كتب قاسم قصير
في شهر رمضان الكريم، ينشر “أساس” مجموعة بورتريهات، تتناول جوانب من سِيَرِ “كبار” في المقلب الإسلامي، كان لهم أثرٌ كبيرٌ في الخير والمحبّة، وشابهوا أجمل صفاتِهِ. هو تكريم لوجوه لبنانية، كان لها عميق الأثر في صناعة المشهد الجميل في بيروت والشمال والجنوب والبقاع وغيرها من المناطق. الحلقة العاشرة نتذكّر فيها السيد محمد حسين فضل الله.
يعتبر السيد فضل الله أحد أهم مؤسّسي الحركة الإسلامية في لبنان والعالم العربي. وعندما نشأ حزب الله عام 1982 وُصف من قبل وسائل الإعلام اللبنانية والغربية بأنّه “المرشد الروحي للحزب”، لكنه كان يرفض هذه المقولة، ويؤكّد انفتاحه على جميع القوى والحركات الإسلامية والوطنية دون استثناء، ويرفض تعليبه ضمن إطار حزبي معيّن رغم علاقته الوثيقة بكلّ قادة حزب الله وتتلمذهم على يديه، إضافة للعلاقة التأسيسية مع قادة “حزب الدعوة الإسلامية”.
كانت علاقته مع حزب الله والمقاومة الإسلامية إحدى أبرز المحطات في حياته ودوره. وفضلاً عن أنّه من المؤسّسين للحالة الإسلامية في لبنان، وأنّ معظم العاملين في الساحة الإسلامية درسوا عنده وعملوه معه، إلا أنّه كان يرفض الانخراط في العمل الحزبي والتنظيمي. وكان يفضّل القيام بدور الرعاية والتربية والتوجيه الفكري والديني والفقهي. وعندما انطلقت المقاومة الإسلامية في لبنان عام 1982، كان من أبرز الداعمين لها مالياً وسياسياً وفقهياً، لكنّه رفض أن يكون له أيّ دور تنظيمي أو حزبي سواء في حزب الله أو المقاومة الإسلامية.
إقرأ أيضاً: محمد حسين فضل الله (1): مرجع مجدّد واجه التخلّف والمذهبية
وقد ساهم مع عدد من العلماء السنّة والشيعة في تأسيس تجمّع العلماء المسلمين لمواجهة الاحتلال الصهيوني. وانطلقت فكرة التجمّع والمقاومة عندما كان العلماء يزورون طهران في حزيران عام 1982 لحضور “مؤتمر المستضعفين”. وتقرّر هناك، بعد ورود أخبار الاجتياح الإسرائيلي للبنان، تشكيل التجمّع والعودة إلى لبنان لمقاومة الاحتلال. وقرار تأسيس التجمّع سبق تأسيس حزب الله. وكان لـ”تجمّع علماء المسلمين” دور مهمّ في إسقاط اتفاق 17 أيار في العام 1983.
ومع أنّه كان من الداعمين للجمهورية الإسلامية في إيران، وله علاقة وثيقة مع قادتها ولا سيما الإمام الخميني والإمام الخامنئي، فإن تصدّيه للمرجعية الدينية بعد رحيل الإمام الخوئي عام 1997، وعدم تبنّيه لمرجعية الخامنئي، أدّى إلى شنّ حرب إعلامية وفكرية واسعة ضدّه. وجرى استغلال بعض فتاويه ومواقفه الجريئة الرافضة للتخلّف والمذهبية، واعتماده للأسس العلمية في اجتهاده، لاتهامه بالضلال والانحراف والخروج عن المذهب الشيعي.
ومن المعروف أن السيّد فضل الله من دعاة الوحدة الإسلامية. ولذلك كان يدعو لإعادة النظر في كلّ التراث الاسلامي السني والشيعي. وكان يعتبر أن أيّ حديث أو فتوى أو رواية تتناقض مع النصّ القرأني تكون مرفوضة، وأنّ القرآن هو الأساس في الحكم على الروايات والأحداث والتاريخ. ولذلك دعا إلى مراجعة كلّ الروايات التي يستفاد منها من أجل إثارة الفتنة المذهبية، ومن هذه الروايات ما يُطلق عليه “مأساة الزهراء”، والتي تتحدّث عما تعرّضت له ابنة الرسول السيدة فاطمة الزهراء من قبل بعض الصحابة. وقد دعا السيد فضل الله لإعادة دراسة هذه الرواية والتأكّد من صحّتها. وقد عمد الكثيرون من معارضي السيد لاستغلال هذا الموقف لشنّ هجوم كبير عليه واتهامه بالضلال.
