سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 07 رمضان 1435هـ الموافق 04 تموز 2014م
بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة/184-185].
ها نحنُ نلتقي بالجمعةِ الأولى من شهر رمضان المبارك الَّذي شرَّفه المولى تعالى وعظَّمَه، وجعلَهُ ذا ميزةٍ خاصَّةٍ على غيره من شهور السنة، فكان شهرَ فريضة الصَّوم والعبادة وشهرَ القرآن، وشهرَ الطَّهور وشهرَ ليلة القدر.
وقد اهتمَّ رسول الله(ص) بهذا الشَّهر الكريم أيَّما اهتمام، وأراد للمسلمين أن يقتدوا به في ذلك، وأن يفهموا قيمتَهُ وأهميَّتَهُ وفضلَهُ ليعيشوا كلَّ الأجواء الرُّوحية الَّتي تقرِّبُهُم من الله تعالى والَّتي تنفعُهُم في دنياهم من خلال ما تختزنُهُ من الخير، كما تنفعُهم في آخرتِهِم من خلال ما وعدَ به اللهُ تعالى عبادَهُ الصَّائمين المطيعينَ له المتقرِّبين إليه بالذِّكرِ والصلاة والدُّعاء وفعل الخيرات من ثوابٍ وأجرٍ ولُطفٍ ورحمةٍ وجنةٍ عرضها السماوات والأرض.
إنَّ خصوصيَّة شهر رمضان باعتباره موسماً روحياً وعبادياً مميزاً، جعلتهُ عند الله تعالى –كما أخبرنا رسول الله(ص)- أفضل الشهور، من خلال أيامه ولياليه وساعاته، حيثُ المؤمنُ مدعوٌ إلى أن ينزل في ضيافة الله عزَّ وجلَّ الَّذي هو أكرم الأكرمين وأجودُ الأجودين، وهل من ضيافةٍ أعظمُ من هذه الضيافة… أنفاسُ الصائم جعلها الله عزَّ وجلَّ في هذا الشهر تسبيح، ونومُهُ الذي يُسهِمُ في تقويته على الصوم والطاعة جعله تعالى عبادة، وعمله الَّذي يتقرَّبُ فيه إليه سبحانه بإخلاصٍ وخضوعٍ مقبولاً، ودعاؤهُ الَّذي يبتهل فيه لربَّه ويخشعُ له يُستجابُ ولا يُردُّ أبداً ، وهذا ما يُشير إليه رسول الله(ص)، حين يقول: فاسألوا الله ربَّكم بنياتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة -من الشِّرك والكفر والحقد والشرِّ والنوايا السيِّئة-، أن يوفِّقكم لصيامه -الَّذي كتبَهُ عليكم كما كتبَهُ على الَّذين من قبلِكُم لعلَّكم تتَّقون-، وتلاوةِ كتابهِ –أي القرآن الكريم الَّتي تُعتَبَرُ تلاوتُهُ من أفضل أعمال هذا الشهر، شرط أن نتلوهُ بتدبُّرٍ وتفهُّمٍ واستيعابٍ لمعانيهِ ومفاهيمِه، كي نخرجَ منهُ بثقافةٍ قرآنيةٍ مركَّزةٍ نرتقي من خلالها بوعينا وأفكارنا وإيماننا وروحانيَّتِنا وسلوكياتِنا في الحياة-. ومن خلال كلِّ ذلك نستطيعُ أن نصلَ إلى الجائزة الكبيرة الَّتي هي غفران الله لنا، فإنَّ الشقيَّ من حُرِمَ غُفرانَ اللهِ في هذا الشَّهر العظيم. فأيُّ شقاءٍ أعظمُ من أن يواجهَ الإنسانُ الرحمةَ الإلهيَّةَ الَّتي تنهمرُ على العباد، فيما هو محرومٌ منها، لا ينالُهُ من فيوضاتِها شيء… فأيُّ شقاءٍ عظيمٍ هو هذا الشَّقاء، أعاذنا الله تعالى منه.
