الحكمة والإصلاح في نهج المرجع السيِّد فضل الله الشيخ حسين الخشن
في حضرة السيِّد
الكلام في محفل “السيّد” فيه غُصّة، والكلام عن “السيّد” بصيغة الماضي فيه غُصّة أكثر؛ لأنّ “السيّد” عنوان الحضور، وهو الحاضر فينا حضور الشّمس في الآفاق، حضور الأمل في عيون الأطفال، والحاضر فينا حضور الرّوح في الأجساد.
أن نتحدَّث عن السيِّد مِنْ على منبره، وفي كنف مسجده، وعلى بعد خطواتٍ من ضريحه، حيث تضمّنا روحه بكلِّ حنان، أن نتحدَّث عنه في هذا الموقع، فتلك مهمَّة شيِّقة وشاقَّة.
إنَّها مهمَّة شيِّقة؛ لأنّك سيّدي محور الحديث، ولأنَّ الكلام عنك حلوٌ، ولأنَّ كلَّ ما يدنينا منك فهو أثير إلى قلوبنا، ولأنَّ كلَّ ما يشدّنا إليك عذْب، رُغم مرارة الفراق.
وهي مهمّة شاقة؛ لأنّ المتحدّث عنك- سيّدي – يحار من أين يأتيك وكيف يلجُ بحرك المتلاطم؛ أتراه يتحدَّث عن السيِّد الإنسان أم السيِّد المفكّر أم السيِّد الفقيه أم السيِّد الشّاعر أم السيِّد الدّاعية والمربّي؟!..
سيّدي، أردتنا أن نتحلّى بالجرأة، وأن نكون الأمَّة التي تحمل الحسَّ النّقدي، الأمّة التي لا تؤجِّر عقولها، الأمّة التي تفكّر في اللاّمُفَكَّر فيه.
ونعدك سيّدي، أن نبقى نحمل أمانة السّير على خطّك، وخطّك هو خطّ الإسلام، وليس شيئاً غير الإسلام؛ فقد كنت لا تُؤمن بأن تكون هناك خطوط متعدّدة، وأن يكون لكلّ بطل خطّه، لتتعدّد الخطوط بتعدّد الأبطال، بل كنتَ تؤمن بفكرة أن يكون للخطّ الواحد أبطاله؛ لتتعدّد الأبطال ويبقى الخطّ واحداً. والوفاء لك أن نعمل كأمَّة، أن لا تكون آخر الأبطال، ونحن نعرف حجم المعاناة على هذا الصّعيد؛ لأنّك أتعبت من سوف يأتي بعدك.
سيّدي.. أردتنا أن نتحلّى بالجرأة، وأن نكون الأمَّة الّتي لا تؤجِّر عقولها.. ونعدك أن نبقى نحمل أمانة السّير على خطّك
الحكمة في منهج السيِّد
ثمَّ أن نتحدَّث عن “السيِّد” من موقع “الحكمة والموعظة الحسنة”، فهو حديثٌ جميلٌ، والعنوانُ قد اخْتِيرَ بدقَّةٍ وعناية؛ لأنَّ الحكمة هي عنوان “السيِّد” و”السيِّد” هو عنوان الحكمة.
ربما تطلّ بنا حكمة “السيّد” بادئ ذي بدءٍ على واحدٍ من أبعاد شخصيَّته، وهو البُعد الأخلاقيّ الرّساليّ، وهو من أهمّ أبعاد شخصيّته. لقد كان “السيّد” يحمل الحكمة في دعوته وفي علاقاته وفي حركته الرّساليّة وفي كلّ حركته الأخلاقيّة؛ لأنّه كان يؤمن بأنّ الأخلاق حركة في الواقع. لقد كان صاحب خُلُقٍ نبويّ بامتياز، وذلك ما ميَّزه عن أقرانه، وأقول هذا على معرفةٍ وخبرةٍ بالعلماء. لقد تميّز السيّد وفاق الكثيرين، كان متسامياً في أخلاقه، متسامياً في تواضعه، متسامياً في سعة صدره وصبره وتحمّله للأذى من هنا وهناك، وكان متسامياً في تحمّله وفي استيعابه للنّاس وصبره عليهم؛ يذكِّرنا في ذلك كلّه برسول الله(ص)، إذ خاطبه الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(الكهف: 28).
