سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 29 شوَّال 1436 هـ الموافق 14 آب 2015م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابِهِ الكريم: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا {الأحزاب:33}.
ما نزال نعيش في أجواء الإمام السَّادس من أئمَّة أهل البيت(ع) وهو الإمام جعفر بن محمد الصَّادق(ع) الَّذي مرَّت علينا ذكرى وفاته منذ عدَّة أيام -في 25 شوَّال- وتحدَّثنا عن بعض جوانب شخصيَّته ومميزاتها في الأسبوع الماضي.
وقد استمرَّت إمامته حوالي 34 سنةً قمريَّة عايش فيها فترةً من حكم الأمويين وبعدها شهد قيام الحكم العبَّاسيِّ تحت شعار (الرِّضا من آل محمَّد)، حيث عاش مع فترة حكم أبي العبَّاس السَّفاح ومن ثمَّ توفِّي بعد مرور عشر سنوات من حكم المنصور.
وعلى الرَّغم من أنَّ الحكم العبَّاسيَّ قام تحت شعار الرضا من آل محمَّد، إلَّا أنَّ العبَّاسيُّة مارسوا التضييق الشديد على أهل البيت حتى قال الشاعر:
يا ليتَ ظلمَ بني مروانَ دام لنا وليت عدلَ بني العبَّاس في النار
وقد تحرَّك الإمام(ع) بعد وفاة أبيه الباقر(ع) ليقوم بحاربة الظلم والطغيان والفساد، وكان(ع) يوصي أصحابه بحسن معاملة النَّاس من حولهم لكي ينتظم المجتمع وتستقيم أموره كما أراد الله سبحانه وكما هو هدف الإسلام في تشريعاته وقوانينه، وكان يقول لهم: أوصيكم بتقوى الله –لأنها هدف كلِّ عبادة وأصل كلِّ خير- وأداء الأمانة لمن ائتمنكم –من برٍّ أو فاجر وهكذا كان رسول الله(ص) وهكذا يجب أن يكون المسلمون- وحسن الصحبة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دعاة صامتين. وقد استغرب أصحاب الصادق من هذا الكلام فسألوه: يا بن رسول الله كيف ندعو إلى الله ونحن صامتون؟! فقال(ع): تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله، وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدُّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر، ولا يطَّلع النَّاس منكم إلاّ على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا إليه. وكان(ع) يعيدُ هذه الوصيَّة ويؤكِّدُها بين أصحابه. وكان يقول لأصحابه: عليكم بتقوى الله، والورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحُسنِ الخُلُق، وحُسنِ الجِوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً.
وكان(ع) يريد من أصحابه أن يتحرَّكوا في طريق الدَّعوة إلى اللهتعالى من خلال أعمالهم وليس فقط من خلال كلامهم ومن خلال الوعظ والإرشاد بالكلام، بل ان تكون أعمالهم صورة عن كلماتهم وأقوالهم، وذلك أعظمُ وقعًا وأبلغُ في التَّأثير.
وقد تحرَّك الإمام الصَّادق(ع) بالثَّورة، ولكنَّها لم تكن الثَورة المسلَّحة، بل الثَّورة الثَّقافيَّة الَّتي تنشر علوم الإسلام، وتحدِّد مناهج التفكير فيه، وتؤسِّس للقواعد والأصول الَّتي يمكن من خلالها لأهل العلم أن يعالجوا قضايا المجتمعات وأن يجدوا حلول مشاكلها على أساس الثَّوابت والقِيَم الإسلاميَّة القرآنيَّة والنَّبويَّة.
لقد كانت ثورة الإمام الصَّادق ثورة تعمل على نشر الإسلام وثقافته، وتدعو إلى التحلِّي بأخلاق الإسلام الرَّفيعة الَّتي تدعو النَّاس إلى الإيمان بالله وإلى طاعته في أوامره ونواهيه، وإلى إقامة المجتمعات الإنسانيَّة على أسس الحق والخير والعدل.
وكان العلماء مع اختلاف انتماءاتهم الفكريَّة و العقائديَّة ينظرون إلى الإمام الصادق نظرة الاحترام والهيبة والتقدير لما يظهر منه من العلوم الغزيرة، وهذا ما نلاحظه في كلماتهم حيث روي عن مالك بن أنس أنَّه قال: ما رأت عينٌ ولا سَمِعَت اُذُنٌ ولا خَطَرَ على قلب بَشَرٍ أفضلَ من جعفرِ بن محمَّدِ الصَّادقِ عِلمًا وعِبادَةً ووَرَعًا.
وعن أبي حنيفة قال: ما رأيتُ أفقَهَ من جعفر بن محمَّد؛ لمَّا أقدمه المنصور بعثَ إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ النَّاس قد افتتنوا بجعفر بن محمَّد فهيّئ له من المسائل الشِّداد. فهيَّأت لهُ أربعينَ مسألَةً ثمَّ بعثَ إليَّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفرُ بن محمَّدٍ جالسٌ عن يمينه، فلما بصُرتُ به، دَخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور. فسلَّمتُ وأومَأ فجلستُ، ثمَّ التفتَ إليه قائلاً: يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة. فقال : نعم أعرفه، ثم التفتَ المنصور فقال: يا أبا حنيفة ألْقِ على أبي عبدالله مسائلَك. فجعلتُ أُلقِي عليه فيُجيبُني فيقول: أنتم تقولون كذا وهم يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربَّما تابعهم وربَّما خالفنا حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلَّ منها مسألةً واحدة. وكانت نتيجة المناظرة في ذلك الحشد وبحضور المنصور الَّذي كان يترقَّب لأبي عبد الله الصَّادق(ع) زلَّةً ولو صغيرة، أو توقُّفًا عن الإجابة في مسألة من المسائل، أنَّ أبا حنيفة يقول أمام المنصور: أعلمُ النَّاس أعلمُهُم باختلاف النَّاس. ممَّا جعل المنصور يشعر بالخيبة وتتبدَّدُ آماله بأن يخطئ الإمام أو يتوقَّف عن الإجابة ولو في مسألة واحدة من أربعين مسألة، ليُظهِرَ من خلال ذلك أنَّ الإمام الصَّادق(ع) كغيره من علماء المسلمين، وأن لا خصوصيَّة له ليكون له الأفضليَّة على جميع من عداه من العلماء، هذا وقد كان الكثير من علماء تلك المرحلة قد تلمَّذوا عند الإمام الصادق(ع) ومنهم أبو حنيفة الَّذي قال: لولا السَّنتان لهلك النَّعمان. وهذا هو اسم أبي حنيفة.
