضوع الحكم، ولكنّها تمثّل طريقة إلى الحكم، يعني الطريق إلى الموضوع.
وفي ضوء هذا، إذا كانت الرؤية مجرّد وسيلة، فلماذا أطلقها النبيّ ولم يحدّثنا عن الهلال الفلكيّ؟ لسببٍ بسيطٍ جداً، وهو أنَّ الوسائل التي كان يملكها النّاس في ذلك الزمن، لليقين بدخول الشّهر أو خروجه، لم تكن وسائل متطوّرة، بحيث توجب اليقين بدخول الشّهر أو خروجه.. لقد كانت الوسيلة اليقينيّة الوحيدة هي الوسيلة الوجدانيَّة من خلال الرؤية، ولذلك اقتصر عليها، ولم يتحدّث عن الوسائل الأخرى، اعتماداً على أنّ الموضوع هو شهر رمضان، فلا بدَّ من أن نتيقَّن من دخول شهر رمضان أو خروجه، فإذا حدثت لدينا وسائل يقينيّة أخرى نعتمدها.
ومن جهةٍ أخرى، ورد عن النّبيّ في الحديث عن الحساب في مسألة الشَّهر: “إنّنا أمَّة أمّيَّة لا تحسب”، ويعني أنَّ الحساب لم يكن موجوداً عندهم بالدقّة التي يمكن أن نصل فيها إلى نتيجةٍ قطعيَّةٍ حاسمة في هذا المجال، ولهذا لم ينكر الحساب كمبدأ، إنما أنكر واقعيَّته في حياة الأمَّة في هذا المجال، وربما يُستوحى منه هذا الكلام.
ولاحظت أيضاً أنَّ هناك فقرة تسبق هذه الفقرة، وهي “اليقين لا يدخله الشكّ.. صوموا للرّؤية وأفطروا للرؤية”، ويعني لا تعتمدوا على الشكّ في مسألة شهر رمضان، ولكن اعتمدوا على اليقين. وتفريع الصَّوم للرّؤية والإفطار للرّؤية على هذه الفكرة، معناه أنَّ القضيَّة تدور مدار اليقين والشّكّ، فإذا حصل لنا اليقين، سواء أكان من خلال الرّؤية أم غيرها، فيمكن أن نصل إلى النَّتيجة الحاسمة، وإذا لم يحصل لنا اليقين، فلا بدَّ لنا من أن نتوقَّف حتى يحصل.
من هنا، كانت دراستي لمسألة الهلال كظاهرةٍ كونيَّةٍ، ودراسة عناصر هذه الظَّاهرة، ومقارنة ذلك بالنّصوص، بحيث استفدت أنَّ دور النصوص هو دور الوسيلة للمعرفة، وليس دور العنصر الذّاتي للموضوع.. فبذلك، كانت الفتوى أنّه يكفي في دخول شهر رمضان وخروجه خروج القمر من المحاق ودخوله فيه، وهذا مما يعتمد فيه على أهل الخبرة، الّذين وصلوا في التّجربة إلى مستوى يستطيعون من خلاله أن يحدِّدوا هذه القضيَّة.
التّعدّدية في المرجعيَّة هي ظاهرة طبيعيّة في تاريخ المرجعيّة الشيعيّة، وليست حدثاً جديد
تعدّد المراجع.. طارئ أم قديم؟!
ـ لدى الشِّيعة في العالم أكثر من مرجعٍ للتَّقليد الآن، فهل هذا الأمر جديد طارئ أم قديم؟
ـ تعدّد المراجع أمر معروف في عالم الشِّيعة، فقبل مئة وخمسين عاماً، لم تكن هناك مرجعيَّة شاملة للشّيعة، وكان الناس يرجعون في كلِّ منطقة إلى علمائهم الموجودين فيها، من دون أن ينتظروا وصول رأي المجتهد الكبير الموجود في المراكز العلميّة كالنّجف وغير النّجف، فكان أهل جبل عامل يرجعون إلى فقهائهم ومراجعهم، وجبل عام كانت مدرسة علميَّة فقهيّة واسعة، فيها العلماء الكبار الّذين لا يزال يتغذَّى فقهاء الشيعة من فقههم، كالشّهيد الأوّل والشّهيد الثاني والمحقّق الكركي وغيرهم.. فكان النّاس يرجعون إلى العلماء الموجودين بينهم، وربما يرجع إليهم من كان قريباً من المنطقة.
