غصباً عن أنوفكم

قبل أسبوع، اتصلت سيّدة فاضلة، مواطنة، بأحد البرامج الإذاعية وطلبت توجيه نداء إلى ساسة البلد، فقالت «أطلب من «المسؤولين» أن يساوونا بالزبالة. يعتبرونا زبالة ويتخانقوا علينا متل ما عم يتخانقوا ع الزبالة». هذا هو الدرك الذي وصل إليه أبناء هذه الأرض.
حتّى المطالبة باستقالة الحكومة والنّواب لم تعد مجدية. صار رحيلكم، الآن، من هنا، كارثة. جرّدتم البلاد من البدائل كلّها، وتربّعتم مطبقين على صدورنا وسبل عيشنا إلى ما شاء الله. أمّا أعتاكم وأكثركم استدامة، فيزاحمنا حتّى على أي حراكّ سلمي، نسعى للقول من خلاله بأنّنا هنا، وإن كنتم لا تأبهون.
حتّى منظمو التظاهرات، وإذا استمرّوا في رفع سقف مطالبهم بلا أفق فعليّ، فهم يساهمون في إفشال حملتهم وخذلان الناس تماما كما يفعل الساسّة. عندما يعلن رئيس حكومة لبنان أنّه يتعامل مع «نفايات سياسيّة»، ولا يجد من يمدّ اليد لتلقف دعوته، يصبح من الواضح أنّه لا يوجد على أرض الجمهوريّة من يملك حلولاً قابلة للتطبيق، بل مجرد مجموعات تعلن فقط «ما لا تريده».
لكنّنا أبناء حياة، ولا بدَّ أن نجد سبيلا للتخلّص منكم. وإذا لم نفعل، نكون لا نستحّق سواكم.
نحن طلّاب حياة، بالرغم من قهركم المستديم.
نحن أبناء الحياة، بالرغم من سبل قتلكم الممنهج، على جهلكم، على مرّ السنين. وأنتم أنتم، بأنوفكم الطويلة، بوجوهكم ذاتها، بضمائركم الميّتة، بذممكم الواسعة على مدّ النظر، بسلاحكم في الحروب التي لم تنته إلّا لما أراد «الغريب» لها أن تنتهي، بسلاحكم، الممنوح هبَة من «الخارج»، الذي كان مشرَّعاً في وجوهنا، أطفالا، ثم مراهقين، ولمّا بلغنا «سنّ الرشد»، رشد!
أنتم أنتم، لمّا انتهت «الحرب»، تلك التّي كانت تسمَّى باسمها، تستمرون في الإمعان بقتلـنا، بسـلاح التجهيل، والتبعيّة، والعوز.
تسرقوننا في أمراضنا، وأمراض أطفالنا، في لقمتنا، في سعينا للعيش اللائق، في عرقنا، في ما نأكل، في مياهنا، في ومض النور الذّي يمكن أنّ يضيء غرفنا الضيّقة، في الطرق التي جعلها متعهدوكم مصائد موت، في قوانين قمتم بسنِّها، على مرّ السنين، عبر شرائكم لأصوات البعض منّا، المحتاج منّا، المضلَّل مناّ، لحرماننا من حقنا بأن نقول لا. تسنّون القوانين، وليس منكم من هو ليس خارج عن القانون، قانون الحياة، وقانون الطبيعة، وقانون البشريّة. قوانين تضمن بقاءكم فوق قلوبنا، ومن بعدها تُسلِّم أبناءكم لمناصبكم ـ مصائبنا.
تعيثون في أرضنا، على أرضنا، خراباً وفساداً. لا تتقنون شيئاً سوى ضمان استمراركم في التحكّم بتفاصيل حياتنا. تشيعون بيننا صوركم وأصواتكم، وتنشرون أفعالكم وآثامكم، في فضائنا.
لم ننسَ، لا، لم ننسَ، من كان منكم «قادة محاور» في الحرب الأهلية، وأضحى الآن مسالماً ناعماً. لم ننسَ، إن أحببتم أن تعرفوا، من كان يقرّر متى وأين تشنّ حفلات الجنون التّي كانت تزهق الدماء وتقطع الأعناق، في أزّقتنا وشوارعنا وغرف نومنا. وليس من بينكم من هو براء من دمائنا.
لم ننسَ الجري في الشوارع، بين قذائفكم، بحثاً عن أحباء كانوا قد خرجوا للتّو إلى مدارسهم، وجامعاتهم، وأماكن وظائفهم، ولن ننسى.
