لن تكون الأيام التي ستلي تظاهرة 29 آب كما تلك التي سبقتها، جدار اللامبالاة والقرف هدمه الكثيرون وعاودوا من جديد سقاية شجرة الأمل، وها هي كرة الثلج تكبر، آلاف الشباب المندفعين كسروا حواجز المذهبية والمناطقية وتلاقوا جميعا على شعارات مطلبية ستكون بارقة أمل تعيد للبنانيين في الوطن والمهجر الحلم ببناء الوطن الذي خطفه أرباب الطوائف والمذاهب منذ اليوم الأول للاستقلال وأمعنوا في استباحته خلال الأشهر الأخيرة الماضية.
** ** ** **
الأسبوع الذي مر منذ تظاهرة السبت الماضي أدخل الرعب في قلوب جميع مكونات الطبقة السياسية الحاكمة، لم ينفع رصاص العسكر الشيعي والسني في إرجاع الذين كفروا بأهل هذه الدولة على أعقابهم، من أجل ذلك سارع الحاكمون الظَلَمَة لإيجاد الصيغ والمخارج للأزمة: اجتمع مجلس الوزراء وصدر عنه الكثير من المراسيم رغم مقاطعة وزراء عون ونصر الله، أصر الرئيس تمام سلام على رفع الحواجز الاسمنتية التي وضعت بعد التظاهرة مدينا الإفراط باستعمال القوة ضد المتظاهرين والذي وثقته منظمات حقوقية دولية ومحلية، أطل وزير الداخلية نهاد المشنوق على الإعلام مدعيا الشفافية ووقوفه إلى جانب حرية الراي والتعبير وواعدا بإعلان نتائج التحقيق بحادثة إطلاق النار على المتظاهرين مطلع الأسبوع المقبل، نفى الرئيس نبيه بري تورط جماعته في حوادث الشغب وإطلاق النار على المتظاهرين بالرغم من تأكيد وزير الداخلية ذلك وتحدثت أوساطه عن نيته عقد طاولة حوار تضم أطياف السلطة على غرار ما حدث في عام 2006 لتدارك الوضع، اتهم الجنرال ميشال عون المتظاهرين بسرقة شعاراته المطلبية، اجتمعت الابواق الإعلامية التابعة للسلطة على تخويف الناس من تداعيات تظاهرة 29 آب وخطورتها على الوضع الأمني.. لكن ذلك كله لم ينفع، وسيخرج اللبنانيون اليوم للمطالبة بحقوق سبقنا إلى إقرارها أنظمة الحكم في العديد من دول “العالم المتأخر”.
** ** ** **
اسباب عدة ساهمت في نجاح التحركات التي سبقت مظاهرة 29 آب، منها:
_ مدى الاستهتار الذي مارسه أهل الحكم بحقوق بسيطة وأولية لمواطنيهم.
_ الخيبة التي ما زال يتجرعها بعض الذين نزلوا قبل عشر سنوات إلى تظاهرتي 8 و 14 آذار من جراء سيل النفاق المتلاحق الذي مارسه عليهم قادة هذه القوى السياسية.
_ تحركات هيئة التنسيق النقابية في السنة الماضية وما رافقها من خيانات بعض الأطراف السياسية الرسمية التي وعدت بتحقيق المطالب وسقطت عند أول مطب، والكل يذكر جيدا تكالب أهل السلطة وتضامنهم ضد لائحة النقابي الشريف حنا غريب في انتخابات رابطة التعليم الثانوي التي شكلت الرافعة لتلك التحركات.
_ الاكتفاء حاليا برفع شعارات مرحلية مطلبية تهم شرائح واسعة من اللبنانيين على امتداد البلاد.
_ الحكمة والتخطيط والصبر وعدم الرد بانفعال والمسؤولية العالية التي مارسها القائمون على الحراك، ناهيك عن تنوعهم وانفتاحهم وقدرتهم على التحاور لاسيما فيما بينهم.
_ الحضانة الشعبية التي واكبتهم من مختلف المناطق.
** ** ** **
التحرك القادم يجب أن يكون باتجاه مجلس النواب: بؤرة الفساد والنفاق في البلاد.
** ** ** **
جميلة هي المشاهد التي تابعناها أثناء التحضير لهذا الحدث، مواطنون من كافة الأعمار والتوجهات والمناطق كانوا فرحين بتلاقيهم، بعضهم قال أن هذه التحركات أزالت عن أعينهم غشاوة أحزابهم المذهبية، بعض آخر رأى أن الداعين إليها هم الأوادم الوحيدون في الوطن، كثيرون منهم تناقلوا فرحين على مواقع التواصل الاجتماعي صورهم أثناء الاستعداد للمواكبة والمشاركة..
ليس ما رأيناه مشهدا لمراهقين.. بل لمواطنين آمنوا وتنكبوا.. كل واحد منهم أشرف من كل هذه الطبقة السياسية..
تظاهرة 29 آب أسقطت معها العديد من المثقفين الذين أقاموا حول أنفسهم سورا من بلاغة العبارة ونسوا أن جملة الشارع أرحب وأفصح بكثير.. معها سنشهد ولادة جديدة للكثير من المبدعين في مختلف المجالات..
المصدر: المدن