لذلك، لم تكن هناك مرجعيَّة مركّزة شاملة، ربما بدأت المرجعيّة الشّاملة عندما بدأت البلاد تتقارب، في مدى مئة سنة أو أكثر. وفي هذه الحال، لم تكن المرجعيَّة ناشئةً من وجود قرارٍ جماعيٍّ يعتمد على التَّصويت وعلى نسبة الأصوات، بل كانت تنطلق عفويّاً، إذ يبرز من بين العلماء الموجودين في حاضرة النّجف أو في غيرها، علماء مجتهدون يبدعون في تقاريرهم وفي دروسهم، ويبرزون دون سواهم، عندئذٍ يصبح هؤلاء تدريجيّاً موضعاً للثّقة العلميَّة والتّقويّة، وتضرب شهرتهم الآفاق، وكان طبيعيّاً أن يرجع البعض إلى مرجعٍ ما يرونه الأكفأ، ويعود غيرهم إلى سواه للأسباب نفسها، فتمشي الأمور على هذا النَّحو.. وقد يموت مجتهد، فينصرف التَّقليد إلى المجتهد الّذي بدأت مرجعيَّته في السَّابق.
وربما تتوحَّد المرجعيّات في مرجعٍ واحد، كما حصل بالنِّسبة إلى الميرزا محمّد حسن الشيرازي، صاحب الفتوى المشهورة (فتوى تحريم التّنباك)، وبالنّسبة إلى السيّد أبي الحسن الأصفهاني، والسيّد محسن الحكيم، وما إلى ذلك.
والتّعدّدية في المرجعيَّة هي ظاهرة طبيعيّة في تاريخ المرجعيّة الشيعيّة، وليست حدثاً جديداً، ولكن الفرق أنّه في المراحل السابقة، كان هناك مراجع كبار متجذّرون في ذهنيَّة الأمّة، فإذا مات مرجع تتوجَّه الأمّة تلقائياً إلى مرجع غيره سابق، كما هي الحال عندما توفي السيّد محسن الحكيم، فإنَّ الأمّة عموماً توجَّهت إلى السيّد أبي القاسم الخوئي، لأنَّ مرجعيَّته كانت متجذّرةً سلفاً، وتتلمذ عليه الكثير من الطلاب، وعرفوه أهل ثقة وعلم.
وفي المرحلة الأخيرة، وتحديداً بعد وفاة آية الله الأراكي (أحد المراجع الكبار في قمّ)، كانت الأسماء المطروحة لخلافته متقاربة، ولذلك، أثارت المسألة جدلاً، وانفتح الإعلام على هذه المسألة، ولم يكن انفتح عليها سابقاً..
أمّا من جهة خصوصيَّة إيران الّتي يحاول الإعلام أن يثير الجدل حولها في كلّ جانب من جوانبها، فهناك ربما ظروف معيّنة جعلت الإعلام ينتبه إلى هذه المسألة في الواقع الشّيعيّ، لأنَّ الخصوصيّة الشّيعيّة أصبحت تمثّل مشكلة عالميّة، لربطها بالإرهاب، أو لربطها بأكثر من موقعٍ سياسيّ في المنطقة.
علاقة المكان بالمرجعيّة!
