العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله١٩/٤/٢٠١٦ / 12 رجب 1437هـ
لا نزال نتابع في نهج البلاغة أسلوب الإمام عليّ(ع) في التّفسير… كيف يستوحي الآية، وكيف يحوِّلها إلى عالم متنوّع يتحرّك في أعماق النّفس وينفتح في حركة الوعي الدَّاخليّ، من أجل تحويلها إلى قوّة في الالتزام الخارجيّ.
سبب نزول السّورة
فعندما كان(ع) يتلو الآيتين الكريمتين: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[1]، كان يستوحي المعاني العديدة والآفاق الكثيرة التي تنطويان عليها، وهو استيحاء معصوم لا يقبل الخطأ، لكنّنا قبل ذلك، نريد أن نشير إلى أنَّ هذه السّورة (التكاثر) قد نزلت في واقعٍ عاشه القرشيّون أو المكّيون في مكّة، حيث بدأوا يتفاخرون، ووصلوا إلى حدّ التّفاخر بالرّقم العدديّ لهذا الفريق أو ذاك، وقد كانت الأرقام تمثّل قيمةً متقدّمةً للأكثر عدداً: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[2]، حتى إذا انتهوا من عداد الأحياء، ورأوا أنهم ينقصهم عدد معيّن، ذهبوا إلى المقابر يحصون قبور هذه العشيرة أو تلك، ليثبتوا أنّهم أكثر عدداً.
ونزلت هذه الآية من أجل أن تضع القيمة في نصابها الصَّحيح، وهي في إيحائها الأوَّل، أنَّ هذا النّوع من الجدل يمثّل لهواً في حديث النّاس مع بعضهم البعض، ولا يمثّل قيمة جدّية إنسانيّة فيما يتفاضل فيه الناس، لأنَّ الكثرة لا يمكن أن تمثّل بنفسها قيمة إيجابيّة في معنى التقويم الإنساني، كما أنَّ القلّة لا تمثِّل قيمة سلبيَّة في الواقع الإنسانيّ من حيث التّقدّم والتأخّر.
فمسألة الكثرة والقلّة خاضعة للظروف الطبيعيّة الإنسانيّة الّتي تحكم هذه الفئة أو تلك، فقد نجد هناك مجتمعاً إنسانيّاً يتناسل أكثر بفعل العناصر الذاتيّة لزيادة النّسل، أو من خلال العناصر الخارجيّة الّتي تحرّك التناسل فيما يشبه الفوضى، بينما نرى أنَّ هناك مجتمعاً آخر لا يتناسل كثيراً، من خلال بعض الضّوابط التي تحدّد حركة النّسل، أو من جهة بعض العناصر الكامنة في هذا المجتمع التي تمنع هذه الكثرة. لذلك، لا يمكن أن تكون (الكثرة) هنا، النّاشئة من ظروف طبيعيّة خارجيّة، و(القلّة) هناك النّاشئة من ظروف أخرى، أساساً للقيمة.
ولعلَّنا عندما نواجه واقعنا المعاصر، فإنَّنا قد نرى كثرةً هائلةً في بعض المجتمعات الَّتي تصل إلى عشرات أو مئات الملايين، ولكنّها تعيش الضّعف والتخلّف والانحسار في حركة الواقع الإنساني في العالم، بينما نرى في مقابل ذلك مجتمعات أخرى أقلّ عدداً، ولكنَّها تملك من العناصر في التّقدّم العلميّ والفكريّ والتّنظيميّ، بحيث إنها تحكم تلك الأعداد الهائلة، وقد أكَّد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ}[3]. وتحدّث عن الكثرة في أنها قد تكون ـ بحسب الغالب ـ عنصراً سلبيّاً في النّتائج لا في طبيعتها: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[4]، {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}[5]، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[6]، وإلى غير ذلك.
معالجة مسألة التَّكاثر
ولذلك، فإنّ القرآن الكريم أراد أن يؤكِّد للإنسان أنّ القيمة إنما تكمن في النوعية وليس في الكميّة: كيف أنت في عملك؟ وكيف أنت في تجربتك؟ وكيف أنت في قوّتك؟ وكيف أنت في عطائك؟ وكيف أنت في حركتك كمجتمع؟ لا كيف أنت في عددك. ولذلك، فإنَّ مظهر التخلّف هو أن تعتبر الكثرة العدديّة قيمةً تجعلك أفضل من الإنسان الآخر أو المجتمع الآخر. ويتعاظم التخلّف عندما تلجأ إلى الّذين ماتوا، فتحاول أن تضيف أعدادهم إلى أعداد الأحياء، من أجل أن تعطي عائلتك أو بلدك هذا الامتياز في الكثرة العدديّة.
