سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 10 ذو القعدة 1435هـ الموافق 5 أيلول 2014م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا {الأحزاب:33}
نلتقي غداً، في الحادي عشر من شهر ذي القعدة بولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الَّذي كانت ولادته في العام 148 ه، والَّذي آلت إليه الإمامةُ بعد استشهاد أبيه الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، وكان عمرهُ آنذاك حوالي خمساً وعشرين عاماً، وقد كان ذلك في عهد الخليفة العباسي هارون الرَّشيد الَّذي مارس على الإمام الرضا(ع) ضغوطاً كبيرةً، وأخضعه لرقابةٍ مشدَّدةٍ لأنَّه كان يخافُ منه لما يمثِّلُهُ من شرعيَّةٍ دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ باعتباره من أبناء رسول الله(ص) الَّذين كانوا يحتلُّون مساحةً كبيرةً في وجدان المسلمين، بسبب كمالاتهم الأخلاقيَّة والسلوكيَّة والدينيَّة والعلميَّة، الَّتي لا يشبههم فيها أحد، بحيث كان كلُّ واحدٍ منهم -أي الأئمة(ع)- يجسِّدُ الإسلام الحقيقيَّ الصافي كما أراده رسول الله(ص)، وهذا ما جعلهم محطَّ أنظار المسلمين جميعاً، وأيضاً محطَّ أنظار الخلفاء والحكَّام الَّذين كانوا يرون فيهم تهديداً لوجودهم وسلطتهم، وخاصَّة العباسيِّين، لأنَّ انقلابهم على الأمويِّين كان تحت شعار: طلب الخلافة للرِّضا من آل محمد، ولعلَّ هذا ما يفسِّر ظلمهم الشديد لهم ولشيعتهم، حتى قيل:
تالله ما فعلت اُميَّةُ فيهمُ معشارَ ما فعلت بنو العبَّاس
ومن هنا نطلُّ على مسألةٍ مهمَّةٍ تتَّصلُ بعقيدتنا في أئمتنا(ع)، فنحنُ كمسلمين نرتبط بخطِّ أهل البيت(ع)، نعتقدُ أنَّه لا بدَّ في الإمام الَّذي نتولَّاه ونقتدي به، من أن يكون أعلمَ النَّاس وأفضلَهم وأعرفَهم بما تحتاج إليهِ الأمَّة في أمور دينها وصلاح مجتمعها، وأن يكون بالإضافة إلى ذلك أعبدَهم وأزهدَهم وأكملَهم في صفاتهِ وخصائصهِ الخُلُقية والذَّاتيَّة. وهذا ما نستنتجُه ونتوصَّلُ إليهِ عندما نتابعُ تاريخ الأئمة(ع) وتفاصيل حياتِهِم ومواقفِهم في شتَّى المجالات، من خلال ما يرويه كلُّ الرُّواة المُنصفين، سواء المعتقدين بإمامتهم أو غير المعتقدين بها بل حتَّى أولئك الَّذين ساروا في رِكابِ حكَّامِ الجورِ، الَّذين ظلموا أئمتنا(ع) أشدَّ الظلم، وعملوا على إبعادِهم وعزلِهم عن حركة المجتمع خوفًا من ظهور تأثيرهم فيه.
وعلى هذا الأساس، كان الارتباط الكبير من قبل رجال الأمَّة الإسلامية، بهؤلاء الأئمَّة الأبرار الأطهار، وتعظيمهم واحترامهم وتقديسهم، بل على هذا الأساس كان الشِّعار المرفوع من قِبَلِ كلِّ الثُّوَّار على حكام الجور في تلك الفترات، المخلصين منهم والطامعين، هو شعار المطالبة بتسليم الحكم والخلافة للرِّضا من آل محمد(ص)، والَّذي كان يراد به، الإمام المعاصر لتلك المرحلة، ممَّا يرسم صورةً عن واقعهم الذي كان يُعايشُهُ ويُقدِّرُهُ كلَّ أهل الوعي من المسلمين.
والإمام الرضا(ع) واحدٌ من تلك السلالة، الطّاهرة الَّتي مثَّلت الكمال الأقصى في كلِّ المجالات، ممَّا دفع بالمأمون -الَّذي كان يُطالب بالخلافة الَّتي تسلمها أخوهُ الأمين بعد موت أبيهما الرَّشيد- إلى أن يستفيد من هذا الواقع، فيتقرَّبَ إلى قلوب النَّاس من خلال عرضِ قضيَّةِ الخلافةِ أو ولاية العهد على الإمام (ع)، ولعل ذلك كان من أهمِّ الأسباب التي أوصلته إلى تحقيق تطلُّعاته وأهدافه، واستقراره في موقع الخلافة، وعندما حقَّق أهدافه الخاصَّة، مكر بالإمام وتخلَّص منه بطريقةٍ غادرةٍ خبيثةٍ، كما يُحدِّثُ الكثير من رواة الأخبار التاريخيَّة.
