علي عباس
أيها العزيز…
روى لي شخصٌ عايشك طفلاً في حيّ النبعة ببيروت الشرقيّة؛ أنّك سعيت يوماً للانتساب إلى فتية «أصدقاء المسجد»؛ المجموعة التي نشأت في كنف المرجع الراحل السيد فضل الله، وأنّ سنّك الذي كان يُقارب الثلاث عشرة سنة آنذاك، لم يسمح لك بدخول هذه المجموعة المتقدّمة عمراً.
غير أنهم أتاحوا لك دخولها استثناء؛ مبرراً بالقول: «كان وعيهُ أكبر من عمره»
ونحنُ بالفعل ما زلنا نرى فيك ذلك.
نرى ونُكبر فيك قائداً لم تذهلهُ سطوة السلطة عن روحِ التواضع؛ وهو ما حباكَ سلطةً أبعدَ وأوسع.
الشغفُ الذي تسمعُه عن جمهورٍ يَعدُّ أنفاسك على الشاشة ليس أقلّ من مكرمةٍ سماوية، ومدعاة مسؤوليّة في الآن ذاته.
الهتاف الذي تجدهُ من حناجر محبّيك في الضاحية، لا يُقارنُ بوجيب القلوبِ التي تدعو لك خارجها.
وبسمتك التي تلهم الكثير من اللبنانيين ثقةً بالمستقبل، تُلهم الملايين سواهم ثقةً بأنه لم يزل هنالك تجسّدٌ للقيم الإنسانيّة في هذا العالم الظالم.
والحالُ هذه… من الجدير أن نضع بين يديك نقاطاً مُلحةً ثلاثاً؛ نتلمّس فيها أذىً جديّاً لبيئةٍ نُجلّ ونقدّر.
لعلّ من فضول الكلام أن نتحدّث وإياك عن أبعاد حربنا الحضاريّة التي نخوضها مع غير عدوّ، وأنّ البندقيّةَ – على أهميتها- أحد أوجه هذه الحرب لا أكثر.
حربُ الوعي التي نخوض لا تقلّ شراسةً، ولا خطراً؛ ما يقتضى «تهيّؤاً وتعبُّؤاً» على الصعيد ذاته.
وبدءاً..
اسمح لي أن أكلمك بمفردات الصراحة التي لا تجانب الودّ في جوهرها وغايتها:
السلوك الأمنيّ الحادّ
من دون ريب… كُلنا يُقدّر الهاجس الأمنيّ الذي تعيشه الضاحية؛ وضرورات الحفاظ على سلامة ذويها؛ غيرَ أن المبالغةُ من قبل «البعض» في استحضار الأمن قبل أيّ اعتبارٍآخر؛ بدأ ينسحبُ على قيمٍ كانت مائزة التنظيم ومظهر منظومته الأخلاقيّة الفريدة.
بتنا نسمع ونرى ما يشوبها في الآونة الأخيرة، من أذى وانفعال يمسّ كرامات وحقوق بعض الناس؛ ولك أن تسميها بالفعل «مظالم».
بجوار مجمع سيّد الشهداء…
استوقفني تعبيرٌ – قاسٍ بعض الشيء- لأحد محبيك من دولة مجاورة؛ أنّ «الحسين ليس حاضراً في الضاحية هذا العام»؛ منعه الحاجز الأخير من دخول المجمّع بعد أن «اكتشف» أنّهُ من جنسيةٍ عربيّة أخرى! ولم تفلح لغة الأبوّة التي استخدمها جاهداً _بعد تفتيشه الدقيق_ بإدخاله إلى مجلس المواساة.
«التعليمات» التي لم يُعرف سببها كانت صارمة كما قيل له، وهو ليس في وارد تقبّلها على باب الحسين الذي لا يردّ مُحبّاً.
انصرف الرجل منكسر الخاطر، وهو يُتمتمُ باستيائه وانزعاجه.
سيف الخرافة الذي
يفتُّ البيئة من داخلها
ليس أقلّ خطراً من
سيف العدوّ
في المخطط العتيدِ ذاته… طُرقت أبواب أناسٍ كثيرين يسكنون الضاحية (وهم من جنسيات متنوّعة)؛ ليتمّ إعلامهم بحبسٍ احتياطيٍّ؛ يَحظرُ عليهم تخطّي عتبة الباب من الساعة الثانية في اليوم التاسع، وحتى الخامسة من مساء اليوم العاشر!
