إيلي الفرزلي–
صمود المقاومة الفلسطينية في غزة لا يبدو مفاجئاً بالنسبة لمن عايشوا يوميات الرابية في حرب تموز. معظمهم استعاد كلام العماد ميشال عون بعد نحو أسبوعين من الحرب: ما قبل تموز لن يكون كما بعده.
بعدما أيقن «الجنرال» أن إسرائيل لن تربح في حربها على لبنان، قال لمن تحلقوا حوله في منتصف تموز 2006: بعد الآن، لن يكون هنالك غلبة لإسرائيل على العرب.
في الذكرى الثامنة لحرب تموز، يستعيد العونيون ذكرياتهم مع «جنرالهم». لم ينسوا مواقفه، التي شكلت نقلة كبيرة في حياة «التيار الحر» وأدبياته.. وما تزال.
منذ 12 تموز 2006، يوم نجاح عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، تسلم عون زمام المبادرة، بعد اتصال أجراه به السيد حسن نصر الله ليلاً. قال نصرالله لحليفه إن حدود العملية هو تبادل الأسرى لا أكثر.
زار السفير الأميركي الرابية، فكرّر «الجنرال» على مسمعه أن الحل هو بتبادل الأسرى، إلا أن السفير جيفري فيلتمان كان حاسماً في تأكيده أن العملية ستؤدي إلى حرب، بالرغم من إشارة عون إلى أنه لم يسبق في التاريخ أن أدّت حادثة حدودية إلى حرب، إلا إذا كان الهدف اتخاذها ذريعة. وعليه، نصح عون ضيفه بعدم الدخول في حرب وحصر المسألة بتبادل الأسرى.
في قرارة نفسه، كان رئيس «التكتل» مقتنعاً أن قرار الحرب المتخذ أصلاً قد جرى تعديل موعده. وإذا كانت كل المؤشرات تدل على أن ساعة الصفر حددت في تشرين الأول، فعملية الأسر قرّبتها ثلاثة أشهر. عون اشتمّ رائحة العدوان تحديداً في الجلسة الأخيرة للحوار الوطني قبل الحرب. تحديداً عندما تحدث أحد قادة الطاولة عن ضرورة وجود قوات متعددة الجنسيات في الجنوب.
أعلن نصر الله سقف المقاومة: «لا سبيل لعودة الأسيرين (الاسرائيليين) إلا بالتفاوض غير المباشر في إطار عملية تبادل». وبدأت الحرب فعلياً في 13 تموز. لم يكن واضحاً كيف ستتطور الأمور. كان البلد كله متوتراً: هل ستبقى المعركة محصورة على أرض الجنوب وبعض الشرايين الحيوية للمقاومة أم ستتحول إلى حرب شاملة ضد كل لبنان؟
بلغت الصواريخ الاسرائيلية، بحراً وجواً، بيروت والضاحية والمطار، فتأكد الجميع أن الحرب ستطول. في هذا الوقت، وعلى وقع المواقف التي تتحدّث عن «المغامرة غير المحسوبة» و«قرار الحرب الذي اتخذه حزب الله بشكل منفرد»، كان عون يحدّد بوصلته: الأولوية للتضامن الداخلي أمام الاعتداء الخارجي.
قال «الجنرال» لمن كانوا حوله: «60 سنة حرب مع العدو الإسرائيلي ولا ساعة حرب داخلية». بالنسبة اليه، لم يكن يوجد إلا خيار واحد: لا يمكن أن نكون إلا مع المقاومة ضد إسرائيل في هذه الحرب التي يبدو جلياً أنها مخططة مسبقاً.
بدا عون واثقاً أن المقاومة ستربح، أما إذا حصل ما لا يتوقعه، فيكفي أن ننجح في المحافظة على وحدتنا الوطنية. أمران أساسيان انطلق منهما: أنا مع اللبناني ضد أي اعتداء خارجي ويجب منع تكرار تجربة الماضي بتغطية لبنانية لاعتداء خارجي.