فهو من حيث العلم كان يمثِّل الموقع الكبير في مناظراته، ومواقفه العلميَّة فيروي ابن الجوزي في تذكرته، والحاكم النيسابوري في تاريخه، عنه أنَّه: أخذ العلم والحديث عن أبيه وكان يجلس في مسجد الرسول(ص)، فيُفتي النَّاس وهو ابن نيفٍ وعشرين.
وقال المأمون لمن ثقُلَ عليه اختياره ولياً للعهد كما في البحار عن النّيسابوري: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا(ع) فما بايع له المأمون إلَّا مستبصراً في أمره، عالماً بأنَّهُ لم يبقَ أحدٌ على ظهرها أبين فضلاً ولا أظهر عفةً ولا أورع ورعاً ولا أزهد في الدنيا، ولا أطلق نفساً ولا أرضى في الخاصَّة والعامَّة، ولا أشدَّ في ذاتِ الله منه.
وجاء عن أبي الصَّلت الهروي: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلِّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحدُ منهم إلَّا أقرَّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور. ولقد سمعت عليَّ بن موسى الرضا(ع) يقول: كنت أجلس في الروضة ـ بجوار قبر النبيِّ(ص). والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألةٍ أشاروا إليَّ بأجمعهم وبعثوا إليَّ بالمسائل فأُجيب عنها.
وعن محمد بن عيسى اليقطيني قال: لمَّا اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا(ع)، جُمعَت من مسائله مما سُئِل عنه وأجاب فيه، ثمانيةَ عشر ألف مسألة. وقد روى عنه جماعة من المصنّفين، منهم الخطيب البغدادي في تاريخه، والثعلبيّ في تفسيره، والسمعانيّ في رسالته. وابن المعتزّ في كتابه وغيرهم.
وقد كثُرت الرواية عنه في شتى العلوم من الفقه والكلام والأخلاق وتهذيب النفس وغيرها. ونحن نتوقف مع بعض هذه الأحاديث لما فيها من معرفة وعبرة نحتاجهما في حياتنا ومجتمعاتنا.
وقد نُقِلَ عنه أنَّ رجلاً قال له: والله ما على وجه الأرض أشرف من آبائك فقال(ع): “التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم. وهذا هو جوهر الإسلام، فإنَّ التقوى هي الهدف والغاية، وإنَّما يتفاضل النَّاس بالتقوى وهذا ما جاء في حديث آخر عنه(ع) حين قال له رجل: أنتَ والله خير الناس، فقال له(ع): لا تحلف يا هذا، خيرهم من كان أطوع الله وأتقى له والله ما نُسخَت هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13].
ورُوِيَ عنه(ع) قولُه: إنَّ صاحب النّعمة على خطر ما دامت حقوق الله تعالى فيها، والله إنَّه ليكونُ عليَّ النِّعمُ من الله عزَّ وجل، فما أزال على وَجَلٍ حتَّى أَخرُجَ من الحقوق الَّتي تجب عليَّ فيها، فقال الراوي-مستغربا من هذا الخوف الَّذي يسيطر على الإمام من عدم تأدية الحقوق وهو أوَّل من يؤدِّيها على وجهها وتمامها وبأفضل حقِّها-: جُعلتُ فداك، أنتَ في قدرِكَ –وجلالك ومكانتك وإيمانك وحسن أدائك للحقوق- تخاف هذا؟! قال(ع): نعم، وأَحْمَدُ ربِّي على ما أنعم به عليَّ. وهذا درس يعلِّمنا إياه إمامنا الرِّضا(ع)، فإنَّ أداء الحقوق الشرعية الماليَّة أو المعنويَّة، هي نعمة يمنُّ الله بها علينا، وليست شيئا نتفضَّل به على المجتمع والنَّاس وأصحاب الحاجات. ولذلك علينا أن نحذر من الوقوع في العُجبِ في حين أنَّنا يجب أن نكثر من الشُّكر على هذه النِّعمة الَّتي ترتفع بإنسانيَّتنا وإخلاصنا في تديًّنن وندخل بها الجنَّة.
أيُّها الإخوة.. إنَّ علينا عندما نقف مع ذكريات أئمّة أهل البيت أن نتوقَّف عندها لنتعلَّم منهم كيف نكون المخلصين للهتعالى في حركتنا كلِّها، وكيف نكون المسؤولين عن المجتمع كلِّه والأمَّة كلِّها لنتحرَّك في خطِّ الإصلاح الَّذي يريدنا الله أن نتحرك فيه، وفي خطِّ العقل والمعرفة والوعي فقد جاء عن إمامنا الرضا(ع) أنَّه قال: صديقُ كلِّ امرئ عقلُه وعدوُّهُ جَهلُه، وهذا ما ينبغي أن نلتفت إليه ونتمسَّك به في هذا العالم المتفجِّر من حولنا لنعرف ماذا يحيك لنا الاستكبار العالمي، وكيف علينا أن نتصرَّف لنحمي أمَّتنا حيثُ تواجه الأمَّة الإسلاميَّة تحدياتٍ مصيريّة ومخاطرَ كبيرة، تتعاظم كلَّ يوم، وتنطلق جميعُها من مصدر واحد، هو الاستكبار العالميّ، الَّذي يَكيدُ للإسلام والمسلمين، ويريد لهم أن يكونوا مُمزَّقينَ تابعينَ له ولمشاريعه، عندها لن يكون لديه مشكلةٌ مع تديّنهم، لكن مشكلته هي مع الذين يلتزمون الإسلام فكراً وحركةً ومنهجاً يتجسّد في الواقع، رفضاً للظلم والظالمين، وحركةً من أجل تحقيق العدل في الأرض.