إنَّ الإمام عليّاً(ع) في خطبته هذه، أراد أن يعالج مسألة التَّكاثر في طبيعتها، من خلال إيحاء كلامه بأنَّ هذا التخلّف يمثّل الانحطاط في تصوّر القيمة الإنسانيّة، بإحصاء عدد الموتى الّذين انفصلوا عن الحياة ولم يعد لهم شأن فيها، ولا يمكن أن يعطوا القيمة للأحياء، لأنَّ ما يتمثّلون به من قيمةٍ في مرحلة، كان قيمةً لمجتمعهم، وليس قيمةً للمجتمعات القادمة. وهذا هو الّذي رفضه الإسلام والتّفكير الحضاريّ، في أنَّ مجتمعاً ما يحاول أن يجعل فخره في تأريخه، لأنَّ تأريخك الّذي يتشكَّل من خلال النّاس الكبار الّذين يتحركون في هذا التّاريخ، لا علاقة لك به بشكلٍ مباشر، ولا يعطيك قيمةً كبرى، لأنَّ القيمة هنا هي قيمتهم، بل ربّما يكون تأريخك لعنةً عليك، عندما يكون التأريخ كبيراً وعظيماً ومنتجاً ومنتصراً وفاتحاً، وتأتي بعد ذلك ليكون تأريخك تأريخ استهلاك وسقوط وهزيمة وضعف وخوف.
إنَّ الأمَّة الَّتي لا تكبر بصنع التّأريخ، هي أمّة يلعنها تأريخها، والله تعالى يقول لنا إنَّ كلَّ مجتمعٍ له كسبه، ولا يتحمَّل مجتمع ما مسؤوليَّة ما كسبه مجتمع آخر: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ـ في إيجابيّاتها وفي سلبيّاتها ـ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ـ في إيجابيّاتكم وسلبيّاتكم ـ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[7]، فلا تشغلوا أنفسكم بما كانوا يعملون، ولكن اشغلوها بدراسته: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[8]، وحاولوا أن تسألوا أنفسكم عمَّا عملوا، فهذه هي قصَّة قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[9].
استيحاء عليّ(ع) للآيتين
وتعالوا إلى الإمام عليّ(ع) لتعرفوا كيف يستوحي هذه السّورة، وكيف يوسّع مفرداتها ويفتح آفاقها، وكيف يخاطب الإنسان في ذلك كلّه، ليوحي إليه بهذا التخلّف الإنساني الداخلي فيما يأخذ به ذلك:
“يا له مراماً ما أبعده!”، والمرام هنا هو المطلوب البعيد عن الحقّ والوعي وخطّ الاستقامة، “وزوراً ما أغفله!”، وزيارة يزورون بها المقابر، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، فأية زيارة أغفل من هذه الزيارة؟! فالإنسان يزور الأحياء ليأخذ من قوَّتهم لقوّته، ومن وعيهم لوعيه، فيستزيد من ذلك، أو يستوحي الأموات استيحاء الفكرة والقيمة، لا أن تزور قبراً عليه شاهده لتأخذه رقماً، وأن تزور القبور من أجل أن تحصي الأرقام، بل أن تزورها لتأخذ العبرة والموعظة.
“وخطراً ما أفظعه!”، لأنّه الخطر الّذي يتهدّد الوعي والمعرفة والقيمة الإنسانيّة الّتي تكبر وتنفتح بها، “لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر”، أي أنهم عندما عاشوا ذكرياتهم، فإنهم أفرغوها من الدرس والعبرة، فالذكرى ليست مجرّد حالة نفسية تستحضر بها الماضي، ولكنّها حالة ثقافية روحية تأخذ بها العبرة والعظة والدرس من الماضي، ولكنَّهم أفرغوها من ذلك، فلم تعد تعني سوى رقم يضاف إلى سائر الأرقام.
“وتناوشوهم من مكان بعيد”، لقد ماتوا واحتواهم النّسيان، فابتعدوا عن الحياة والمجتمعات، ولكنَّ الأحياء المتفاخرين تناولوهم من مكان بعيد.
ثم يتساءل الإمام، لا تساؤل الطالب لمعرفة، ولكن تساؤل التّوبيخ والإنكار: “أفبمصارع آبائهم يفخرون؟!”، هل يتفاخرون بآبائهم الّذين صرعهم الموت؟! “أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟!”، أم يطلبون الموتى في حجمهم العددي؟! “يرتجعون منهم أجساداً خوت”، فلقد ذهبت الأجساد في أعماق الأرض، ولكنَّهم يستعيدونها مجرّد أجساد خاوية سقط بناؤها وخلت من أرواحها، “وحركات سكنت”، فهؤلاء ساكنون لا يتحرّكون، “ولأن يكونوا عبراً أحقُّ من أن يكونوا مفتخراً”، فلو أنصف هؤلاء أنفسهم، ونظروا إلى كلّ الذين ذهبوا في الأرض، لكانوا عبرةً لهم، لأنهم يأخذون من ذلك درساً بأنهم سوف يموتون كما مات هؤلاء، ويهلكون كما هلكوا.