ثقته بفوز المقاومة كانت مبدئية: لا بد للإنسان أن يربح الصراع مع الآلة لأنه ببساطة هو من صنعها. وعلى طريقته أكد أن «الطائرة بعمرها ما شكّت علم»، وإرادة «حزب الله» ستكسر الآلة الحربية لأن الحزب شعب ولا يمكن القضاء على شعب.
يتذكر ناشطو «التيار» كيف بدأوا التحضيرات اللوجستية لاستقبال الوافدين. نشطت ماكينة «التيار» في الداخل والاغتراب لتأمين التمويل المطلوب للمساعدات، إلا أن الدور الأبرز هو السعي لتأمين بيئة حاضنة لهم، في ظل محاولات عدة جرت في غير منطقة لبنانية للإيقاع بين الوافدين ومحيطهم.
كان الظهور الإعلامي أحد الوظائف التي اختارها عون لنفسه. أراد تحقيق هدفين: تعزيز صمود الناس وإعطاء مساحة من الطمأنينة لـ«حزب الله»، بأن ظهره الشعبي بأمان لكي يكون مقاتلوه مرتاحين في المعركة.
بدأت طائرات «ام كا» الاسرائيلية (من دون طيار) طلعاتها في سماء الرابية. نقلت إحدى السفارات الغربية له أن مواقفه تؤكد أنه ذهب في حالة العداء إلى المطلق، وبالتالي فهذا أمر يمكن أن يهدّد أمنه.
برغم ذلك التهديد المبطن، لم يتراجع «الجنرال»، إنما على العكس، ظل قادراً على شحن مَن حوله معنوياً. دعا النواب والناشطين المتجمّعين في منزله إلى المغادرة، لكنه رفض طلبهم بأن يفعل الأمر نفسه، قال لهم إن هذه الطائرة ستلاحقني أينما كنت وإذا دنت ساعتي أفضل أن أكون في منزلي.
وبعد إصرار إحدى بناته على زيارته لتناول الطعام مع العائلة، وافق، فكانت المرة الأولى التي يسجل فيها خروجه من منزله نهاراً، لكن مسألة المبيت ظلت ملتبسة، مع حسم كثر مسألة عدم مغادرته النطاق الجغرافي للرابية (بطبيعة الحال، انتقل «الجنرال» للإقامة في الطبقة السفلية).
في اليوم الثامن للحرب، قال النائب ميشال المر لميشال عون في الرابية إن شخصية في «14 آذار» زارت ابنه الياس وأكدت له أن «السبت المقبل لن يكون هنالك حزب الله، والسيد حسن نصر الله سيكون إما في سجن روميه أو في أحد سجون إسرائيل». أضاف المر: أنا قلت لهم إن السبت الذي يلي ستنهزم إسرائيل.
لم يتأثر عون بكلام المر، إنما ازداد ثقة بأن المقاومة ستربح. ولكن في مقابل صمود عون وجرأته، كان ثمة من يقدر مواقفه عالياً. كان ثمة من ينظر له بأنه حامي ظهر المقاومة. بعد أسبوعين على اندلاع الحرب، وصل الى الرابية من كان ينقل رسالة من السيد حسن نصر الله. أعلم الرسول عون أن السيد طلب أن يكتب اسمه على كفنه في حال استشهاده. استقبل المتلقي الرسالة دامعاً، تماماً كما استقبلها باقي أفراد عائلته عندما أعلمهم بمضمونها.
في اليوم الـ18 للحرب، أعلن عون أن إسرائيل انهزمت لأنها استعملت كل ما لديها من قوة وتكنولوجيا ووصلت إلى طريق مسدود. وتوجّه الى مناصريه قائلاً: «ابدأوا بالعدّ التنازليّ للنصر».
صار الحديث عن النصر الآتي يكبر. بصم عليه النائب وليد جنبلاط بسؤال للسيد حسن نصر الله: إلى من ستهدي النصر؟ لم يحتج عون لكثير من الجهد لقراءة السؤال: هذه مرحلة استيعاب استباقي لعدم توظيف النصر العسكري سياسياً.
الأخبار