لن ننسى وجودكم بيننا لأنكم لم ترحلوا. أعدتم رسم صوركم، ولكن فينا وبيننا من يعرف حقيقتكم، ويذكر «وقائعكم». كيف ننسى ونحن لم نعرف سواها؟
أمّا اليوم، فتكملون ما لا تعرفون سوى الإمعان في اقترافه: قتلنا، وبمالنا.
غاب الرصاص، غابت القذائف، غاب القصف العشوائيّ، غابت حروب الزواريب التي كانت تأتي بأوامر من «الغريب» القريب، «الشقيق»، والبعيد، وبقي جبروتكم وساديَّتُكم.
في ما نأكل سمّ، في ما نشرب قحط وملح، في ما نرى ظلمةٌ وزور، في ما نسعى إليه وجوهكم المهيمنة، وعلى جباه كلٍّ منكم دمغة لا تتغيّر: شيعي. درزي. سنّي. مسيحي. دمغة تحمل في طياتها، الطبقيّ مخلوطاً بالطائفي، مع خليط تعميم سياسة استهلاك متوحّشة، وتقاسم الحصص.
طوائف؟ نحن لسنا إلّا نعاج طوائف. جردتمونا، وجرّدنا أنفسنا، من المواطنة، لمّا صادرتم الوطن الذّي أعلنتموه نهائياً، وأنزلتموه علينا كتاباً لا يُمسّ. ونحن قبلنا.
رصاصٌ، قنابل، قذائف، اغتيالات، تصفيات. موت بالماء والغذاء والكهرباء والدَين العام. مصادرة لمستقبل «ولد الولد» بتراكم الفوائد، والسخام والشحار، والأمراض، والمياه الجوفيّة التي لم تعجزوا عن الوصول إليها وبث سمومكم فيها.
حتى النفايات؟ استكثرتم علينا حتى رفع النفايات من الشوارع؟ تزاحموننا على اللقمة حتى في النفايات؟ خذوا ما شئتم من مناقصات، أكملوا بثّ سمومكم وتوزيعها، رصاصاً تارةً وموتاً مذهَّباً في «زمن السلم». ليس هناك من سينافسكم. ليس هناك من أنفه أطول من أنوفكم. ليس هناك من ذمَّته أوسع من ذممكم. ليس هناك من سيرفع «منقصات» تفوق مناقصاتكم ثمناً.
ولكن…
«هذي بلادي ولن أرحلا». رغماً عن أنوفكم الطويلة، وجشعكم، وإجرامكم.
ليس لابنتي غدٌ إلّا في هذه الأرض، رغماً عن أنوفكم وأنوف أبنائكم التي سيطويها التراب.
كملوا بثّ سمومكم. أنتم لا تتقنون إلّا ثقافة القتل.
حرفيون وأساتذة ليس فقط فعل القتل. أنتم صنّاع دمار. نحن أبناء حياة. نحن بنات حياة.
أنوفكم الطويلة سيطويها التراب. إرادة الحياة اللائقة التي نزرعها في أبنائنا ستحلّق في الفضاء.
أكملوا ما بدأتموه من ثقافة موت. على جبروتكم، و»حنكتكم»، ستُهزمون لأنّنا أبناء الحياة.
أكلموا ما بدأتموه من مهاترات وادِّعاءات. لم يعد بيننا من يصدقكم لأننا نستحق الحياة. الحياة. وليس ما ترسمونه بساديتكم من فتات.
أنوفكم الطويلة ستدفن تحت التراب، تتحلل وتتحوَّل إلى دود وصراصـير. أمّا نحـن، أبنـاء الحياة، فسنسمو في السماء…
لستم إلا كومة من النفايات. نفايات يتعيّن التخلّص منها فوراً. من دون مراعاة أي شروط بيئيّة. نفايات لا تستحقّ حتى المعالجة. نفايات تُطبق على صدورنا وحياتنا منذ أنّ وُلدنا. نفايات بأنوف طويلة لا تستحّق حتى أن تُدفن في ترابنا. نفايات لا تستحقّ إلّا الحرق. وبعد حرقها، سنتنفّس انبعاثاتها السّامة، لكنّنا سنعرف أنها المرّة الأخيرة.
جرعة السمّ الأخيرة ونحرّر أولادنا من سمومكم وأنوفكم الطويلة.
ولن نرحل.
السفير

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …