أقرب نقطة من الملعب نجحوا في الوصول اليها كانت على بعد كيلومتر واحد. بمجرد رفع العلم فوق ذلك المنزل، استُهدفوا بقذيفة مباشرة. الشهيد الحاج خالد بزي (قاسم) كان قائد عمليات بنت جبيل، والرجل الذي أدار عملية كسرهم هناك من جديد
هادي أحمد
بنت جبيل، رمزٌ من رموز حرب تموز. يصعب اختصارها بقصة أو قصتين، كما يصعب اختصار حكايات القادة الشهداء هناك وتفاصيل ما جرى. دائماً هناك، مع مرور السنين، أخبار تكشف من جديد. وتفاصيل مبكية وأخرى مضحكة، ولا شك بطولية، صنعت مجداً أُرِّخ في تاريخ الوطن والمقاومة.
عادت الحياة إلى بنت جبيل، التي سوّتها قوات الاحتلال بالأرض خلال الحرب. تغيّرت فيها معالم كثيرة، لكن بعض الأمور لا تزال على حالها. سهام مع الصواريخ مثبتة نحو فلسطين. مثبتة ثبات رجال ما برحوا مكانهم في حرب طالت 33 يوماً. قبلها وبعدها، حصل في بنت جبيل ما أثخن الجرح في جسد الإسرائيلي.
تدخل إلى المدينة من ساحة صلاح غندور، الاستشهادي الذي فجّر عام 1995 قافلتين صهيونيتين عند مدخل مقرّ ما كان يسمى مركز الـ17 في منطقة «صف الهوا»، الذي كان يضم مبنى قيادة عمليات اللواء الغربي، ومبنى الإدارة المدنية ومبنى قيادة المخابرات التابع لجيش العدو. منذ ذلك التاريخ، صارت هذه المدينة لعنة الإسرائيلي. وبعد التحرير عام 2000، وقف فيها الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله وألقى خطابه الشهير الذي جاء فيه: «اسرائيل أوهن من بيتِ العنكبوت».
في تموز عام 2006: كان هدف الاسرائيليين احتلال المدينة، ورفع العلم داخل الملعب رداً للاعتبار، عاملين على تغيير العبارة باسم ابتكروه لعمليتهم العسكرية: «اسرائيل خيوط من فولاذ». ولفعل ذلك، دارت معارك في المدينة الصامدة، قاد غرفة عملياتها الشهيد خالد بزي (قاسم). في مربع مارون الراس – بنت جبيل – عيترون – عيناثا، وفي تلّة مسعود وكل زوايا المدينة، عندما حاول العدو اقتحام المدينة كان قاسم يقود تلك المعارك.
من نجَا لم ينسَ، وطبعاً يبدو هذا واضحاً بعد مرور عشر سنوات. لم ينس أحد شيئاً، وخصوصاً بطولات الحاج «الشهيد قاسم». فقد كان ثقله في القرية كبيراً. حالما تسأل أحد المقرّبين منه، أثناء السلم والحرب، عنه تشعر به يذهب بأفكاره بعيداً، وكأنه اختفى عن هذا الكوكب برهة من الزمن، ثم يعود بعدما استعادت ذاكرته مشاهد تلك الأيام التي لا يزال يحتفظ بتفاصيلها.
يقول إن الشهيد بزي أحبّ أن يكون قريباً من قريته بعد التحرير عام 2000، وعمل كثيراً على توطيد العلاقة مع أهل البلدة، من دون أن يعرف أحد مهمته، ولا أي سرّ يحيط به. لم يسكن هناك، بل تنقل مع عائلته في أكثر من قرية، بعدما وضعه الإسرائيليون على رأس المستهدفين، وخصوصاً أنه القائد الميداني لعمليات الأسر، وشارك في العديد من العمليات النوعية القديمة.
أطلق العدو على معركته
في بنت جبيل اسم «اسرائيل
خيوط من فولاذ»
قبل عملية «خلّة وردة»، في 12 تموز 2016، توجه نحو المطار ليقلّ والدته الآتية من كندا. لم يسمح له الوقت بالجلوس معها، أوصلها سريعاً وتوجه لتنفيذ العملية. نجح واخوته بأسر جنديين، وبعدما أنهى مهمته بنجاح، أجرى اتصالاً مع أحد القادة طالباً منه أن يوصل الرسالة: «قل لصاحبنا الأمانة صارت عندك». غير معلوم إذا كانت هذه المقولة مرسلة الى «السيّد»، أم الى «الحاج عماد». لكنها وصلت. أنهى مهمته يومها وانتقل من عيتا الشعب الى بنت جبيل. نحو والدته مجدداً، رقد هناك، وفي اليوم التالي دقت «الساعة الصفر».
كان مقرّراً أن يبقى داخل القرية. ودَّعته أمه، لفَّ وجهه بشال، ثم وضع قبعته، وحمل سلاحه الـ «AKS» ليبدأ إدارة عمليات الحرب من داخل أحد المنازل القديمة في المدينة، بعدما ضربت الطائرات أوائل الأيام مراكز الحزب المكشوفة .