قراراتُ حظر التجول الليلية باتت روتيناً يوميّاً تفرضهُ وحدات الأمن في أغلب الأحياء، ولن أفشي سرّاً إن أعلمتك أنّ العديد من الأشخاص يتعرّضون لإيقافٍ «غير لائقٍ» وأذية معنوية موصوفة.
الكثير من المواقف غير اللائقة مسّت أشخاصاً من داخل الضاحية أو من ضيوفها.
ليس ثمّة تنافٍ في الجمع بين الأمن وكرامات الناس، وهو ما برع الحزب بإثباته على امتداد سنواتٍ طوال؛ وأثمر سمعةً طيبةً للغاية.
كلّنا يُدرك أنّ التوصيف والنقدَ سهلان أكثر من الفعل، لكنّ الغيرة على هذه التجربة الفريدة وإنجازاتها أكبر من التغاضي عن سلوكياتٍ يمكن تلافيها، ويُخشى أن تمسّ بعض رصيدها الثمين.
أيها الأمين…
سطوة الأمن باتت أكثر حضوراً من صورة «الإخوة الملائكيين» الذين يُضفون على البندقية لمسةً أخلاقيّة فريدة؛ وهو ما يحتاجُ التفاتة توجيه.
مثلكُ من يُدرك أنّه ليس في هذا الوجود برمّته ما يَعدِل قلباً منكسراً، أو كرامة مهدورة… ومثلك من يُقدّر أثرَ هذه السنن على استدامة التوفيق.
منك سمعنا ذاتَ يومٍ قصّة دموع عليّ (ع) عندما شكت إليه امرأةٌ عجوزٌ ظُلمَ أحد وُلاته، ووعينا أنّ الأخلاق تُقّدم لدى تعارضها مع أيّ معيارٍ أو ضرورةٍ أخرى.
هي سنّةُ الاستمرارية في التنظيم أو الحكم أو القيادة: «قوّة العدل»، ودونها تكون المشاريع متساوية القيمة ودنيويّة الحسابات.
تجذّر لغة الكراهية
لدى شريحةٍ وافيةٍ من جمهور المقاومة وعيٌ بحساسية المرحلة، وضرورة تكاتف الطاقات والشرائح، وحتى الأطياف المذهبيّة.
غيرَ أنّ شرائح عديدة أخرى لا تمثّل لها هذه النظرة الشاملة معياراً في القول أو السلوك.
لغة الكراهية تزداد انتشاراً،والخطاب الحادّ تجاه البيئات الأخرى بات أكثر رواجاً من أيّ وقتٍ مضى، أمّا كلامُك الدافئ عن التقارب ومحبة الآخر؛ فهو يُفسَّر – لدى الأعم الأغلب- بأنّه ضروراتٌ خطابيةٌ ومجاملات منبرية.
نُنبيكَ – بمحبّةٍ كبيرة – أنّ مفردات التطرّف التي تراق دماء الشهداء الطاهرة لأجل وأدها، تغزو جمهورك القريب بعنف.
هذه اللغة تنعكس سلوكاً؛ يستقطب تطرّفاً مضاداً.. ويزداد استهلاك الطاقات في دوّامة البغض المتبادل، العصيّ على دعوات المحبّة والتقارب.
ثمّة أسبابٌ إنسانيّة محضة من دون ريب، وحزنٌ كبيرٌ على فقدِ أعزةٍ وأحبّة؛ لكنّ المنطق الناضج الذي تمثّلهُ دائماً في خطابك؛ لا بُدّ له من آلياتٍ جدّية لينعكس على بيئة الداخل ولغتها المباشرة.
لعلّ الأمر بحاجةٍ إلى ما هو أبعد من الخطاب. من الانصاف الالتفات إلى أنّ ثقافة المجتمع المقاوم ليست معصومةً من الثغرات، وتحديداً عند مفاصل الانفعال التي تفرضها قسوة الأحداث؛ غيرَ أنّ ذلك لا يُعفي من نتائج كارثيّة لدى «الآخر»، الذي يَرقبُ ويتأثّر.
تطرّف العلاقة بالغيب
عندما افتتحَ ربُّنا آيات سورة البقرة واصفاً عباده المؤمنين أنّهم «يؤمنون بالغيب»؛ لم يكن يريدُ لهم أن ينسلخوا عن واقع الحياة وأسبابها.
وحين أبى أن يُجري الأمور إلا وفق سننها؛ أمرنا – من دون ريبٍ – أن نمتلك عوامل الفعل ومقومات النجاح؛ هذه مُسلمةٌ من مسلّمات التعليم الدينيّ والثقافة الملتزمة.
