قنبلة النازحين الموقوتة

كتب المحرر السياسي:
لبنان بلا رئيس للجمهورية، لليوم الثامن عشر بعد المئة على التوالي.
إذا صحت تحذيرات بعض الدول وتقديرات مؤسسات دولية وأخرى رسمية لبنانية، أبرزها وزارة الداخلية، فإن الحدود اللبنانية، وخصوصا الشمالية، ستكون في الأشهر المقبلة، عرضة لضغط كبير من النازحين السوريين، وذلك تبعا لمجريات ميدانية، فإذا ازداد الضغط العسكري على «داعش» في العراق، ستكون مضطرة لتوسيع حضورها وحدود «دولتها» في سوريا باتجاه دير الزور وحلب (المناطق الكردية وهذا ما بدأ يحصل) وحماه وحمص وصولا إلى البحر، ناهيك عن احتمال فتح جبهة حقيقية في الجنوب السوري وتحدً يدا في درعا عند الحدود مع الأردن.
ووفق التقديرات نفسها، يمكن أن يصل عدد النازحين السوريين إلى لبنان في النصف الأول من العام 2015 إلى حدود المليوني نازح، أي حوالي نصف الشعب اللبناني، لكن الأخطر هو تصاعد فرص «داعش» في التسلل أمنيا إلى الداخل اللبناني، سواء عبر «الخلايا النائمة» أو محاولة بلوغ نقاط قريبة من الحدود اللبنانية شرقا أو شمالا، وهو احتمال تضعه مراجع أمنية لبنانية «في الحسبان»، وخصوصا في منطقة عكار.
ووفق تقرير رسمي لبناني فان قرار لبنان إبقاء حدوده مفتوحة بشكل كلي، وهو وحده الذي يعتمد هذا التوجه، من بين دول الجوار السوري، سيسمح لكتل جديدة من النازحين الهاربين من عنف المعارك المقبلة بدخول لبنان والتنقل بحرية، فقد وصل عدد النازحين في مطلع هذا الصيف (1,5 مليون) الى ما يوازي 30 في المئة من سكان لبنان حاليا، واذا ما اضيف اليهم عدد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين منذ العام 1948، يصل إجمالي اللاجئين الى حدود 41 في المئة من عدد السكان. ولا تشمل هذه الأرقام النازحين الفلسطينيين من مخيم اليرموك (53 ألفا)، ولا النازحين اللبنانيين من سوريا (50 ألفا على الأقل).

قلق لبناني لأكثر من عشر سنوات

ويقود التفكير الواقعي إلى استنتاج مفاده أنه حتى لو انتهت الأزمة السورية في وقت قريب(وهو أمر مستبعد)، فان لبنان «سيعيش حالة قلق شديد (أمني ـ سياسي ـ اجتماعي) نتيجة النزوح ستمتد لأكثر من 10 سنوات» كما ورد في التقرير الذي صار ملكا للبعثات الديبلوماسية للدول الكبرى.
وإذا لم تبادر الحكومة اللبنانية إلى اتخاذ إجراءات حدودية، وإذا تطور الوضع الميداني في سوريا بطريقة دراماتيكية، «فان لبنان غير محصن من حصول انهيار اقتصادي يليه انهيار أمني يتبعه انهيار اجتماعي وتغيير ديموغرافي خطير» كما ورد حرفيا في التقرير الرسمي اللبناني المصنف في خانة «سري»!
أما ماهية الاجراءات المطلوبة، فيختصرها التقرير بالدعوة الملحة الى تأليف لجنة حكومية لبنانية ـ سورية مهمتها «بحث الأفكار والآليات للتنسيق والمتابعة بشأن العودة المنظمة للنازحين السوريين إلى ديارهم، وقد يكون من المفيد أن تعقد اجتماعات اللجنة بصورة دورية بين بيروت ودمشق».
غير أن مطلب التواصل اللبناني السوري، الذي تنادي به دمشق منذ ثلاث سنوات وما تزال، لا يحظى بموافقة الحكومة المنقسمة بين أكثرية (14 آذار) رافضة تعتبر أن التفاوض مع الحكومة السورية يقود الى تفاوض مع المعارضة السورية، وبين أقلية (8 آذار) تعلن انحيازها لاعادة فتح القنوات مع الحكومة السورية لاتخاذ خطوات تنسيقية عاجلة قبل أن تستفحل الأمور «وعندما يأتي الضوء الأخضر للجميع يكون قد فات الأوان» على حد تعبير مرجع قيادي كبير في «8 آذار».
ولعل النموذج الأبرز للتخبط اللبناني بعنوان «النأي بالنفس» هو موضوع مخيمات اللاجئين التي تجري مقاربتها في الكثير من الأحيان من منظور أمني، وزاد الطين بلة ما جرى في مخيمات النازحين في عرسال وجرودها، حيث تبين أنها تؤوي كتلة ارهابية مسلحة لعبت دورا أساسيا في احتلال عرسال وخطف العسكريين وعمليات رمي الصواريخ على المناطق المجاورة والاعداد لسيارات مفخخة وتدريب لبنانيين وتزويدهم بالسلاح الخ…