إنَّنا لا يمكن أن نَغفَل عندما نرى أمريكا اليوم تثيرُ مسألة الحرب على الإرهاب، أنَّها لعبت دوراً أساسيا في تنمية الوحش التكفيريّ الَّذي ينطلق من فهم مُشوّه للإسلام، والمنفلت من أي ضوابط دينيَّة أو أخلاقيَّة أو إنسانيَّة، حيث كَبر تحت رعايتها في السبعينيات، واستخدمته لإخراج الإتحاد السوفياتي السابق من أفغانستان، وقدَّمت له مع دول عربيَّة وإقليميَّة، كلَّ الدَّعم والرِّعاية، لأنَّه كان يخدم مشروعها بشكل مباشر، لكنَّه في ما بعد، انقلب عليها من خلال ما جرى في أحداث 11 أيلول.
أمّا اليوم، فإنَّ نموَّ الجماعات التكفيريَّة، لم يكن بعيداً عن الدَّعم الأمريكيّ والعربيّ والإقليميّ، حيث تمَّ استغلاله كوسيلةٍ لإسقاط النظام في سوريا، لأنَّه يخالف مشاريعهم ومخطَّطاتهم، حيثُ فتحت تركيا حدودها للمقاتلين الأجانب، الَّذين جاؤوا من كلِّ حدبٍ وصوب، كما قدّمت دولٌ عربيَّة كلَّ الدَّعم الماليّ والتَّسليحيّ، ممّا سَمحَ بتمدُّد خطر هذه التنظيمات في العراق أيضاً، إضافة إلى الأخطار الأمنيَّة الَّتي باتت تُمثِّلها في العديد من دول المنطقة، مثلَ لبنان والأردن وغيرها.
واليوم، بعد استفحال خطر هذه الجماعات، ازداد القلق الغربيّ منها، خصوصاً بعد ذبح الصحافيَّين الأمريكيَّين، وبعد توافد تكفيريِّين من أوروبا للقتال في سوريا والعراق، وما يمكن أن يتركَه ذلك من خطر على أمن الدُّول الأوروبيّة.
لكنَّ أمريكا، رغم رفعها شعار الحرب على الإرهاب، تستغلُّ هذا الإرهاب وتستفيد منه لتفتيت دول المنطقة، لِتبقى ضعيفةً ومُشَتَّتة، تتوسَّل دعمها لردّ الخطر القادم، ممَّا يجعل من أمريكا، مرجعيّةً تتحكم بمصير المنطقة، لذلك فإنها لا تبدو عازمةً على القضاء على الإرهاب كما تقول، بل تريد استثماره لتعزيز دورها ونفوذها، وخدمة مخطَّطاتها في المنطقة، وتأكيد سيطرتها عليها.
أما في لبنان، فقد شكَّل خطف هذه الجماعات لجنود الجيش اللبناني تدهوراً كبيراً للأوضاع، كما شكَّلت طريقة تعامل الدَّولة مع ما جرى، كارثةً على المستوى الوطني، وخصوصاً مع تفكير البعض بعملية مقايضة بين الجنود المخطوفين وبين بعض الإرهابيين الَّذين كان لهم دورٌ أساس في سفك دماء الأبرياء. إنَّ مُجرّد التفكير في هذا الأمر، يشكِّلُ خطيئة لا تُغتَفر، لأنَّها تعني مكافأة المجرمين على إجرامهم، وطعناً للكرامة الوطنيَّة. أمّا الرَّدُّ الوحيد على هؤلاء المجرمين، فهو المزيدُ من التمسُّكِ بالوحدة الوطنيَّة وتحصين السَّاحة الدَّاخليَّة، وعدمُ إعطائهم أيَّ غطاءٍ سياسيِّ داخليّ، لأنَّ من يقوم بذلك، يكون شريكاً لهم في جرائمهم.
ختاماً، نقف مع ذكرى الإمام المغيَّب السيِّد موسى الصدر، الذي مرَّت ذكرى اختطافه قبل أيام، لنؤكِّدَ ضرورةَ أن نستوحيَ خطَّه ومنهجه، الَّذي كان منهجاً إسلاميًّا رساليًّا، انفتح من خلاله على قضايا الإنسان في لبنان، وعلى قضايا الأمَّة الكبرى، وعلى رأسها قضيَّةُ فلسطين، التي شكَّلت مرتكزاً أساساً في فكره وحركته.
إنَّنا في هذه الذِّكرى، نؤكِّد على القضيَّة الأساس وهي قضيةُ حفظ المقاومة وسلاحها في وجه العدوُّ، والتزام تحريرِ فلسطينَ والقدسَ الشريف، مهما تعاظمت الصُّعوبات والتَّحدِّيات.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } [التوبة:105] والحمدُ للهِ ربِّ العالمين