بالعودة إلى أرشيف العلامة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف المهمّة الّتي كان يطلقها أمام الوفود من مختلف الشّرائح الاجتماعيّة، فقد كان سماحته قد استقبل بتاريخ: 17 صفر 1428ه/ الموافق: 7/3/2007م، وفداً من حكومة الظلّ الشبابيّة، تحدَّث باسمه الأستاذ موريس البعينو، عن هذه الخطوة الشّبابيّة في ظلِّ التّعقيدات الّتي يعيشها الوضع اللّبنانيّ على أكثر من مستوى، شاكراً لسماحة السيِّد فضل الله استقباله وخطابه المنفتح الدّاعي دائماً إلى المحبَّة وتغليب لغة التَّسامح والعقل على لغة الانفعال.
ولفت السيّد فضل الله(رض) إلى أهميّة وعي الشّباب ودورهم في الانفتاح على الواقع بجدّية ومسؤوليّة، فقال: “إنّنا نشعر بأهميّة تجربتكم كشبابٍ مثقَّف ومنفتح يحاول أن يدرس الواقع اللّبنانيّ في كلّ تحوّلاته وفي كلّ الامتدادات الّتي يعيشها لبنان، سواء أكانت ثقافيّة أم سياسيّة أم اجتماعية… نحن نعتقد أنّ دور الشباب اللّبناني المثقّف هو أن يفكر، لأنَّ المشكلة الموجودة عندنا في الوسط السياسيّ اللّبنانيّ، هو أنّه ممنوع على الشّباب وعلى الناس أن يفكّروا، وأن الزعامات ـ التي قد تكون انطلقت من أوضاع معقَّدة ـ هي الّتي تفكِّر، ليبقى على القاعدة أن تصفّق وتهتف وتصوّت، من دون أن تفهم ما هو الأساس الّذي انطلق منه هذا الفريق أو ذاك، وما هو عمقه السياسي أو الثّقافي”.
وأضاف في معرض توجيهه للشّباب: “إنّ لبنان يمثّل في هذه المنطقة واحةً يتنفَّس فيها الناس الحريّة؛ حريّة الفكر بتنوّعاته الثقافيّة، وحريّة السياسة في امتداداتها المحليّة والإقليميّة والدّوليّة، ويبقى للإنسان اللّبنانيّ أن يختار من خلال هذا التنوّع، وهو الأمر الّذي لا تسمح به الأنظمة الشموليّة ذات الخطّ الواحد، ولكنّ المطلوب من هذا الإنسان أن يفكّر، والمطلوب من حركتكم و”حكومتكم”، أن تحثَّ الجماهير على أن تفكّر قبل أن تختار”.
وتحدَّث سماحته عن عمل الأحزاب وما يتعلَّق بها، قائلاً: “ينبغي أن يُقال للأحزاب إنّ عليها أن تحثَّ جماهيرها على التّفكير، لأنَّ المشكلة هي أنَّ هذه الأحزاب تحوَّلت إلى أحزاب تقليديّة تخضع للأوضاع اللّبنانيّة العاديّة، حيث نجد أنَّ القمّة فيها لا تطلع القاعدة على خلفيّاتها الفكرية، ولذلك جرى اختزال الديمقراطيّة بالحديث عن حرية التصويت، من دون أن تفهم القواعد ما هو المضمون الفكري للديمقراطية في امتداداته المتنوعة، لتصبح المسألة عنواناً لا مضمون له… وهكذا في مسألة العلاقات، سواء أكانت هذه العلاقات مع محيطنا العربي أم علاقاتنا الداخليّة أم الواقع الدّولي، ما هي حدود هذه العلاقات؟ وهل نرتبط بهؤلاء من خلال مصالحنا ومصالحهم، أو أنّ هذه المواقع تريد أن تفرض خطوطها السياسيّة علينا، أو ربما تحاول أن تقوم بعمليّة خداع وغشّ لنصل إلى الحقيقة في نهاية المطاف، فنجد الوصاية ماثلةً أمامنا فيما جرّبناه وفيما نراه؟!”.
وقال: “إنَّ علينا أن نحمي حريّة لبنان، ثم أن نحمي هذه الحريّة من الفوضى، ولا بدَّ لهذه الحريّة من أن تنبض بالمحبَّة تجاه الآخر.. المشكلة أنّنا لا نزال نعيش الغرائزيّة الّتي تتحرّك من خلال هذه الشخصيّة أو تلك، لتضخّم نفسها على حساب الطّائفة، من خلال العصبيّة التي تصطنعها لنفسها لتلتفّ النّاس حول الشّخص باسم الطّائفة”.
وختم موجِّهاً كلامه إلى الشَّباب: “أنتم شباب تعطون لأنفسكم عنوان “حكومة الظلّ”، والمفروض أن تمارسوا معنى حكومة الظلّ، فمن الممكن جدّاً من خلال التجربة السّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة التي تتحركون بها، ومن خلال حواركم وحركتكم، أن تكونوا في مواقع المسؤوليّة مستقبلاً. لذلك، عليكم من الآن أن تدرسوا ما هي السلبيّات التي تطوّق الواقع السياسيّ اللّبناني، وكيف يمكن أن نطوّر هذا الواقع حتى نخرج من كلِّ هذه الزنازين الطائفيّة التي تخاطب غرائزنا ولا تخاطب عقولنا، أنتم تستطيعون الآن دراسة طروحات المعارضة بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، وطروحات الموالاة بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، وأن تعملوا على تقديم اقتراحات الحلول، وكيف يمكن أن نخرج من كلِّ هذا العناد السّياسيّ الّذي يشعر فيه أيّ طرف بأنّ التنازل هنا وهناك يعني العودة إلى صيغة الغالب والمغلوب، بينما ينبغي أن يكون الوطن هو الغالب، وأنّنا عندما نقدّم التنازلات نقدّمها لمصلحة الوطن… نريدكم أن تنطلقوا من تجربة واسعة تتعرَّفون فيها كيف توظّفون الأوضاع الدّوليَّة والإقليميَّة الّتي تحاول الإدارة الأميركيَّة بالإرهاب الدّمويّ والسّياسة التفتيتيَّة أن تهزَّ المنطقة تحت عناوين الاعتدال والتطرّف، وعناوين السنّة والشّيعة والعروبة والفارسيّة، وما إلى ذلك… لتتمّ دراسة الأوضاع، وكيف نستطيع أن نجعل واقعنا بمنأى عن هذه التوتّرات التي تريد أميركا من خلالها خلط الأوراق في المنطقة… وأن نركّز الخطوات لنصل إلى لبنان جديد، لأنّني أزعم أنّنا لم نتحرّك نحو لبنان جديد، بل نسير في عمليّة تراجعيّة، لأنّه حتى الشّخصيّات السّياسيّة الّتي كانت تتحرّك في الأربعينات، كانت تنطلق من قاعدة سياسيّة، بينما نجد أنَّ الكثير من الشّخصيات السياسيّة الحاليّة تتحرك من اللاقاعدة، بل من الغرائزيّات والانفعالات.
إنّني أحبّ دائماً أن أستمع إليكم وإلى كلّ الشباب، فيما يفكّر وإلى ما يتطلّع إليه من الأمور، فأنا أتابع تجارب الشّباب، وأتمنّى نجاح هذه التجارب من خلال الحوار الّذي يعمّق المحبّة العقلانيّة، لأنّ المحبّة الغرائزيّة هي محبّة الجسد، أما المحبة العقلانيّة، فهي محبّة الحياة. علينا أن ننطلق من المحبّة ومن رحم الحوار، لعلّنا نستطيع أن نلتقي بلبنان في مطلع الشَّمس”.
المصدر: بينات