كانت تربطه علاقات قوية مع كلّ الحركات الإسلامية في لبنان والعالم العربي، وشجّع حركة “حماس” على المشاركة في الانتخابات التشريعية ، وكان على علاقة جيدة مع كلّ حركات المقاومة، ورفض حرب المخيمات في لبنان، وقدّم كل الدعم للشعب الفلسطيني
إلى ذلك رفض السيّد فضل الله مقولة ولاية الفقيه العامة. وكان يعتبر أنّ ولاية الفقيه محصورة في إيران بسبب قبول الشعب الإيراني بها وفقاً للدستور. فلا يمكن أن تمتدّ إلى دول أخرى. واختلف مع الإمام الخميني حول نظرية “الولاية التكوينية”، وتقول: “إن الله أعطى للرسول والأئمة الحقّ بالتصرّف بالكون”. رفض السيّد فضل الله تلك المقولة.
وتبنّى السيّد فضل الله العديد من الاجتهادات الفقهية والفكرية التي قد تختلف عما هو متعارف عليه في البيئة الشيعية. فكان يعتبر أن توقيت الغروب هو موعد سقوط قرص الشمس في البحر وليس غياب الحمرة المشرقية، وهذا أقرب لموقف معظم علماء السنّة. كما تبنّى اعتماد الفلك من أجل تحديد بدايات الأشهر القمرية، وخصوصاً بداية شهر رمضان وموعد عيد الفطر وبداية شهر شوال، وذلك في إطار دعوته الوحدوية. وكلّ هذه الفتاوى أحدثت سجالات ونقاشات داخل البيئة الشيعية، وأدّت إلى زيادة المعارضة لنهجه ومواقفه.
ولم يتبنّ الدعوة لإقامة الجمهورية الإسلامية في لبنان، واعتبر أنّ للبنان خصوصية معيّنة. ودعا الحركات الإسلامية في لبنان وفي المنطقة للعمل من داخل النظام والمشاركة في الانتخابات النيابية.
لكن رغم الاختلاف الفقهي والفكري أحياناً مع حزب الله وعلماء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا أنّه بقي حريصاً على دعم المقاومة الإسلامية في لبنان حتّى آخر رمق في حياته. وقال لأحد أقربائه خلال أيامه الأخيرة في المستشفى إنّه لن يرتاح حتى زوال الاحتلال الإسرائيلي للبنان. كما رفض الاحتلال الأميركي للعراق، ورفض التعاون مع قوات الاحتلال رغم اعتراضه ومواجهته لنظام صدام حسين.
وأما على صعيد العلاقة مع إيران، فقد كان حريصاً على الدعوة لدعم تجربة الجمهورية الإسلامية، وكلّ تجربة إسلامية في الحكم. وكانت تربطه علاقات قوية مع كلّ الحركات الإسلامية في لبنان والعالم العربي، وشجّع حركة “حماس” على المشاركة في الانتخابات التشريعية، وكان على علاقة جيدة مع كلّ حركات المقاومة، ورفض حرب المخيمات في لبنان، وقدّم كلّ الدعم للشعب الفلسطيني.
المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، كان علامة مميّزة في العمل الوحدوي الإسلامي، كما على صعيد الحوار الإسلامي – المسيحي. وكان منفتحاً على كلّ اشكال الحوار لبنانياً وعربياً ودولياً. ورغم معارضته الإدارة الأميركية، إلا أنّه استقبل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وكان على تواصل مع كلّ القيادات الدينية في العالم.
سيبقى السيّد محمد حسين فضل الله مرجعاً مهمّاً على صعيد الفكر الإسلامي الوحدوي والمتصالح مع العالم