الغيبُ مددُ الآخذين بالأسباب، وليس سلاح العاطلين عن التهيؤ.
منك نستفيد هذا المعنى في طيّات الخطاب والعمل. المفارقة القاسية التي نتلمّسها؛ هي أنّ جمهور الخط الفاعل بدأ يميلُ بحدةٍ ناحية الغيب المطلق (ليس تعميماً بالطبع). والقصص «دائمة التطوّر» عن المعجزات والخوارق والغيبيّات باتت تتفوّق – بقوةٍ- على ثقافة الاستعداد والتهيّؤ ومنطق الأسباب.
الإفراط الذي تعيشه «بيئة الداخل» في هذا الإطار تحديداً، ليس مدعاة تفاؤلٍ!
لسنا ندري إن كان ثمّةَ من يُروّج له باستهدافٍ متعمَّد، لكننا ندرك كم هو مهمٌ لـ«العدوّ» أن يَرقُبَ هذا الابتعادَ التدريجيّ من منطقِ العقلِ وقوّة الوعي.
في خطبتك القيّمة يوم التاسع من المحرّم (والتي خصصتها لمعالجة فكرة المهديّ المنتظر)، أشرت إلى ظاهرةٍ سلبيةٍ تغزو الساحة بشراسة، هي فكرة التوقيت السلبيّ لظهوره، أو التعلّق المفرط بالعلامات أو المنامات أو ادعاءات الرؤية.
كنتَ واضحاً، وشديد التأكيد، وحازماً في احترام أدوات المعرفة.
من ذات الخطبة اقتُطع جزءٌ يُناقض كلامك تماماً، وانتشرَ على نطاقٍ مذهل!
حين توقفتَ لحظاتٍ عن الكلام نتيجة صخبٍ عابر، ومررت يدك على كتفك بشكلٍ طبيعيّ؛ أقسم ناشروا ومُتداولو هذا المقطع أنك رأيت «المنتظر» بين الجمهور وخَصَصته بتحيّة وإيماءة! ليس مؤشراً صحيّاً – على الإطلاق- أن ينجَرَّ قسمٌ كبيرٌ من الجمهور إلى هذا المستوى من التناقض. هذه المفردة المثال… تستفحل أكثر مما قد يصلُ إليك بكثير وأخطر. سيف الخرافة الذي يفتُّ البيئة من داخلها، ليس بأقلّ خطراً من سيف العدوّ الذي يتهددها من الخارج؛ وإن كان لكلّ منهما آليات علاجه.
لستُ أدري – في مورد العلاج تحديداً – إن كان من العدل أن نطلب من تنظيمٍ مقاومٍ بالدرجة الأولى أن يملأ ساحة الوعي ويحمل عبء ثقافة المجتمع الدينية.
هذا حديثٌ لهُ شجونه وضروراته.
لكنّ الرصيد الذي تمتلكه في شخصك، وخطابك الحافل بالوعي؛ كفيلٌ بالحدّ من الانحراف إلى مدىً بعيد.
أيها العزيز…
إنّ نقاء الخطّ من شوائب الفكر والمعتقد أحد العوامل الرئيسة لاستدامة حركته؛ والتراكم الغيبيّ الذي يُرهق الساحة سينهار يوماً على رؤوس الجميع، إن لم تتوفر آليات انضباطه، وأنت أفضل من يعلم ذلك.
نحن إذ نقدّر ونثمّن كلّ جهدٍ وفاعليّة يقدّمهاهذا التنظيم الرياديّ، لمشروع الأمة وتحديات المرحلة؛ ليس لنا إلا أن نعيش الغيرة على مشكلاته.
«الخطأ» في البيئة النشطة ليس مثلبةً بقدر ما هو ثغرةٌ تحتاجُ حثيثاً إلى «إصلاح»، وكثيرَ من الموضوعية في استقصائه. لا أخفيك أنّ فكرة الكتابة لك على الملأ تعوقها كثير من المحذورات، وتقتضي الاستعداد المسبق لسوء الفهم الذي تتّسمُ به بيئتنا المندفعة. لكنّ ضرورة إيصال مشهدٍ من الواقع، فضلاً عن بلسمة الكثير من الخواطر المتأذية؛ مَهمةٌ جديرةٌ باحتمال ضريبة كتلك.
دمتَ عزيزاً…
* باحث واستاذ حوزوي