ثم يتَّجهُ الرسولُ(ص) في حديثهِ إلى تبيانِ المعاني الروحيَّة للصَّوم، مذكراً لنا بيوم العرض على الله تعالى يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النَّبأ:40] من أعمالٍ في هذه الدُّنيا، فيقول (ص): واذكروا بجوعِكُم وعطشِكُم جوعَ يومِ القيامةِ وعطشِه –يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا طعام فيه ولا شراب، إلَّا ما أدَّخرَه الإنسانُ من زادِ العمل الصالح، زادِ الصلاة والصومِ والعبادةِ وحُسنِ الخُلُق وقضاء حوائجِ النَّاسِ من حولِه، وتحمُّلِ مسؤوليَّةِ الأيتامِ والفقراءِ و المساكين، وفعل الخيرات في مختلفِ مستويات الحياة… لذا فإنَّ علينا حين نجوع ونعطش-خاصَّةً في هذه النهارات الطويلة وهذا الطَّقس الحار- أن نفكِّر بجوع يوم القيامة وعطشِه، لنعملَ على أن نخفَّف من جوعنا وعطشنا في ذلك اليوم العظيم، من خلال العمل الحثيث على التخفيف من سيئاتِنا وذنوبِنا، والإكثار من العبادة والطاعة وعمل الخير والتقرُّب إلى الله تعالى بما ينفعنا في آخرتنا، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88-89]
ثم ينطلق رسول الله(ص)، ليوحي لنا بالأسلوب الأخلاقي والرُّوحي العملي الَّذي يجبُ علينا التزامهُ في حياتنا وعلاقتنا الاجتماعيَّة في هذا الشهر المبارك خصوصاً، وفي كلِّ الأشهر الأخرى عموماً، فيقول(ص): وتصدَّقوا على فقرائِكم ومساكينِكم – فنحن حين نجوع ونعطش في هذا الشهر، علينا أيضاً أن نتذكَّر جوعَ الأيتامِ والفقراءِ والمساكينِ وعطشَهُم، فنسعى لنخفَّف عنهم ما يعيشونه من حرمانٍ وفقرٍ وفاقة، بأن نتكفَّلَهُم ونساعدَهُم ما أمكننا ذلك، من خلال دفع ما يتوجب علينا في أموالنا من صدقاتٍ تطهِّرُنا وتزكِّينا من جهة، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] وتحقِّقُ مبدأ التَّكافل الاجتماعيِّ فيما بيننا من جهةٍ أخرى.
وتستمرُّ التوجيهات النبوية المباركة فيقول(ص): وقِّروا كباركم وارحموا صغاركم –خطابٌ موجَّهٌ للأجيال الجديدة من الشباب في القسم الأوَّل منه وللأجيال الأقدم من الكبار في القسم الثَّاني منه.
الخطاب الموجَّه للشباب يدعوهم إلى أن يتعاملوا مع الكبار بالاحترام والتبجيل والتوقير، لأنَّهم أصحابُ تجربةٍ وتضحية، ولابُدَّ من احترامِهم واحترامِ تجربتِهِم وتضحيتِهِم وشيبتِهم، اعترافاً بفضلهم وشكراً لهم على كلِّ ما قدَّموه لأبنائِهم وللأجيالِ الَّتي ربوها وعلَّموها وعملوا من أجلها.
أمَّا الخطاب الموجَّه للكبار فيدعوهم إلى يرحموا من هم أصغر منهم في السن، سواءاً كانوا أطفالاً لم يدخلوا معترك الحياة بعد، أو شباباً ينفتحون حديثاً على الحياة من دون خبرةٍ سابقة، أن يرحموا أحلامهم وآمالهم وتطلُّعاتهم، وأن يساندوهم ويكونوا إلى جانبهم في الرأي والمشورة، دون أن يفرضوا عليهم رأيهم بتعنُّتٍ واستكبارٍ.
ويُتابعُ الرسول(ص) توجيهه للمسلمين فيما يجب عليهم في هذا الشهر الفضيل، يقول: وأحفظوا السنتكم – عن الكذب والغيبة والنميمة والبهتان والسبِّ وإثارة الفتنة وغيرها من الذنوب، فاللسان من أهم جوارح الإنسان التي عليه أن يحفظها لتحفظه، وقد يكون سبباً في دخول صاحبه إما للجنة ونعيمها، أو للنار وجحيمها، ولذا كان الأمر من النبي(ص) بحفظ المسلم للسانه، وقد ورد عنه (ص) حين طلب منه بعضهم أن يوصيه، قولهُ له: إحفظ لسانك… وهل يُكبُّ النَّاس على وجوههم في النار إلَّا حصائد ألسنتهم.
وغضُّوا عمَّا لا يحلُّ النَّظرُ إليهِ أبصارَكُم وعمَّا لا يحلُّ الاستماعُ إليهِ أسماعَكُم أن لا ننظر إلى ما يحرم النظر إليه، وأن لا نستمع إلى ما لا يجوز لنا الاستماع له، فنستخدم اسماعنا وأبصارنا فيما يحلُّ لنا، بحيث تكون نوافذ إلى عقولنا، نُغني من خلالها حياتنا.