غال هيرتش، قائد لواء 91 وقيادة المنطقة الشمالية، كان أوّل من أعلن سقوط المدينة بعد القصف الجوي والمدفعي الذي بدأ باستهدافها ليلة 13 تموز. سريعاً طلبت القيادة العسكرية للمقاومة من الحاج قاسم الخروج من بنت جبيل بأكملها. رفض ذلك، «سأبقى هنا». اتصلوا بمساعدين له كي يقنعوه بالخروج، لكنهم فشلوا، قال وهو يتأمل الفجر الصاعد: «ممنوع يفوت الاسرائيليي على بنت جبيل… وإذا بدو يفوت فعلى جثثنا».
في منتصف الحرب تقريباً، باتت المدينة بمعظمها عسكرية، بعدما أمَّنت المقاومة خروج المدنيين، كما كانت تؤمن لهم أثناء وجودهم داخلها الأطعمة والمياه. لم ينقطعوا، لا المقاومون ولا المدنيون، من أي مورد غذائي، إلا من الخبز الذي اختفى في اليوم السابع تماماً.
صباح السابع عشر من تموز، انطلقت العمليّة البريّة قرب مارون الراس. بدأت مع وحدة «ماغلان – تجمع القوات الخاصة» التي تقدمت لتبدأ الاشتباكات مبكراً، ثم اشتدت حوالي الساعة 8.30-9.00 صباحاً. بدأ الحاج خالد يوجه المجاهدين في مارون عبر الجهاز. الى أين يتوجهون، وأين يضربون، بعدما كان قد أرسل مجموعات لتساند المنتشرين هناك. 25 شاباً فقط أمام كتيبة بأكملها.
تواصل مع «جواد عيتا» (الشهيد محمد دمشق) ليعطي الإذن له، بعدما درسوا التقديرات الميدانية، لكي يقتحم مع شابين هما سامر نجم ومحمد عسيلي، مبنىً فيه 15 اسرائيلياً. أحرقوا المبنى بمن فيه، قبل أن يستشهدوا جميعاً.
تعزيز الحاج خالد، لاقى تعزيزاً غير متوازن عند دان حالوتس. انضمت الى «ماغلان» تعزيزات آلية من الدبابات إضافة الى وحدة «إيغوز من لواء غولاني»، وكتيبة هندسية وكتيبة من لواء المظليين. نخبة النخب أمام المقاومين.
التقدّم البري نحو بنت جبيل كان من جهة مارون. والتقدّم على خطين: الخط الرئيسي لمارون «مشاة وآليات»، والثاني من خط جبل كحيل، مثلث (كحيل- عيترون- مارون). اختلف حالوتس مع القادة الميدانيين على أعداد القوات التي يجب أن تدخل الى بنت جبيل. كتيبة واحدة أراد الأول، والثاني اعترض، طالباً أعداداً أكبر. ظلوا على قرار حالوتس، والإشتباك الأول حصل في المربع الذي بات يدعى حالياً مربع التحرير (عيناتاـ بنت جبيل ـ عيترون ـ مارون).
فشلوا في التقدّم على وقع ضربات أسلحة خفيفة ومتوسطة، ثم حاولوا الالتفاف بعدها من جهة تلة مسعود، «غراند بالاس»، في محاولة منهم للإطباق على المدينة، وصولاً الى منطقة «صف الهوا»، خط المدينة الرئيسي. يومها طلب الحاج قاسم عدداً من نخب المجاهدين الذين كانوا داخل القرية، للقيام بعمليات نوعية أثناء الحرب، مثل أسر جنود العدو، نصب الكمائن، وشن هجومات سريعة.
كانت الضربة الأقصى لهم في «غراند بالاس». ليلتها أخذ الإسرائيلي قراراً بتدمير المدينة. الساعة 8 مساءً بدأ الموت يهطل بكثرة من السماء. موت وتهديم ودمار بالجملة. 80% من الأبنية سويّت بالأرض. الحاج قاسم كان في أحد هذه الأبنية. استشهد في 28 تموز بعد القصف الأعنف على المدينة، هو ورفاقه الذين كانوا معه، سيّد محمد أبو طعام وكفاح شرارة، داخل غرفة العمليات. حاول زملاؤهم البحث عنهم من دون نجاح. ظلت جثامين الشهداء تحت الركام إلى ما بعد انتهاء الحرب ببضعة أيام، وتشرّبت الأرض دماءهم حتى طفت وأضاءت طريق الجيل الجديد.
لا مقاومون في العلن، ولا استعدادات علنية لحرب مقبلة، لكن أبناء جيل الحاج خالد في بنت جبيل نضجوا وصاروا أهلاً بدورهم، ومقاتلين.
اليوم، علت القرية أكثر من أي وقت مضى بعد إعادة إعمارها وعودة أهاليها إليها. أما الملعب، فصار أفضل حالاً، والمقولة الخالدة لا تزال على حالها: «أوهن من بيت العنكبوت»، يتردد صداها داخل فلسطين الأرض والوطن الذي عشقه أسطورة بنت جبيل الحاج خالد بزي (قاسم).
المصدر: الأخبار