“ولأن يهبطوا بهم جنابَ ذلّةٍ، أحجى من أن يقوموا بهم مقامَ عزَّة”، فهؤلاء الأموات الّذين يتمثَّل الضّعف الإنساني كلّه فيهم، من جهة فناء أجسادهم وانقضاء أعمارهم، هم ـ من النّاحية الجسديّة ـ في مقام ذلّة، وإلا فأيّة عزّةٍ للأموات في جانبهم الجسديّ! فأن يهبطوا بهم هذا المقام، أقرب إلى العقل من أن يقوموا بهم مقام عزَّة.
“لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة”، والعشوة هي النَّظر الضَّعيف، فلم ينظروا إليهم بأبصار صحيحة حادّة تعرف حقائق الأشياء، “وضربوا منهم في غمرة جهالة”، أي عاشوا في أجواء الجهالة، وانطلقوا بهم في هذا الاتجاه في التَّفكير، “ولو استنطقوا عنهم”. وهنا يقول الإمام(ع)، إذا أردت أن تعرف حقائق هؤلاء، اسأل وستجيبك هذه الدّيار بلسان الحال لتعطيك حقيقتهم، “ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدّيار الخاوية” التي تهدّمت، “والربوع الخالية” من أصحابها، “لقالت: ذهبوا في الأرض ضُلاّلاً”، أي ضاعوا في الأرض، ولم يعد لهم أيّ أثر، “وذهبتم في أعقابهم جُهّالاً”، فلقد ضلّت بهم الأرض، فضاعوا فلم تعد تميّز عظماً من عظم، أو لحماً من لحم، أو رفاتاً من رفات، كما تضيع حبات الرّمال عندما تتحرّك من أماكنها، أمّا أنتم، فبهذا التّفكير المتخلّف بقيتم من بعدهم جهّالاً. ومن أعظم مظاهر الجهل، أنّكم تحدّقون في أجسادهم وتتابعون قبورهم، لتحصوا رقماً هنا ورقماً هناك، “تطؤون في هامهم”، فعندما نمشي على القبور، إنما نمشي على تلك الرّؤوس الّتي كانت مرفوعةً ثم استحالت تراباً، تماماً كما قال الشّاعر (علي الشرقي)، وهو يصوّر هؤلاء الّذين تحوّلوا إلى غبارٍ وترابٍ من موتى (وادي السلام) في النّجف:
عبرتُ على الوادي فسفّت عُجاجةٌ فكـم من بلادٍ في غبارٍ وكم نادي
وأبقيت لم أنفض عن الرّأس تربه لأرفع ـ تكريماً ـ على الرّأس أجدادي
فهؤلاء قد تحوَّلوا إلى تراب، وانطلقت الرّياح لتأخذه وتوزّعه على رأس هذا وعلى أرض ذاك، “وتستثبتون في أجسادهم”، ألا ترون إلى الحدائق والأزهار والأعشاب الَّتي تنبت في المقابر، أنّها تأخذ من أجساد الموتى العناصر الّتي تنمو بها، وبذلك يقول الشَّاعر:
يا منبتَ الأجساد عشباً على الثّرى هل تطلع الأرواح مطلع أورادِ؟
“وترتعون فيما لفظوا”، فأنتم تتحركون فيما تركوه ولفظوه وأعرضوا عنه، “وتسكنون فيما خرّبوا، إنّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم”، فأنتم تبكونهم، ولكنّ الأيّام تبكي عليكم، لأنّكم غافلون بطول الأمل، فكلّ يومٍ يمضي هو دمعة تسفحها الأيّام عليكم، لأنَّ كلَّ يومٍ يموت منك، يعني أنَّ قطعة من حياتك قد ماتت، فنحن ـ في واقع الأمر ـ نموت تدريجيّاً، فحينما تُسقط في كلّ يومٍ ورقة من التّقويم، فإنما تسقط شيئاً من عمرك.
“أولئك سلف غايتكم”، فهؤلاء الَّذين سبقوكم، يشيرون إلى الغاية الأخيرة وهي (الموت)، “وفرّاط مناهلكم”، والمناهل هي المياه والينابيع، والفارط هو الّذي يتقدَّم القوم إلى الماء ليهيّئ موضع الشّرب، فالموتى يتقدَّموننا ليهيّئوا لنا مكاناً إلى جانب هذا القبر أو ذاك، لنشرب من كأس المنيّة.
“الذين كانت لهم مقاوم العزّ”، فلقد كانت لهم أماكن العزّ والشَّرف، “وحلبات الفخر”، وكانوا يعيشون الفخر في حركة الحياة من حولهم، “ملوكاً وسوَقاً”، أي أسياداً وعواماً، “سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً”، ومعنى البرزخ هنا هو القبر، لأنه برزخٌ بين الدّنيا والآخرة، “سُلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم”، أي الشّقوق الّتي في داخل القبر، “جماداً لا ينمون”، فليس لهم نموّ، تماماً كما هو الحجر، “وضماراً لا يوجدون”، والضّمار هو المال الّذي لا يرجى رجوعه، “لا يفزعهم ورود الأهوال”، فالأهوال تحدث في الدّنيا، وهم ساكنون لا شأن لهم بذلك، “ولا يحزنهم تنكّر الأحوال ـ وتقلّبها من حالٍ إلى حال ـ ولا يحفلون بالرَّواجف”، أي الزلازل الّتي توجب الاضطراب، “ولا يأذنون للقواصف”، أي لا يستمعون الرّعد، “غيباً لا ينتظرون”، فهم في حالة غيابٍ عنّا، ولكن من منَّا ينتظر (الميّت) الغائب أن يعود؟!
“وشهوداً لا يحضرون”، فنحن ننظر إلى أجسادهم، ولكنَّهم لا يحضرون حضور الأحياء، “وإنَّما كانوا جميعاً فتشتّتوا”، فلقد كانوا عائلة مجتمعة، فذهب هذا ورحل ذاك، “وآلافاً فافترقوا”، لا يتعرّف أحدهم إلى الآخر.
“وما عن طول عهدهم ولا بعد محلّهم”، فهذا ليس من جهة طول العهد وبعد المحلّ، ولكنّها طبيعة الموت، “عميت أخبارهم، وصمّت ديارهم، ولكنّهم سُقوا كأساً”، لماذا عميت أخبارهم وانقطعت عن الدّنيا؟ لأنهم سقوا كأس الموت، “بدّلهم بالنّطق خرساً”، فلقد كانوا ينطقون فأصبحوا خرساً، “وبالسَّمع صمماً”، فبعد أن كانوا يسمعون أصمّهم الموت، “وبالحركات سكوناً، فكأنّهم في ارتجال الصّفة صرعى سبات”، فكما أنَّ النَّائم لا يعرف ما حوله، فكذلك هم، “جيران لا يتأنّسون، وأحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التّعارف”، فلقد بليت كلّ هذه العلائق الّتي كانت تربطهم في الدّنيا، “وانقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلّهم وحيد وهم جميع”، فهم مجتمعون في المقبرة، ولكن كلّ واحدٍ منهم ينام في قبره وحيداً ليخرج منه وحده، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
“وبجانب الهجر وهم أخلاّء”، أي يهجر بعضهم بعضاً، وقد كانوا أخلاّء، “لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، ولا لنهارٍ مساءً، أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً”، والجديدان هما اللّيل والنّهار، فلو ظعنوا في اللّيل، لكان اللّيل عليهم سرمداً، لأنهم لا ينتظرون نهاراً يشرق عليهم ليتحرّكوا فيه، ولو ظعنوا في النّهار، لكان النّهار عليهم سرمداً لا ينتظرون ليلاً يظلم الكون فيه ليأووا إلى مضاجعهم.
“شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا”، لأنَّ ما شهدوه أعظم من كلّ ما مرّ عليهم مما كان يخيفهم، “ورأوا من آياتها أعظم مما قدّروا”، فلم يكونوا يتصوَّرون ما في الموت وما بعد الموت، “فكلتا الغايتين مدَّت لهم إلى مباءة”، أي أنَّ الجنة والنّار مدّت لهم مكان استقرار، فهناك من يستقرّ في الجنّة وهناك من يستقرّ في النّار.
“فأتت مبالغ الخوف والرّجاء، فلو كانوا ينطقون بها، لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا”[10]، فلم يستطيعوا أن ينطقوا، بل أرتج عليهم لهول ما يشهدون، وذلك كناية عن العبرة من معاينة ما في القبور.
ولكلام عليّ(ع) بقيَّة لا يتَّسع لها المقام، ولكن يتَّسع لها مقام آخر في أسبوع آخر.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 13 شوّال 1419هـ/ الموافق: 30/1/1999م.
المصدر: بينات