جان عزيز
حسناً فعل سعد الدين الحريري في كلامه الأخير، حين حصر الغاية من الحوار العتيد بينه وبين حزب الله، في محاولة وأد التوتر السني ــ الشيعي. فالرجل يدرك أن ثمة مسائل باتت خارج الحوار. مثل الحرب في سوريا وسلاح المقاومة. الاثنتان متروكتان لتطورات المنطقة وموازين الإقليم الأكبر من لبنان ولاعبيه. كما أن مسألة ثالثة كانت قد جعلتها تمهيديات الحوار بين الطرفين، خارج البحث أيضاً. وهو ما يعرفه تماماً الحريري، منذ جاء وائل بو فاعور إلى حزب الله مستقرئاً أن الفريق الأزرق يبدو مستعداً لمبادرة ما، وصولاً إلى لقاءات بري ـــ السنيورة الاستطلاعية.
كلها عادت إلى الحريري بجواب أن رئاسة الجمهورية أيضاً خارج جدول الحوار الأصفر – الأزرق. فهي مرصودة القرار والجواب عند الرابية البرتقالية. ولذلك قصد السيد حسن نصرالله تسمية ميشال عون في خطاب عاشوراء في 3 تشرين الأول الماضي. ولذلك أيضاً، صعّدت الرياض ضد حزب الله وضد عون، قبل أن يبدأ سباق الحوار، على طريقة رفع سقوف المطالبة قبل الجلوس إلى الطاولة.
غير أن ما غفل عن الحريري والرهط الكثيف الذي حط في باريس لطبخ «الخطاب»، أن مسألة رئاسة الجمهورية ليست نقطة معزولة في هذا السياق. ولا بنداً مضافاً أو مسقطاً عن أجندة الحوار. بل هي مدخل أساسي لمنع الفتنة السنية ـــ الشيعية. فالفتنة التي رأينا نموذجها المأساوي في كل المحيط، من سوريا إلى العراق، ومن البحرين إلى اليمن، ومن القطيف إلى عسير، لم تنفجر في لبنان فعلياً، رغم كل عواملها ومحرضيها ومنفذيها والمال والسلاح والقرار. لماذا؟ لأن في لبنان سنة، لا كسنة السنة. ولأن فيه شيعة لا كشيعة الشيعة. وذلك لأن في لبنان مسيحيين لا كمسيحيي المسيحيين. كلهم جبلوا بتلك «اللبنانية» كما كان يسميها منح الصلح. فصاروا كلهم مختلفين عن أديانهم خارج لبنان، وإن ظلوا متعددين في الأديان داخل لبنان. والأهم أنهم ظلوا متساوين في اختلافهم. هذه الصيغة الفريدة، في فوضاها وأخطائها، هي ما حال دون اندلاع الفتنة في بيروت. أكثر من حرص فريق أو حكمة آخر أو عجز ثالث. وهي الحصانة الأساسية دون انتقال فتنة سنة السنة وشيعة الشيعة، إلى سنة لبنان وشيعته. وهي ما يقتضي أولاً، الحفاظ على مسيحيي لبنان، وجوداً ورسالة، وبالتالي حضوراً منبثقاً من الاثنين معاً.
ما غفل عنه الفريق الحريري، وخصوصاً فريق الخطاب الحريري الباريسي، أن موضوع الرئاسة يقع في هذا الموقع بالذات. على قاعدة وطنية ميثاقية جامعة، مفادها أن من دون المسيحيين ستكون فتنة. ومن دون توازن، لن يكون مسيحيون. ومن دون رئيس رئيس، لا توازن وطنياً صحيحاً. هذا ما أدركه حسن نصرالله، يوم وجّه تلك الرسالة إلى الرابية، بأن القرار النهائي واللاعودة عنه بترشيح جنرالها، ليس رد جميل، ولا عرفاناً، ولا سداد دين. بل هو فعل إدراك لمصلحة وطنية كبرى. وهو أصلاً ما كان قد اقتنع به سعد الحريري نفسه، بين كانون الثاني ونيسان الماضيين. وإلا لم كان التباين مع سمير جعجع؟ ولماذا أرسل معاونه السياسي القدير والمقدر، يطلب في اللحظة القاتلة شراء ستة أشهر فقط، ليكون بعدها عون رئيساً… قبل أن يفيق من غيبوبة ربع قرن، سعودي برتبة أمير وزير. فيتذكر ضبابياً أنه أرسل ذات مرة مع وسيط جزائري من عائلة الإبراهيمي، دعوة إلى جنرال لبناني كان مقيماً في قصر بعبدا. كان ذلك سنة 1989، ولم تلبَّ الدعوة بعد. فيما الحال الصحية للأمير الوزير، لم تسمح له بأن يتذكر الجواب والسياق والاعتذار، ولم تشفع كي لا يتوهم أن الأمر قد حصل أمس … فيما حالته الصحية تلك، لا تنتقص من حالته السلطوية في عائلته وعلى رعاياها، فتعطل كل حل وكل شيء.
ضروري أن يذهب الحريري لحوار نصرالله، ولو بالواسطة والمعاونين. لكن ذلك لن يغني عن بحث الرئاسة، وهي خارج حوار الوسط – الضاحية. وبحث الرئاسة يقتضي أمراً من خمسة: إما الذهاب إلى تسوية، ضمن قواعد النظام الراهن، تقضي بوصول رئيس رئيس يؤمّن مصلحة الوطن في توازن حقيقي يبني الدولة ويحفظ ميثاقها ويئد فتنها. وإما الموافقة على جلسة المرشحين الاثنين الحصريين، من ضمن ضوابط وضمانات كاملة. وإما القبول بتغيير آلية انتخاب الرئيس، بحيث يصير تفويضه الشعبي الوطني العام، سلطة معنوية تعوّض له في النظام القائم، نقص الصلاحية المطلوبة لتحقيق المصلحة الوطنية. وإما العودة إلى الشعب، عبر انتخابات نيابية بقانون يبدو وشيكاً. وإما خامساً، وبعد استنفاد كل تلك، الانتظار حتى يتغير ـــ أو يسقط ـــ واحد من ثلاثة: سعودي أو جنرال أو طائف…
قد لا يكون الحريري عارفاً لشخص سعيد عقل ولا قارئاً لشعره. لكن عون يعرفه، كما يعرف العملاق عون أكثر. ذات يوم، وفي غياب الجنرال عن لبنان، كان الحريري الأب قد أتى برئيس للجمهورية ممدّد له. وصودف أن التقى العملاق بذاك الرئيس. فقال قصيدته الرثائية الشهيرة، التي فيها:
أسُّ أمته من شعرُه (أو فكرُه) شرفٌ
لا من مرةً حليبَ السباع رضعا…
سلام إلى سعيد عقل، وكلام يُفهم إلى الشريك الحريري.
الأخبار