وأعتقد أنَّ من مسؤوليَّتنا، أن نعمل على أن نمنهج هذا الجانب في شخصيَّة “السيّد”، وذلك بأن نلتقط كلَّ الإشارات التي تعبّر عن خُلُقٍ نبويّ رفيع، لنحوّلها إلى منهجٍ عمليّ، ليغدو “السيّد” مثلاً أعلى لجيلنا ولكلِّ الأجيال القادمة.
المفكِّر والإصلاحيّ
والحكمة تطلّ بنا ـ أيضاً ـ على “السيّد” المُفكّر؛ لأنّك لا يمكن أن تكون مفكّراً إن لم تكن حكيماً، وتطلّ بنا على “السيّد” المصلح؛ لأنّك لا يمكن أن تكون مصلحاً بغير حكمة.
والحكمة في مدرسة السيّد، هي الميزان الّذي يضبط إيقاع الإنسان، في الفكر والعاطفة والسّلوك.
فنحن بحاجةٍ إلى الحكمة في أفكارنا، كي لا نقع في الإفراط والتّفريط، وبحاجةٍ إلى الحكمة في عاطفتنا، كي لا نقع في غلواء الحبّ الأعمى أو في شطط الحقد الأسود، وبحاجةٍ إلى الحكمة في كلّ مسيرتنا وسلوكنا العمليّ كي لا نقع في الزّيغ أو في الضّلال أو الانحراف.
والحكمة في مدرسة “السيّد” لا تعني المداهنة أو الاستسلام للواقع، بل الحكمة عنده تفرض ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ صدم الواقع ليهتزّ، ولتستيقظ العقول من السُّبات الّذي تعيشه. ومن هنا كانت الحكمة عند “السيّد” هي العنوان الّذي يستهديه في منهجه الإصلاحيّ.
الحكمة في مدرسة السيّد لا تعني المداهنة أو الاستسلام للواقع، بل صدم الواقع ليهتزّ، ولتستيقظ العقول من السّبات الّذي تعيشه…
إنّ المهمّة الإصلاحيّة في مدرسة “السيّد” هي عبادة ودين يدين الله به، على خطّ أبي عبد الله الحسين(ع)، عندما قال: “إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”. وأخال “السيّد” يُسائِلُنا: إذا كانت الأمّة الإسلاميّة احتاجت إلى الإصلاح بعد نصف قرنٍ من الزّمن من وفاة رسول الله(ص)، حيث نهض بهذه المهمّة أبو عبد الله الحسين(ع)، فما بالك بعد مضيّ القرون الطويلة؟! أفلا تحتاج إلى أكثر من فدائيّ وإلى أكثر من مصلح؟!
الإصلاح عند “السيّد” كان يتحرّك على خطّين؛ الإصلاح على مستوى النّفوس، والإصلاح على مستوى النّصوص.
أمّا الخطّ الأوّل: وهو الإصلاح على مستوى النّفوس، فهو مهمّة جليلة وعظيمة، كونها مهمّة الأنبياء والمرسلين، إنّ إصلاح النّفوس يعني أن نسعى في إصلاح أنفسنا بادئ ذي بدء، ثم ننطلق إلى إصلاح الآخرين.. وإصلاح الآخر ينبغي أن يتحرّك على صعيدين:
ـ صعيد الإصلاح بين النّاس.
ـ وصعيد إصلاح النّاس.
أمَّا على الصَّعيد الأوَّل، فنحن أمام مهمّةٍ عامّةٍ موكلةٍ إلى كلّ إنسان في أن يصلح بين النّاس إذا تنازعوا وتباعدوا، وقد أراد الله لنا جميعاً أن نتحمّل أعباء هذه المهمّة دون فرقٍ بين شخصٍ وآخر:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10].