ـ المرجعية الشيعيَّة ارتبطت دوماً بالنَّجف تاريخاً، ثم بالنَّجف وقمّ في المئة عام الأخيرة، فهل للمكان علاقة بالمرجعيّة والمرجع؟
ـ المكان ليس أساسيّاً في الفقه المرجعيّ، لأنَّ الفقه كان يتّصل بكفاية المرجع، أمَّا على مستوى نظريّة الأعلم ووجوب تقليده، وعلى المستويات الأخرى، فقد كان الغالب أن يبرز المرجع من الحاضرة العلميّة الدّينيّة، لأنّ المرجعيّة تمثّل امتداداً في كلّ مواقع الوجود الإسلاميّ الشّيعي في العالم، والحواضر الدّينيّة تشمل طلاباً من سائر مواطن الشّيعة في العالم.
ولذلك، كان هؤلاء الطلاب الّذين يرجعون إلى هذا المرجع أو ذاك، لأنّهم قادرون على الوصول إليه، كانوا يعكسون معرفتهم بالمرجع عندما يبلغون مناطقهم، بينما لم تكن هذه المسألة تتوافر لمرجعٍ آخر، وخصوصاً في غياب الوسائل الإعلاميَّة الواسعة، في مناطق أخرى بعيدة عن الحواضر العلميَّة، لأنَّه حتى لو وجد هناك عالم كبير يمكن الرّجوع إليه، لم يكن النّاس يعرفونه ولا العلماء، فالحاضرة العلميَّة كانت تتيح فرصة معرفة هذه الأسماء من طلاب الحوزة، وبالتَّالي تنعكس هذه المعرفة على مناطقهم.
ولكن كانت هناك اختراقات في هذا المجال، فنحن نعرف أنّ مرجعيّة السيد الحسين البروجردي الّتي كانت تعيش جنباً إلى جنب مع مرجعيّة السيّد محسن الحكيم، وكانت مرجعيّة واسعة، كان يسكن في قمّ في إيران قبل أن تتوسّع قمّ لتكون الحوزة العلميّة الكبرى بعد ضعف النّجف كحوزة نتيجة السياسات القائمة في العراق.
علاقة المرجعيَّة بالمكان ليست قضيَّة فقهيَّة، بل قضيّة ناشئة من الظروف الموضوعيَّة التي تتيح لهذا المرجع أو ذاك أن ينتشر اسمه في الآفاق
لذلك، نرى أنَّ علاقة المرجعيَّة بالمكان ليست قضيَّة فقهيَّة، بل هي قضيّة ناشئة من الظروف الموضوعيّة التي تتيح لهذا المرجع أو ذاك أن ينتشر اسمه في الآفاق، ومن الممكن جدّاً أن تكون التطوّرات الأخيرة في المرجعيّة قد جعلت إيران تنتبه إلى هذه القضية، لتفكّر في أنّ غياب المرجعيّة عنها ووجودها في النّجف أو في أيّ مكان آخر، يمكن أن يضعف صدقيّة الجمهوريّة الإسلاميّة في العالم الشيعي، لأنّ العالم الشيعي لا يزال منفتحاً على المرجعيّة كعنوان تاريخيّ متّصل بكلّ مفاصل الوجود الشّيعي، ولم تبلغ ولاية الفقيه هذا الواقع الشيعي، في وقتٍ رأت إيران أنَّ الاستكبار العالميّ بدأ يشنّ حملةً عليها في هذا الجانب، من أجل أن يثير الخلاف ويشوِّه الصّورة ويعزلها عن المرجعيَّة، فتضعف في علاقة الوجود الشّيعي بها وعلاقتها به، ولتبقى المرجعيَّة في النَّجف المحكوم للنّظام العراقي، ولتبقى الحوزة في النَّجف ضعيفةً، ما ينعكس في نهاية المطاف ضعفاً على المرجعيَّة ككلّ.
فالمرجعيّة إذا انتقلت من إيران الّتي تعطيها القوَّة، ووُجِدت في النّجف التي تعيش الضّعف، فستكون ضعيفة، حتى لو كان المرجع إيرانيّاً، ونرى أنّ السيّد السيستاني هو إيراني من محافظة خراسان، وليس عربيّاً، وإن أمضى معظم حياته في النّجف.
لهذا أصبحت إيران تفكّر في خصوصيَّة وجود المرجعيَّة في قمّ، وأن يكون علماء قمّ هم المرجع في تعيين المرجعيَّة، لتمنح خطَّ التّشيّع الذي تمثّله الجمهوريّة الإسلاميّة قوّةً في موقع القوّة.
مشروع المرجعيّة المؤسّسة
ـ في أكثر من محاضرة ولقاء خاصّ، ناديتم بتحويل المرجعيّة الشيعيّة إلى مؤسّسة واسعة، مثل الفاتيكان، بدل أن تكون مرجعيّة الشّخص، فأين أنتم الآن من هذا المشروع؟
ـ لقد طرح السيّد محمد باقر الصّدر مشروع المرجعيّة الرشيدة، وهو مشروع يحاول أن ينظّم المرجعيّة تنظيماً إداريّاً، ويحقّق لها العطاء الرّسالي أكثر.
أمّا أنا، ففي وقتٍ كنت ألتقي المرحوم الشّهيد السيّد محمد باقر الصّدر في هذا الموضوع، كنت أفكّر في أنّ المرجعيّة لا بدّ من أن تكون شاملة، وأن تخرج من مرجعيّة الشّخص الّذي يدير أمورَه أولادُه وأصحابه وأحفاده وأصدقاؤه، لتكون مؤسّسةً يترأّسها المرجع، ولكنّها تتمثّل في نظامٍ كاملٍ يضع الدراسات ويركّز العلاقات، بحيث إذا مات المرجع وجاء غيره، يستطيع أن يرى كلّ تاريخ سلفه في كلّ علاقاته ونشاطاته ومشاريعه وأفكاره، بدل أن يتحوّل كلّ تراثه إلى أولاده كما يحدث الآن.
وكنت أعطي مثلاً الفاتيكان، وأرى أنّ المرجع لا بدّ من أن ينتخب انتخاباً من علماء الشّيعة وأهل الخبرة في العالم، تماماً كما ينتخب كرادلة العالم البابا، وأن تكون المرجعيّة مؤسّسةً ذات فروع واختصاصات وأجهزة متنوّعة.
وقد أثار هذا الموضوع جدلاً كبيراً على السّاحات الحوزويّة وغيرها، بعدما صدر في كتاب بعنوان: “المعالم الجديدة للمرجعيّة الشيعيّة”، وأقيمت ندوة في لبنان في إذاعة “صوت الإيمان” حوله، وصدر في الموضوع نفسه كتاب “المرجعيّة وحركة الواقع”.. إنّني أطرح هذا الطرح، لأنني أعتقد أنّه السّبيل الكفيل لإيجاد مرجعيّة فعّالة متحركة تستطيع أن تطلّ على العالم وتواكب طموحات كلّ الجيل الشابّ، الذي يريد من المرجع أن يعطي رأيه في أيّ قضيّة عالميّة وأيّ مشكلة اجتماعية، وأن يحرّك الأجهزة من أجل احتواء كلّ المشكلات العالقة في هذا الوسط بطريقةٍ وأخرى، حسب الإمكانات الموجودة بين يديه..
لكنّ هذا المشروع ليس للحاضر، لأنّ الأمر يقتضي أوّلاً أن يتبنّى الرأي العام الشّيعي، ولا سيّما منه الحوزات، هذه الفكرة، وأعتقد أنّ هناك تطلّعات نحو هذا المستوى من التّفكير، وأنّ هناك جدلاً ونقداً للواقع، ولكنّ الأمر يحتاج إلى ظروفٍ أوسع، وإلى حوارٍ أشمل.. كما يحتاج إلى تطوّرات ومتغيّرات، لذلك طرحت أن يكون مشروع المستقبل.. أمّا الحاضر، فيمكن أن يحدث فيه بعض التّغييرات الشكليّة أو بعض التّغييرات في الأساليب والمناهج وما إلى ذلك، وهذا ما نسعى إليه…