ببيانٍ مقتضبٍ من سطرَيْن لا أكثر بل ربما أقلّ، يكاد يكون “نسخة طبق الأصل” عن بيانات حوار عين التينة بين “حزب الله” و”تيار المستقبل”، التي لا تحمل أيّ جديدٍ بين طيّاتها، انتهت الحلقة الأولى من مسلسل “الحوار الوطني” في موسمه الثالث، موسمٌ لا يبدو أنّه سيكون واعدًا ولا مبشّرًا…وإذا كان جائزًا القول أنّ هذا البيان يشكّل “الثمرة اليتيمة” لهذا الحوار، فإنّ “مفارقاتٍ عديدة” أمكن رصدها سريعًا، أهمّها أنّ “نقاط التشابه” بين مواسم الحوار الثلاثة هي شبه مطلقة، بدءًا من “أبطال” المسلسل الذين بقوا أنفسهم منذ ثلاثة مواسم، وصولاً إلى “المضمون” الذي لم يخرج عن الرتابة والملل المعتادَين..
تغييراتٌ شكليّة…
كما كلّ المسلسلات التي تتعدّد مواسمها، بدا أنّ “الابتكار” كان الغائب الأكبر عن الموسم الجديد من مسلسل “الحوار الوطني”، الذي يشكو أصلاً منذ موسمه الأول من ضعفٍ في الأداء والمستوى، ومن ركاكةٍ غير خفيّة في السيناريو.
وعلى الرغم من انتقال مهمّة “الإخراج” من الرئيس السابق ميشال سليمان، الذي أدار حلقات “الموسم الثاني” في قصر بعبدا، إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي كان أصلاً “عرّاب” الموسم الأول، فإنّ هذا التغيير “الشكليّ” لم يُعطِ الحوار “نَفَسًا جديداً” هو أحوج ما يكون إليه، تمامًا كما لم تُعطِه كلّ الترتيبات الاستثنائية التي سبقته ورافقته أيّ “زخمٍ” من أيّ شكلٍ أو نوعٍ كان.
وحدها، أصوات الشباب اللبناني الثائر والمتمرّد، التي كانت تصدح في الخلفيّة بهتافات “يسقط حكم الأزعر” و”الشعب يريد إسقاط النظام” وغيرها، شكّلت إضافة نوعيّة على المشهد الحواريّ اللبنانيّ، وإن بدت وكأنّها خارج السياق التاريخيّ، وإن عاب عليها الكثيرون بعض الممارسات التي قد تحرفها عن مسارها، مسارٌ لو قُدّر له أن يبقى على الصراط المستقيم، فسيكون عليه أن يضبط إيقاع الحوار بكلّ ما للكلمة من معنى ويفرض على المتحاورين “أجندة عمليّة” للخروج بحلولٍ واقعيّة للأزمات التي ورّطوا فيها البلاد والعباد.
فشلٌ وأكثر…
عمومًا، تشير كلّ المُعطيات إلى أنّ “الفشل” كان السمة الأبرز للجلسة الحواريّة الأولى، التي لا يبدو أنّها استطاعت أن تحقّق أيّ تقدّمٍ يُذكَر، لدرجة بدت وكأنّها مجرّد “عرض” لوجهات النظر المختلفة والمتباينة حول موضوع الانتخابات الرئاسية، والتي يعلمها اللبنانيّون عن ظهر قلب، من دون القدرة على إيجاد “قواسم مشتركة” من شأنها التمهيد لـ”خرقٍ نوعي” يحتاج إليه المتحاورون أكثر من غيرهم.
ولعلّ “المشادات الكلامية” التي دارت خلال الحوار بين عددٍ من مكوّناته، والتي تمّ كشف النقاب عنها على دفعات بُعيد إقفال الستارة، أتت لتزيد “الطين بلّة”، خصوصًا في ضوء “الإرباك” الذي لوحظ في نهاية المطاف، حين استُدعِي الصحافيون إلى القاعة ووُعِدوا بتصريحٍ سيدلي به برّي لتلخيص أجواء الاجتماع، فإذا بالأمين العام لمجلس النواب يدخل بدلاً عنه ليقرأ بيان السطرين ويغادر، الأمر الذي لم يوح إلا بـ”السلبيّة”.
ولم يبدُ هذا الأمر مستغرَبًا، خصوصًا في ضوء التصريحات التي سبقته والتي وضعته سريعًا في إطار “بازار المزايدات” على أكثر من صعيد، فمعظم الأفرقاء دخلوه بـ”أحكامٍ مسبقة” لا يمكن أن تترك له أيّ فرصة بـ”النجاح”، فمنهم من دخله بنيّة “إجبار” الآخرين بالسير بطرحه مهما كان الثمن، ومنهم من دخله بعين “تشاؤميّة” باعتبار أنّ التجارب السابقة كافية ووافية، ومنهم من دخله “مهدّداً” و”متوعّداً” على قاعدة أنّ “الانسحاب منه” واردٌ في أيّ لحظةٍ، في ممارسة قد تبدو “ابتزازية” أكثر منها أيّ شيءٍ آخر..
من يضحك على من؟
في مُطلَق الأحوال، ليست “السلبيّة” التي سبقت الجلسة الأولى ورافقتها “بيت القصيد”. أصلاً، لم يكن أحد ينتظر من هذا الحوار “حلاً سحريًا” طال انتظاره. المتحاورون أنفسهم لم يتوهّموا بأنّهم سيخرجون، لا بجلسةٍ واحدة ولا حتى بمئة جلسة، باتفاقٍ تاريخيّ “صُنِع في لبنان” ينهي كلّ الأزمات المستفحلة، وأولها انتخابات الرئاسة “المجمّدة” منذ أربعمئة وثلاثةٍ وسبعين يومًا.
من هنا، فإنّ الهدف من الحوار ليس اجتراح المعجزات. يقول المطّلعون على أنّ الهدف الحقيقي والجوهري منه هو “تنفيس الاحتقان”، تمامًا كحوار “حزب الله” و”تيار المستقبل”، الذي “يرعاه” أيضًا رئيس المجلس النيابي نبيه بري، والذي وجد صداه في الشارع إلى حدّ ما، وإن بقيت “خصومة” الفريقين أكثر من “فاقعة”، وهي التي تترجَم بصورةٍ يوميّة على شكل اتهاماتٍ متبادلة، تصل لحدّ التخوين وأكثر.
لكن، هنا تنفيس الاحتقان يتّخذ بُعدًا آخر. ليس “الاحتقان” المقصود هو ذلك الذي “يفرّق” بين الأحزاب السياسية ويباعد فيما بينها، بل ذلك الذي بدأ يترجَم في الشارع مظاهراتٍ غير مسبوقة بستارٍ مدني، باتت الطبقة السياسية تخشى أن “تفلت” من بين أيديها. أصلاً، هذه الطبقة لم تكن لـ”تتضامن” فيما بينها لولا شعورها بهذا “التهديد” الحقيقي، تهديدٌ أطاح بالكثير من “مبادئها”، فنسي هذا أنّه كان يرفض الجلوس مع ذاك على طاولةٍ واحدةٍ، ونسي ذلك أنّه كان يشترط تراجع ذاك حتى يقبل الحديث معه، فالخطر وجوديّ ويستحق “التضحية”.