وصِلوا أرحامَكم -فصلَةُ الرَّحِمِ تُخلِّفُ في المجتمع حالة المحبَّةِ والألفةِ والتَّعاون- وهي كما ورد في المأثور: تطيلُ في الأعمار وتوسِّعُ في الأرزاق.
أن نصلَ حتَّى ذو الرَّحِمِ المسيءِ فنُحسنَ إليه، والبعيد فنقرِّبُه، فصِلةُ الرَّحِمِ من أفضل الأعمال عند الله تعالى، إنَّ أفضل الصَّدقة، الصَّدقَةُ على ذي الرَّحمِ الكاشح.
وتوبوا إلى الله من ذنوبكم – وهنا يدعونا الرَّسول إلى أن ندخل هذا الشهر بتوبة نصوح نتهَّر بها من ذنوبنا، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وقد ورد في الحديث الشَّريف: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشُّورى:25] أنهُّ يقبلُ توبتنا مهما كانت ذنوبنا كبيرة، المهم أن نندم على ما فعلنا ونحسم أمرنا في عدم ارتكاب الذُّنوب ثانية، وهذا هو مفهوم التَّوبة الصَّادقة النَّصوح، وقد ورد في الأخبار: أنَّ لله ملكاً في شهر رمضان ينادي كل يوم: ألا تائب فأتوب عليه ألا من مستغفرٍ فاغفر له.
وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم -وشهر رمضان هو شهر الدعاء والطلب من الله تعالى فنتوجه إليه لا إلى غيره بحاجاتنا بدون أي واسطة، خاصَّةً في أوقات صلواتنا فإنها أفضل الساعات، ينظر الله فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا نادوه ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيبُ لهم إذا دعوه.
أيها الناس إنَّ نفوسكم مرهونةً بأعمالكم فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، فإنَّ الله أقسم بعزَّته أن لا يعذِّب المُصلِّين والسَّاجدين يوم يقوم النَّاس لربِّ العالمين.
وتحنَّنوا على أيتام الناس يُتحنَّن على أيتامكم -أن نشعر بالمسؤولية تجاه الأيتام الذين فقدوا الراعي والمعيل الَّذي يحوطُهُم بالرِّعاية والمحبَّة والعاطفةِ والرَّحمة، لنعوِّض لهم شيئاً ممَّا افتقدوه، ومن يتحنن على أيتام النَّاس يهيء الله لأيتامه من يتحنَّن عليهم بعد وفاته.
وأفضل الأعمال في هذا الشهر كما قال رسول الله(ص): الورع عن محارم الله. ولذا، لنفتش عن كلِّ مخالفاتنا ومعاصينا لنتركها ونتوبَ إلى الله منها، وبذلك نصلُ إلى التَّقوى، التي تمثِّلُ الهدف الأساسي لتشريع الصوم. لعلَّكم تتَّقون.
التقوى في العبادة والتقوى في الأخلاق والتقوى في العلاقات الإجتماعيَّة والاقتصاديَّة، والتقوى في السياسة حين نتحمَّلُ مسؤوليَّة إدارة شؤون النَّاس، فنهتمَّ بقضايا أمَّتنا وشعوبنا ونُخلِصُ في إلتزامنا بها، في مواجهة كلِّ التحدِّيات والمشاكل التي تعصفُ بنا من كلِّ حدبٍ وصوب.
ومن هنا نطلُّ على ما يجري في عالمنا العربيِّ والاسلامي، حيثُ يحلُّ شهر رمضان المبارك على الأمَّة الإسلاميَّة في وقتٍ تعيش فيه تحدِّياتٍ كبرى في الداخل والخارج، في مرحلةٍ هي من أصعبِ المراحل الَّتي مرَّ بها المسلمون على امتداد تاريخهم الطَّويل.
فمن جهة، يواجه المسلمون مخطَّطات الاحتلال الصِّهيونيِّ والاستكبار العالميِّ الَّذي يُحاول السَّيطرة على واقعِهِم ونهبِ ثرواتِهِم وتنفيذِ مشاريعِهِ على حساب مصالحهم. ومن جهةٍ ثانيةٍ يواجهون تحدِّياتِ الدَّاخل، حيثُ تنتشرُ القوى التَّكفيريَّة الَّتي تحمل عنوان الإسلام، والإسلامُ منها بَراء، وتُمعنُ في تمزيق ساحتهم، لتكون بذلكَ أداةً لتنفيذِ مخططاتِ أعدائهم.