تحذير أميركي
وكان اللافت للانتباه في اليومين الماضيين تبني الادارة الأميركية لموقف «حزب الله» والحكومة السورية في موضوع النازحين، حيث نقل مسؤول لبناني بارز عن السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل خشيته ان يتحول كل مخيم للنازحين السوريين يتم انشاؤه الى «عرسال ثانية».
وكان هيل يرد بذلك على اقتراح لجنة النازحين الوزارية بإنشاء ثلاثة مخيمات تجريبية في المصنع والعبودية والعريضة، وقد استبعدت المنطقتان الأخيرتان لأسباب أمنية وسياسية وفنية (هدد الأهالي في الشمال بإقامة المخيمات على جثثهم)، فيما ظل اقتراح اقامة مخيم في المصنع محور أخذ ورد، بعدما تم اختيار قطعة أرض لبنانية خلف مركز المصنع اللبناني الحدودي بمحاذاة الأراضي السورية قادرة على استيعاب عشرة آلاف لاجئ ضمن بيوت وخيم جاهزة وبكلفة 10 ملايين دولار (يكلف كل لاجىء ألف دولار).
وفيما قال وزير الداخلية نهاد المشنوق لـ«السفير» أن سقوط المشروع سيقود الى التسريع بقرار إقفال الحدود أمام النازحين نهائيا الا في حالات مقيدة (تدرسها لجنة تضم مندوبين عن الأمن العام ووزارة الشؤون)، على أن تبقى الاجراءات الحدودية للانتقال سارية على المواطنين السوريين، أكد وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس أنه لن يخطو أية خطوة باتجاه موضوع المخيمات الا في ظل غطاء سياسي شامل في مجلس الوزراء.
«هذا الغطاء لم ولن يتوافر» يقول أحد وزراء «تكتل التغيير والاصلاح»، ويوضح لـ«السفير» أن الاجتماع الذي عقد بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «تكتل التغيير والاصلاح» العماد ميشال عون حسم هذه النقطة برفض فكرة المخيمات جملة وتفصيلا.
وكان عون قد استقبل مؤخرا الوزير نهاد المشنوق الذي تمنى عليه تغطية قرار اقامة مخيمات للنازحين الموجودين في عرسال وجرودها من أجل فك اسر البلدة التي كانت وما تزال محتلة بكل معنى الكلمة من قبل المسلحين السوريين، على أن تقام المخيمات في منطقة البقاع الشمالي بمعدل عشرة آلاف لاجئ في كل مخيم (أكثر من 110 آلاف نازح في منطقة عرسال ومشاريع القاع). وقد وعد عون بدرس الاقتراح قبل أن يبلغ وزير الداخلية لاحقا عن طريق وزير الخارجية جبران باسيل رفضه لهذا الاقتراح.

