كتبت كاتيا سعد من باريس تحت عنوان “كواليس المغترب… لا داعي للحسد” الآتي:
كم يسهل على اللبناني أن يردّد: “بدّي قدّم هجرة، عَ القليلة بعيش بكرامتي…”.
وكلما سمعت هذا الكلام أتساءل: “شو هيي كرامتو؟ والله أنا لما كنت عايشي بلبنان – واليوم بالهجرة – كرامتي بعدا عايشي معي وفيّي”. فيا مواطني، الكرامة تبدأ وتنتهي عندك بعيداً عن أيّ زمان ومكان… وكلّما التقيتُ بمثل هذا الشخص، سؤال بسيط أطرحه عليه: “هل جرّبت الغربة مرّة؟” وغالباً يكون الجواب: “لأ. بس الأكيد أحسن من هون…”
حسناً، لا داعي للجدال بل فقط سأدعو هذا اللبناني للتعرّف على بعض تفاصيل عيش نظيره في الاغتراب، الذي يقول بعد سنوات من الغربة “والله ما في أحلى من عيشة لبنان، كيف ما كانت ظروفو”. وهنا أستذكر المثل “اسأل مجرّب، وما تسأل حكيم”.
كنتُ ما أزال طفلة رضيعة في حضن الغربة، وإذ بي أتعرّف على لبناني مقيم منذ سنوات في باريس ؛ وبعد أشهر مضت على صداقتنا، يقول لي “انطري تيصرلك شي 8 سنين أو 10 مغتربة، ورح تصيري تفكّري متلي بالرجعة ع لبنان، وتسألي حالك شو عم نعمل برّا شغل وبيت وشوية ضهرات”. نظرتُ إليه وقلتُ “أنا اخترت الغربة وأنا حبّيت ابقى”. اكتفى بالردّ “إذا بقينا رفقا منذكّر بعض”.
واليوم، وأنا في عمر النضوج بغربتي، بعد 10 سنوات مرّت وأنا مقيمة في باريس، أوّل ما أستعيده من ذاكرتي عن الغربة هو ذاك الحديث الذي دار بيني وبين صديقي. ومعه أفكّر بشريط من تفاصيل نعيشها في حضن هذا البلد الجديد ؛ وتجارب نختبرها في هذا “الوطن المضيف” الذي نشعر فيه، ولو للحظة، بأننا غرباء مهما غمرنا الإحساس بالإنتماء إليه: أوّل ما يخطر على بالي هو أنّ عمرنا يتضاعف متى أقمنا خارج حضن الأهل، وحسّ المسؤولية نلمسه باليد ونحن خارج حدود الوطن.
في البداية، يبدو الواقع جميلاً، بل مبهراً، ذلك لأنّنا نعيش إلى حدّ ما حياة السائح فنعشق ما نراه من نظام، نظافة، ثقافة، علم، طبابة، أماكن عامة تغنيك أحياناً عن السهر أو جلسات المطاعم؛ هنا ثمة احترام لكلمة “إنسان”، تتعرّف إلى حقوقك وواجباتك، المعاملة بالتساوي بين مقيم ومغترب، قيمة الشهادة في العمل وأهمية الخبرة مع مرور السنوات، ضماناتك محفوظة وإلا تبقى الكلمة للقضاء. ولكن، كلّما تقدّمتَ بمشوارك، وغُصْتَ في أعماق حياتك هنا واكتشفت دهاليزها، صدّقني ستختبر الوجه الآخر لحياة الاغتراب، وستنظر إلى التفاصيل الباقية بعين المواطن المقيم وأوّل ما تتساءل عنه حياتك الشخصية – الاجتماعية التي تكاد تكون شبه غائبة، فالكلّ يهتم بأعماله وبيته وعائلته وعلى حدّ القول الفرنسي الشائع “métro boulot dodo” بمعنى “مترو (وسيلة النقل العام)، عمل، نوم”.
فكيف لا ينشغل كلّ بعالمه وكل المسؤولية في إنهاء أعمالك تقع على عاتقك، ناهيك عن الوقت الذي تقضيه في التنقّل بين منزلك ومكان العمل؟
في الضرائب “ممنوع الغلط” وإلاّ ستدفع الجزاء وبشكل أوتوماتيكي ؛ المخالفة في القيادة كفيلة بأن تكلّفك خسارة دفتر القيادة ولتحصل عليه قد يضطرك الأمر إلى تمضية سنوات وأنتَ تكرّر تقديم امتحان القيادة الخطّي والتطبيقي؛ حتى في المجال الطبّي قد تعاني أحياناً من مشكلة الحصول على موعد قريب من الطبيب الاختصاصي فقد يتعدّى الانتظار أحياناً حدود الـ 3 أشهر؛ وآخر نقطة أضيفها هو مفهوم “الواسطة” الذي لا يغيب حتى في بلاد الاغتراب، وإن لم يكن شائعاً في كل المجالات. وبحسب ما قاله أحد المعارف، وهو مخضرم في مجال الأعمال في فرنسا: “الواسطة موجودة وبقوة في الخارج، وهذا المفهوم بدأ من الخارج قبل أن يصل إلى بلادنا…”
وبعيداً عن حديث المشاعر والعواطف، إنّ التطرّق إلى هذا الموضوع هو بمثابة دعوة إلى كل مواطن يتطلّع إلى أخذ أيّ تأشيرة، أن يحقّق الواقع رغبته. وإن أرهقت الغربة جسدك ونفسيّتك أحياناً، فهي تساعد في تعلّم النظر تجاه المواقف نفسها ولكن بعين مختلفة وخاصة أكثر إيجابية.
وتبقى كواليس المغترب خاصة به وحده. فلا تحسده على عيشته ما دامت الفرصة لم تسنح لك بعد لتجربة هذا الواقع…
*كاتيا سعد – إعلامية لبنانية مقيمة في باريس