وفي ظلِّ أمواج الفتن التي تغرقُ بها المنطقة، يشنُّ العدوُّ الصهيوني حملةً جديدةً تستهدف الشَّعب الفلسطيني، حيث تضرب طائراتُهُ في غزَّة والضفَّة الغربيَّة، كما يقوم المستوطنون بمزيدٍ من الاعتداءاتِ الهمجيَّة، الَّتي كان آخرها قتلُهُم لفتىً فلسطينيٍّ في القدس بطريقةٍ وحشيَّة، وإحراق جثَّته دون أيِّ وازعٍ من ضميرٍ أو إنسانيَّة، ممَّا أدَّى إلى اندلاع حركة مواجهاتٍ واسعةٍ في القدس الشريف مع الفلسطينيِّين. ويتمُّ كلُّ ذلك وسط صمتٍ عربيٍ وإسلامي مُخزٍ، حيثُ تنشغلُ الأنظمةُ العميلةُ للغرب بتمزيقِ سوريا والعراق تحت عناوين مذهبيةٍ بغيضة، فيما تتناسى فلسطين وقضيَّتها الَّتي باتت عبئاً على الكثيرين، حتَّى أنَّ كثيراً من الحركات الفلسطينيَّة وقعت في فخِّ الانجرار إلى مستنقع قضايا المنطقة، بعيداً عن قضية فلسطين، تحت تأثير خلفياتٍ فئويةٍ وطائفيَّةٍ بغيضة، لكنَّ الأحداث أثبتت أنَّ من يحمل الوفاء لفلسطين وقضايا المسلمين الكبرى، هم أولئك الَّذين يقفون في صفِّ المقاومة والممانعة، ويواجهون المخطَّطات الغربيَّة الشَّيطانيَّة الَّتي تستهدفُ الأمَّة، خدمةً للعدو الصهيوني.
أليس من الغريب أن نجدَ الكيان الغاصب يعيشُ في حالٍ من الهدوء والطمأنينة، في الوقت الذي يُعلن فيه التَّكفيريُّون إنشاء ما سمَّوه “دولة الخلافة” التي تنشرُ القتل والدَّمار، وتسفك الدِّماء البريئة، وتشوِّه صورة الإسلام في العالم، وتبغِّضَهُ حتَّى للمسلمين أنفسهم!!!
إنَّ هذه الحركة التكفيريَّة الَّتي تحملُ ذهنيَّة الخوارج، والَّتي تعيثُ فساداً في سوريا، وتتمدَّد إلى العراق، إنَّما تخدمُ مشاريع الإستكبار في تمزيق بلاد المسلمين، كما أنَّها تخدم مشاريع أمريكا، التي تجد فيها فرصةً للعودة إلى الواقع العراقيِّ والتحكُّم به من جديد، إذْ لا يُمكن لعاقلٍ أن يُصدِّقَ أنَّ هذه الحركة التكفيريَّة قد انتشرت وتمدَّدت بشكلٍ عفوي ومفاجِئ، دون أن تحظى بغطاءٍ ومساندةٍ من أجهزة مخابراتٍ إقليميَّةٍ ودوليَّةٍ معروفة، كما أنَّها تُقدمُ خدمةً جليلةً للعدوِّ الصهيونيِّ الَّذي بات في تحالفٍ غير معلنٍ مع الأنظمةٍ الدَّاعمةِ لهذه الجماعات، وقد عبَّرَ عن هذا التحالف وزير الخارجيَّةِ الصِّهيونيِّ ليبرمان، الَّذي دعا إلى تحالفٍ بين “إسرائيل” و”الدُّول العربيَّة المُعتدلة” في مواجهة التهديدِ المشترَكِ من “التطرُّف العربيَّ” على حدِّ تعبيره. واعتبر أنَّهُ بات هناك “إجماعٌ إستراتيجيٌ” بين العناصر المعتدلة من العرب والصَّهاينةِ في مواجهةِ التَّهديداتِ الايرانيَّة والمتطرِّفينَ في العالمِ كما قال، خصوصاً مع إمتداد الصراع في سوريا والعراق إلى الدول المجاورة.
ونسأل أيضاً: كيف يُعقلُ لأمريكا أن تتحالفَ مع هذهِ الحركاتِ التَّكفيريَّةِ في سوريا في مواجهةِ النَّظام، في حين تدَّعي أنَّها تُواجهُها وتُحاربها في العراق؟!!!