وجاء في مناقب ابن شهرآشوب أنَّ زيد بن علي كان يقول: في كلِّ زمان رجلٌ منَّا أهل البيت يحتجُّ به الله تعالى على خلقه، وحجَّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمَّد، لا يضلُّ من تبعه لا يهتدي من خالفه. وقال الشهرستاني في الملل والنحل: كان أبو عبدالله ذا علمٍ غزيرٍ في الدِّين وأدبٍ كاملٍ في الحكمة، وزهدٍ في الدُّنيا، وورعٍ عن الشهوات.
وقد قيل في إمامنا الصادق(ع) الكلام الكثير في صفاته وخصائصه وفضله ممَّا لا مجال لحصره أو عدِّه.
أيُّها الأخوة المؤمنون
إنَّ علينا أن نهتديَ بإمامنا الصَّادق(ع) في حركته وتعليماته لأنَّها التَّعليمات المعصومة الَّتي تنبع من كلمات رسول الله وتستهدي بهدي رسول الله في خطِّ الإسلام الأصيل، ومن هنا نقف مع واقعنا، لنطلَّ على أوضاع المسلمين اليوم، حيث يواجهون التَّحدِّيات الَّتي تفرضها قوى الاستكبار العالميِّ، الَّتي تسعى إلى تمزيقهم وتشتيت صفوفهم، كما تعمل لإعادة تشكيل خريطة المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، وتقسيمها حسب مصالحها ومخطَّطاتها، بما يخدم مصالحها ومصالح العدوِّ الإسرائيليِّ.
ومن هنا إنَّ على الدُّول الإسلاميَّة أن تسعى لمواجهة هذا المشروع، وتتحرَّك للتصدِّي لمشاريع التَّقسيم والتَّفتيت والفوضى، بدل أن تكون عاملاً محرِّضاً على إثارتها.
ومن هنا فإنَّنا نُعوِّل على الدَّور الَّذي تلعبه الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، من أجل حلِّ المشكلات، ورأب الصَّدع في الصَّفِّ الإسلاميِّ، ومواجهة تحدِّي الإرهاب الَّذي يستهدف الجميع، ولا يوفِّر أحدًا من ضرباته.
كما إنَّ تفتيت المنطقة يخدم أوَّلاً، العدوَّ الصّهيونيَّ الَّذي يحاول الاستفادة ممَّا يجري من أجل تعزيز حضوره في المنطقة، فبعد الضَّربة الَّتي تلقَّاها من خلال نجاح إيران الإسلام في انتزاع اعترافٍ دوليٍّ بها كقوَّةٍ نوويَّة، لن تتوقف محاولاته وأطماعه في بلادنا، حيثُ نعيشُ هذه الأيام الذِّكرى التَّاسعة لعدوان تمُّوز، الَّذي شنَّ فيه العدوُّ حربًا شاملةً على المقاومة وشعبها، ولكنَّه فشل بعد أكثر من ثلاثٍ وثلاثين يومًا في تحقيق أهدافه، لأنَّ المقاومة تصدَّت وصمدت، ومعها شعبُنا المؤمن الأبيُّ الَّذي تحمَّل كلَّ الصُّعوبات من أجل تحقيق الانتصار.
إنَّ التَّديُّن والارتباط بالخطِّ الإيمانيِّ وبالعلماء هو الَّذي صنع هذه الثُّلَّة المباركة من الشباب المؤمن، الَّذي انطلق في أصعب الظُّروف، منذ أيَّام الاحتلال، وتحمُّل مسؤوليَّة الدِّفاع عن أرضه وشعبه وأمَّته، فاستطاع أن يصنع بجهاده الانتصار الكبير، حيث نستذكر كلَّ الشُّهداء الأبرار، الَّذين كان لهم الدُّورُ الكبير في صنع التَّحرير والانتصارات، وعلى رأسهم الحاجّ خالد بزي، والحاج راني بزي، وأخوتهم من الشُّهداء الأبرار من أبناء هذه البلدة الطَّيِّبة.. نستذكرهم اليوم، لنُحَيّيِ دماءَهم وتضحياتِهم، كما نستذكِرُهُم حتَّى يكونوا القدوة لكلِّ شبابِنَا، في جهادهم وأخلاقِهم وإيمانهم وتقواهم وتواضُعِهم وبُعدِهِم عن الدُّنيا وقُربِهم من الله، إذ لا يكفي أن نرفع صُوَرَهُم، بل لا بُدَّ أن نلتزم بأخلاقيَّاتِهم الرَّفيعة وتديُّنِهم وإخلاصِهم لله وللخطِّ الإسلاميِّ، حتَّى نكونَ أوفياءَ لدمائهم، وحتَّى نواصلَ مسيرَتَهُم، في خطِّ الله، خطِّ الإيمان والمقاومة والجهاد والانتصار.
بسم الله الرحمن الرحيم
}وقل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ{ {التوبة:105}
والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.