إنَّ المهمَّة الإصلاحيَّة في مدرسة “السيِّد” هي عبادة ودين يدين الله به، على خطّ أبي عبد الله الحسين(ع)
أمَّا على الصَّعيد الثَّاني، فنحن أمام مهمّةٍ خاصَّةٍ لا يستطيع النّهوض بأعبائها إلاّ قلّة من النّاس، حيث يعمل المصلح على إصلاح النّاس أفراداً أو جماعات؛ وأن يصلح الإنسان الفرد، أن يدلّه على طريق الهدى، وأن يصلح الإنسان الأمّة، أن يأخذ بيدها إلى طريق النّهوض، وإصلاح الفرد لا يغني عن إصلاح الأمّة، فلربّما كان الفرد بخير وعافية، ولكنّ الأمّة متأخّرة.
وإذا كان المصلح بين النّاس يلعب دور الإطفائيّ، فالمصلح في النّاس يلعب دور الإحيائيّ؛ يحيي القلوب الميتة، ولقد قالها الله تعالى في كتابه:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }[المائدة: 32]، وفي كلمةٍ لبعض الأئمّة من أهل البيت(ع) قال – في تفسير هذه الآية – “أخرجها من ضلال إلى هدى”.
وأمّا الخطّ الثّاني: فهو الإصلاح على مستوى النّصوص؛ بإصلاح نظرتنا وتعاملنا مع النّصوص، والإصلاح هنا لا يعني الاجتهاد في مقابل النّصّ، بل الاجتهاد في فهم النّصّ ومراميه ومقاصده.
وقد كانت رؤية “السيّد” هنا الإحيائيّة والتّجديديّة، أنّه كان ينظر إلى النّصوص بعيداً عن كلّ الشّروحات وعن كلّ التّفاسير، كان يتعامل مع القرآن كأنّما نزل عليه. وقد كانت هذه ميزة من ميزات “السيّد”، حيث كان يقول لتلامذته: “إقرأوا النّصوص قبل أن تقرأوا الشّروح، واقرأوا المتون قبل أن تقرأوا الهوامش”؛ إنّه يريدنا أن نتعامل مع النّصّ بشكلٍ مباشر؛ لأنّ الشّروحات أثقلت كاهل النّصوص في كلّ الأديان وليس في الإسلام فقط.
كان يتعامل مع القرآن كأنّما نزل عليه.. وكان يقول لتلامذته: “إقرأوا النّصوص قبل أن تقرأوا الشّروح، واقرأوا المتون قبل أن تقرأوا الهوامش”
لإعادة قراءة السيّد
وقد ابتدأ “السيّد” الإصلاحيّ بنفسه؛ فأصلحها وتحلّى بالجرأة، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ ولهذا أقول لكلّ الّذين اختلفوا حول السيّد، ومعه، وفيه: تعالوا ـ وبعد رحيله ـ لنقف مليّاً مع “السيّد”، مع فكره وفقهه وتفسيره، وكلّ نتاجه الفكريّ والأدبيّ وكلّ مسيرته الرّساليّة… لنقرأه بعين الإنصاف والعدل، لا بعين الرِّضا ولا بعين السّخط. فإذا حَجَبَنا كثيرٌ من الغبار عنه في حياته، فليمثِّل رحيله ـ كما قال لنا في بعض وصاياه ـ وقفة تأمّل وفرصةً للاعتبار.
ولكنَّنا نقولها وبكلِّ أسى: إنَّ أمّةً لا تُقدِّر عظماءها إلاّ بعد رحيلهم! ترميهم في حياتهم بكلّ أنواع الحجارة، وإذا ما غادرونا رفعنا رايتهم ومجّدْنا اسمهم! إنّ أمّةً كهذه، ليست جديرةً بهؤلاء العظماء…
رحمك الله أيّها “السيِّد” المصلح، رحمك الله وأسكنك الفسيح من جنانه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا للسّير على خطاك، خطى الأنبياء والأئمّة والشّهداء، والسّلام عليك يوم وُلدت ويوم تُبعث حيّاً