إن هذه الوقائع، تكشف خطورة المُخطَّط الَّذي تقودُهُ دولُ الإستكبار، والَّذي يُحاول أن يجرَّ السَّاحةَ اللبنانيَّة إلى الفوضى التي تغرق فيها المنطقة، حيث يتوافدُ المجرمونَ الإنتحاريُّون، ويُطلقونَ التَّهديد والوعيد… لكنَّ الأعين المفتوحة للمقاومة والقوى الأمنيَّة ما زالت تُتابعهم وتُحبِطُ مُخطَّطاتهم. ولذا فإنَّ المطلوب اليوم، المزيدُ من الوعي، والمزيدُ من التَّكاتُف، ووضعِ الخلافاتِ السياسيَّة جانباً من أجل مواجهةِ هذا الخطر الدَّاهم، الَّذي إن استفحل، فسوف لن ينحصر خطرُه على فئةٍ واحدة، بل سيطالُ جميع اللبنانيَّين.
إنَّ كيدَ هؤلاء المفسدين في الأرض وإجرامهم، لن ينجح في تحقيق مآربهم، وستَفشل -إن شاء الله- كلُّ محاولاتهم الَّتي تستهدفُ المقاومةَ ومجتمعَها، فهذه المقاومة الَّتي نجحت سابقاً في إسقاطِ كلِّ المؤامرات، ستُسقِط من جديدٍ هذا المخطَّط الشيطانيَّ الَّذي لن يَلقَى إلاَّ الفشلَ والسُّقوطَ والإنكسار.
وفي الختام… نقفُ لنتذكَّر قامةً شامخةً من قاماتِ العالَمِ الإسلاميِّ وعلماً خفَّاقاً من أعلامِ العلمِ والجهاد، ففي مثلِ هذا اليوم -الرابع من تموز- منذ أربعِ سنوات، إرتحلَ سماحةُ الأخ العلَّامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(ره) إلى جوارِ ربِّهِ راضياً مرضياً، بعد أن أفنى عُمرهُ الشَّريف في العلمِ والجهادِ والدَّعوةِ إلى سبيل اللهِ تعالى بالحكمةِ والموعِظَةِ الحَسَنة، والدِّفاع عن قضايا الإسلامِ والمسلمينَ والمستضعفينَ في العالم، حيثُ كان رضوان الله عليه يحملُ همَّ الإسلامِ في عقلِهِ وقلبِهِ وكلِّ حركتِهِ في مواجهةِ عواملِ التخلُّفِ والغُلوِّ والخُرافةِ من جهة، وفي مواجهةِ الصِّهيونيَّةِ والاستكبارِ العالميِّ من جهةٍ أخرى، وقد تحمَّلَ في سبيلِ ذلك الكثيرَ من الألامِ والتَّحدِّياتِ صابراً محتسباً لا تأخذُهُ في اللهِ تعالى لومةُ لائم… وقد استطاع (ره) أن يُطلقَ حركةَ الوعي والجهادِ في أوساطِ الأجيالِ الَّتي عاشت معهُ وتربَّت على فكرهِ في العراق ولبنان والخليج وفي شتَّى دولِ العالَم، وقد رأى بعينهِ كيفَ أثمرَ زرعُهُ المبارك في لبنان، مقاومةً شريفةً حرَّرتِ الأرضَ والإنسان، وهزَمت الجيشَ الَّذي لا يُقهر. وفي العالم الاسلاميِّ وعياً اسلامياً منفتحاً، فتح الأفقَ أمامَ التَّجديدِ في حركةِ الاجتهادِ والفكرِ الاسلاميَّين… ونحن إذ نستذكرُهُ في هذا اليوم، نرى كم أنَّ العالَمَ الإسلاميَّ يفتقدُ عقلَهُ الرَّاجحَ وحكمتَهُ الكبيرةَ وبصيرتَهُ الثَّاقبَةَ ومواقفِهِ الوحدويَّة والجهاديَّة الحاسمة، في هذه المرحلةِ الخطيرةِ الَّتي تضجُّ بالتَّحدِّيات المصيريَّةِ الكبيرة.
نسألُ الله تعالى أن يوفِّقَ هذه الأمَّةَ لكلِّ خيرٍ باتِّباعِ نهجِ العلماء الصَّالحينَ والأعلامِ المُصلحين وحِفظِهِ، والوفاءِ لهم في حياتِهِم وبعد وفاتِهم… فإنَّهُ بذلك ترتقي الشُّعوب ُوالأُمَمُ والحضارات.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } {التوبة:105}
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.