المخيمات تنتظر الغطاء السياسي
وقال درباس لـ«السفير» انه «إذا كانت التقارير الفنية واللوجستية (بشأن اماكن المخيمات المقترحة) سلبية تسحب فكرة اقامة المخيمات من التداول، واذا كان هناك فريق معترض تسحب من التداول، فهذه ليست قضية فردية بل قضية وطنية، إما ان يتفق عليها الجميع او لا يتفقوا، وانا كوزير للشؤون الاجتماعية لست جاهزا لأن اخطو خطوة واحدة الا اذا كان هناك غطاء سياسي كامل من كل الأفرقاء من دون استثناء».
ووفق تقديرات مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، لا تتجاوز نسبة النازحين السوريين الى الأردن 10 في المئة من عدد السكان (600 ألف نازح من أصل 6,5 مليون نسمة)، وفي باقي الدول، وخصوصا تركيا والعراق، تلامس نسبة النازحين عتبة الواحد في المئة من مجموع السكان في البلدين!
واللافت للانتباه أن 53 في المئة من النازحين في لبنان هم ممن تقل أعمارهم عن 18 عاما، وهناك حوالي 22 في المئة من النازحين الذكور من عمر 18 عاما حتى ما فوق الـ 60 عاما، أي نحو 111 ألف ذكر سوري معظمهم ممن أدوا الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، من دون احتساب غير المسجلين في لوائح المفوضية، وهم يقدرون بنحو 300 ألف نسمة، وفق وزير الداخلية نهاد المشنوق.
ويتوزع النازحون على المناطق اللبنانية على الشكل الآتي: 26 في المئة في الشمال، 27 في المئة في بيروت وجبل لبنان، 35 في المئة في البقاع، 12 في المئة في الجنوب. وتعيش نسبة 70 في المئة منهم في أماكن إيواء شرعية، بينما تتوزع نسبة 30 بالمئة على مخيمات وتجمعات في المناطق.
وعدا ما سيتحمله لبنان من خسائر بمليارات الدولارات بفعل الضغط الكبير على اقتصاده واستنزاف خدمات الصحة والتربية (300 ألف تلميذ) والكهرباء والمياه (بطريقة غير مسبوقة) والبنية التحتية ومعالجة النفايات، وذلك استنادا إلى تقرير البنك الدولي بناء على طلب الحكومة اللبنانية، فان الناتج المحلي سيتقلص 7,5 مليار دولار حتى نهاية العام 2014، وثمة تقديرات أن حوالي 340 ألف لبناني خسروا أو سيخسرون وظائفهم في نهاية عام 2014 (22 في المئة نسبة البطالة اللبنانية في 2013)، كما تبين الأرقام أن عدد الفقراء في لبنان سيرتفع من مليون شخص تقريباً، إلى مليون ومائة وسبعين ألفاً.

تداعيات أمنية
ويحذر التقرير الرسمي اللبناني من التداعيات الأمنية وأبرزها: انتقال المسلحين بين لبنان وسوريا وتهريب السلاح إلى الداخل اللبناني، ما يؤدي إلى اضطراب الوضع الأمني خاصة في منطقتي الشمال والبقاع، احتمال مشاركة مسلحين سوريين في الاشتباكات في بعض المناطق اللبنانية وتدريب لبنانيين على استخدام السلاح، دخول سيارات مفخخة من الأراضي السورية إلى لبنان، إطلاق صواريخ على المدن والقرى اللبنانية، حصول عمليات تهريب للمخدرات من سوريا إلى لبنان وخارجه، حصول تعديات على أشخاص سوريين داخل لبنان (أحصت الجهات الأمنية اللبنانية وقوع 1118 حالة تعدّ خلال الفترة من آذار 2011 إلى كانون الثاني 2014. وقد قارب عدد الموقوفين السوريين بتهم قتل وسرقة ومخدرات واغتصاب وغيرها وحوالي 357 8 شخصاً في الفترة نفسها).
وتختم اللجنة اللبنانية تقريرها بـ16 توصية أبرزها التأكيد على أن لبنان معني مباشرة بالجهود الدولية لحل الأزمة في سوريا، والا فان تدفق النازحين لن يتوقف، كما أن لبنان معني بحث المجتمع الدولي على تحمل مسؤولية مساعدته في التخفيف من آثار وجود النازحين السوريين على أرضه، «الذي يمثل اجتياحاً ديموغرافياً للبنان»، وكذلك ضمان أن لا يستمر هذا الوجود لفترة طويلة من خلال وضع خريطة طريق لإعادة هؤلاء النازحين إلى بلدهم في أسرع وقت ممكن.

السفير

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …