الدكتور منذر جابر – السفير ٢٠٠٧
الكتابة في بنت جبيل القرن العشرين، يعني أنك أسير أحداث فيها من كوابيس الألم والمعاناة، وكأنها تتناسل من بعضها، وكأن أحداثها الأولى السابقة، تمرينات لأحداثها التالية اللاحقة الدائمة.
وسواء أكانت كتابتك في ذاتك، أو في ذوات غيرك، فإنما تكتب عن بنت جبيل، لأن اجتماعها يستدرجك من وحدتك أو من غربتك، وصمودها يستدرجك من خوفك، وصحتها تستدرجك من سقمك.
فهذه الصفحات في بنت جبيل، تقصّر عن مهمة تظهير تاريخ البلدة المعاصر وتبييضه. إن هي إلا نثريات معتبرة من هذا التاريخ. أو قل، هي «دواني قطوف»، فيها من التوصيل أكثر مما فيها من التواصل.
هي: بنت جبيل، عنوان بلاد بشارة، بلدة طالما بدت لا تحتاج تاريخاً، فتاريخها «بطانة» اسمها الكرار على مدى أحداث القرن العشرين. وهي في جنوبي الجنوب من لبنان. وفي ترسيم موقعها، يكفيها أن صُدفة التاريخ، تلتقي مرتين مع صُدفة الجغرافية: ففي الحدّ الغربي لبنت جبيل، تقوم بلدة عين إبل المسيحية. والطريق إليها، يُعرف بـ«عقبة عين إبل». فلنقل في حدٍّ من بنت جبيل، عقبة الطائفية في لبنان. وفي الطريق إلى فلسطين جنوباً، وعلى تلة تشرف على بنت جبيل من الجنوب، تنتصب «عقبة صلحة»، نسبة إلى واحدة من القرى السبع، صلحة. فلنقل إن حدّاً محروراً لبنت جبيل، يقوم دائماً على «عقبات» التاريخ العام للمنطقة. من قبل، كانت عقبات ما بين منطقتي الانتدابين الفرنسي والبريطاني. واليوم، عقبات شدائد قوس الأزمات الدولي الحالي، أعني قضية فلسطين.
هما: محمودان، جدّ وحفيده. وهما إليّ المحمودان. المحمود الأول: أبي. والمحمود الثاني: ابني. وأنا بينهما، كامخ بهما، أي شامخ عزيز. شكراً لـ«منجد في اللغة» فقد أنقذني من «كمخة» استعمال الكلمة باللغة المحكية.
محمود الأول، من مواليد 1907 أو ,1909 لم يحصل مع مولده هزة أو ثلجة كبيرة تضبط له تاريخاً أكيداً. ومحمود الثاني من مواليد 1991 . ويجمع بين الاثنين أن كلاً منهما، أمسك ببنت جبيل على عتبة مراهقته، محروقة مدمرة. عاقبها الفرنسيون حرقاً سنة ,1920 لأن طاقة النيران يومها، كانت أفعل من «قنبرة» المدفع و«دكّته وشرطوطته». وعاقبها الإسرائيليون تدميراً سنة ,2006 لأن الصواريخ وقذائفها المخصبة، هي أكثر فتكاً من فتيل النيران وزيتها.
في اللّجة
أحس محمود الجد، بالسياسة في الحرب الأولى. كان صغيراً لا يعلم إن كانت الحرب في سنتها الأولى أم الثانية. يعلم فقط، أن اليوم كان «السوق»، وكان صغيراً في «بسطة» والديه، فجأة تختفي جلبة السوق، والمناداة على البضائع، ويتراكض أخلاط السوق، باتجاه بيادر قريبة محاذية له. هاتفين بالتكبير وبنداءات الوداع الجنائزي: اعتبروا اعتبروا ولمثل هذه الساعة فانتظروا. كان في الأمر «وجبة» إعدام لسيد من بلدة عيناثا المجاورة، أمام الوافدين إلى البلدة، من مناطق فلسطين وجبل عامل وحوران. اختار العثمانيون علانية السوق لتنفيذ الأمر، ليكون في ذلك قصاصاً «لأولي الألباب»، وأولي العزم والقدرة من شباب البلدة ممن تؤشر لهم نفوسهم، مجاراة السيد المسكين في فراره من لمّ العسكر «الرديف». وكان الملح على جرح هذا الحدث يومها، أن متولي الاعدام من عسكر الأتراك، لم يراعِ أعراف الإعدام، التي تقضي بتحرير المتهم وإطلاقه، فيما لو انقطع به حبل المشنقة. وقد حدث ذلك، فوق سحب كرسي الإعدام من تحت قدمي السيد. أعاد العسكر الشنق بمرسة جديدة مشمّعة، كي لا يخونهم الحبل، كما في المحاولة الأولى.
الله يعمّر معك
وفي عمرانها، تنقلت بنت جبيل متسعة على مساحات عديدة. فمن ضيعة تقوم على تلة، هي اليوم الحي الجنوبي، وما زالت نقطة محورها، تحمل إرث موقعها القديم وصفته «حاكورة نص الضيعة».
كان عمران البلدة يغير وقائعه. والسوق عنوان هذا التغير ومحوره. ظل هذا العمران يدور حول السوق ويحوطه، وراح يغطي مرتفعات البلدة في كل اتجاهاتها، ويغطي ودياناً خارج البلدة ومنخفضات تلالها القديمة، حتى تغطى خراجها كاملا، بل امتد اتساعها إلى خراجات سوارها، من بلدات مارون وعيترون وعيناثا وكونين، وحتى بلدتي يارون وعين إبل. وقد بات وسط البلدة، قبل جريمة تدميره الأخيرة، «حجراً كريما» ترصّعه أبنية جديدة، فيها من الجمهرة الاجتماعية، أكثر مما هي ترجمة لحاجات سكن وإقامة. ففيها بعض من زهو الغنى، وزهو تمرير الرسائل عن نجاح في تجارة أو عمل أو اغتراب. ولم لا نقول، فيها من زهو التحدي، والانتصار لبنت جبيل، حاضرة زاهية في الطرف الحدودي.
وعمران البلدة مكتنز بكثير من البيوت القديمة في زمن إنشائها، وفي طريقة بنائها، من أقبية وعقود وحيطان كلّين وقناطر وأعمدة، إلى أبنية «جديدة» الطراز، تعود في إنشائها إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، مع بداية وصول أموال الدفعات الأولى، من المهاجرين إلى أميركا وأفريقيا. وهي أبنية لها من جمال المظهر الخارجي، ومن جمال التصميم والنقوش في واجهتها الحجرية، ما يجعلها فريدة وحيدة في الجوار. كما أن بيوتاً عديدة منها تحمل توقيع معلّم بناء خلاّق، جيء به من مدينة صفد الفلسطينية، وإليه ينسب الكثير من الأعمال المعمارية المشهورة، في العديد من حواضر الجليل ومدن الشام.
بلاط البلدة و«بلطة» الباطون
افتقد عمران البلدة لا بل تاريخها وجمالها، البلاط الذي ارتصفت به شوارعها قبيل سنيّ الحرب الأولى وأثناءها. بلاط منحوت مقصوب غير غشيم، احتل ساحات البلدة وطرقها وزواريبها، حتى عتبات البيوت فيها، أي قلب البلدة القديم، على ما يعادل تقريباً، مساحة التدمير الحاصل حالياً. كلها كانت مبلطة، شأن ساحات العواصم والمدن التاريخية في أوروبا. وهذا أمر كانت فيه بنت جبيل، على فرادة من بين المدن اللبنانية، حيث البلاط يغطي فيها بعضاً من ساحاتها الكبرى وحسب. ومما كان يزيد في جمالية بلاط البلدة، أن ارتصاف صفائح الحجارة، في صفحة الطريق، كان يؤمن في فصل الشتاء، وفي أيامه الشتيّة، حق الأمطار الهاطلة في المسيل، وحق الناس الماشين في عدم الغط في الماء والبلّة فيه.
ولكن شوارع البلدة تنزلت عن «بلاطها». يوم امتدت يد «الحداثة» الوقحة إلى بلاط بنت جبيل، نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات، واقتلعته واستبدلته بالباطون، حين استوى الباطون أساس البناء والإعمار والتحسين. ولا نبالغ إن قارنّا «عار» هذا العمل، بالأعيار التي ضربت العواصم والمدن العربية التاريخية مع تهديم أسوارها الخارجية، وبعض بواباتها القديمة، وذلك إخلاء في المجال لشوارع وأوتوسترادات وبعض مؤسسات. حدث ذلك في مدن الكويت وصنعاء وبغداد وبعض دمشق وحلب وبعض القاهرة، ومدن عديدة في المغرب العربي.
ثم امتدت بلطة الباطون ثانية، حديثاً وبعد التحرير في العام ,2000 إلى البناء الأول لمدرسة رسمية في البلدة، مدرسة البراك، يعود إلى أواسط الثلاثينيات. فقد ضاقت نواحي البلدة، أو شبّه بذلك عند أولي الأمر، عن مكان ينبني فيه قصر بلدي. ولما لم يكن للمدرسة رب يرُبّها، فكانت الضحية، وامّحى بناؤها الحجري التراثي، وامّحت معه ذاكرات طويلة لشباب وكهول وشيوخ اليوم، تمتد على مساحة تاريخ البلدة المعاش.
السوق: تجارة عن تراضٍ
ليس لسوق البلدة تاريخ منشأ معروف، يعاشر اسمه اسم البلدة دائماً. وقد بات يوم السوق، اسم يومٍ من أيام الأسبوع، ما بين الأربعاء والجمعة. مكانه القديم في عرفان البلدة، منخفض يعرف اليوم «بالساحة». ثم بعد ضيق هذه الساحة عن معروضات البضائع فيها، وعن كراع زبائن السوق ووسائل نقلهم من دواب وجمال، صار السوق يزيح إلى محلته الجديدة في بيادر البلدة الشمالية. أي إلى مكانه الحالي، الذي احتل مكان بيادر قديمة كانت مدراساً لأغلال القرية وحبوبها.
والسوق في البلدة معيار تواريخها ولقاءاتها وأحداثها، تواريخ أحداثها مع نفسها ومع محيطها، مع سوريا من حوران حتى حلب. ومع فلسطين من الجليل حتى غزة. كان السوق مصهراً لثقافات الاجتماع المحلي الجنوبي، في تعدد قراه وتعدد طوائفه. ومجدلاً لهذا الاجتماع مع اجتماع فلسطين والجليل، بمدنها وحواضرها وقراها وعَرَبها (عرب الحمدون والرولي واللهيب والفاعور والسردية).
وكان سوق بنت جبيل بدكاكينه وعرائشه وبسطاته، وباعته الذين يعرضون على أكتافهم أو على خصورهم أو على زنودهم، أو حتى يعرضون في عيونهم، ما قد تخبئه جيوبهم وبيوتهم من ممنوعات كالدخان العربي أو تبادل البضائع خارج مراكز الجمارك الحدودية، كان يفتح للتجارة نهار الخميس، وكان كذلك ينفتح لكل مفاعيل البضائع والتبادل، من أوجه الاجتماع واللهجة والجغرافية والحواضر والزعامات والعائلات والأدب والشعر في الجوارين الفلسطيني والسوري. لا بل ان هذا التبادل البضائعي، كان يتوسل الأدب والشعر والغناء، في الإعلان عن البضائع وتسويقها. حتى ان شحاذي سوق بنت جبيل والمستعطين فيه، كانوا يستدرون عطاءات الآخرين، بقراءة مطولات شعرية. وهكذا استوت قصائد، مثل قصيدة ابن أبي الحديد في مدح الإمام علي، وقصيدة «الإزرية»، من حواضر الثقافة في أذهان أطفال البلدة، نظراً لتكرار سماعها من أفواه قائليها المستعطين أيام سوق الخميس.
في البال أغنية
لقد اكتنز التعالق بين الطرفين بنت جبيل ومنطقتها، بحيث بات يصعب تمييز الدخيل من الأصيل، لدى ما في جعبة كل منهما، من مرويات وأخبار وأغاني وحكايات. لا أتكلم هنا بالطبع، في التراث العميق وفي الوجدان. فالانتماء إلى ثقافة واحدة، ليس في ميزان هذا الكلام ولا في همّه. وإنما أتكلم عن المستويات الأدنى، مثلاً تلك التي يتجالس فيها، أبناء ما وراء هذه الحدود. ويتشاركون، على البعد والحواجز، في أغانٍ واحدة، لا تعرف مصدراً لها أو قائلاً. يستعيدها الأطفال في لحظات متمادية، لهجة ولغة وأسلوباً، لا يعرفون كيف استقامت أناشيد جمهرتهم وتغنيهم.
أقول ما أقول، وأنا أقف في ذاكرتي على أغنية، كانت نشيد الأناشيد في ألعابنا، صغاراً في الحي. لم تكن الأغنية بنت جبيلية محلية أبداً. ولا أعرف إن كانت فلسطينية من الجليل الأعلى، أو من «إصبعه» في الشرق. أو كانت سورية، جاءتنا عن طريق أبناء البلدة، الذين مروا في الجولان، ثم عادوا إلى بنت جبيل بعد طول إقامة فيه. تقول الأغنية:
ـ حيّد عن الجيشي يا غبيشي قبل الحناطير مـا يطلـوا ما يطلوا
ـ ما حيد عن الجيشي لاويشي وليقحم غبيشي يا ذلـوا يا ذلـوا
برنامج الدولة ومنهاج الأساتذة
وكان للدولة بالطبع في مدارس بنت جبيل سلطتها، ولكن كان لمعلمي المدارس قضاؤهم وحسابهم في المواد، مما يسمح لهم، «بقضاء» خاص و«حساب» خاص، في مواد اللغة العربية وأوسع ما يتبدى ذلك في مادة الاستظهار العربي.
وفي مقدم ما كان يرك عليه الأستاذة في «مناهجهم»، الإطلالة على شعراء، لهم قصائد في القومية العربية الواسعة. منهم رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) في قصيدته (وطن دعائمه…). وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) في قصيدته (فلسطين). وأحمد شوقي في قصيدته (سلام من صبا بردى). ومعروف الرصافي في قصيدته (يا قوم لا تتكلموا). ثم يأتي أبو القاسم الشابي، الذي ترتهن لديه، حتى استجابة القدر، بإرادة الشعوب في الحياة. وقد بدا هؤلاء الشعراء جميعاً، وكأنهم من أصحاب القصيدة الواحدة، ليس لهم شعر في الهوى والشباب والمديح والوصف والغزل.
وكانت تلقى من قبل الأساتذة والطلاب، في خيلاء وزهو منبري، باعتبار إلقائها، كاستظهارها، فرضاً وواجباً كيانياً. وكانت تعطى فروض إنشاء عربي، أو تعطى فروض إعراب وقواعد لغة عربية.
كانت أسماء هؤلاء الشعراء وقصائدهم، مواقف ورسائل، ولم تكن باب معرفة أو مادة برنامج، فلا مكان هنا للتردد والمجاملة، فمادة الاستظهار العربي، موقف قومي موهوم بالشعر. واختيارها وتقديمها، يجوز من ضمن أفق واسع يطول تاريخ الحاضر والمستقبل. وأمام هؤلاء الشعراء، ماذا يبقى لقصائد رشيد أيوب وثلجه، وتهايج أشجانه واستذكاره أمه وأهله والموقد في لبنان، أو ماذا يبقى لإيليا أبو ماضي ووطنه ونجومه، أو ماذا يبقى من صلاح لبكي وأرجوحة قمر. ولا نذكر هنا سعيد عقل، فهو «كش برا وبعيد». لم يعد لهؤلاء الشعراء جميعاً، أمام أولئك الشعراء، من قيمة شعرية أو دلالة. أو بالأصح كان لهم غير قيمة وغير دلالة، مما يجعل من شعرهم قيمة ثانية، أو قيمة من عالم ثانٍ بعيد، إن لم نقل عالماً عدائياً. وليس في الأمر تجاوز أو جناية، لو قلنا بأن مواد اللغة العربية، في مدارس البلدة، ومادة الاستظهار العربي في طليعتها، كانت وكأنها سياسية حتى النهاية. ولا يخفى هنا، أن في الأمر ترجيعاً لصراع انتماء طويل، كانت البلدة ما زالت في ارتداداته، ولو بعد حين من سنين طويلة.
بنت جبيل والهجرة: خير البلاد ما حملك
كان من أقدار بنت جبيل، أن تفرغ من سكانها، مرة كل 29 سنة تقريباً. كانت «المهاجرة» الأولى سنة ,1920 مع الحملة العسكرية الفرنسية، حملة نيجر، في أيار من تلك السنة، وكانت باتجاه بلدة ديشوم في الجليل الفلسطيني. وفي أواخر عام ,1948 عندما احتل لواء «كرملي» الإسرائيلي 17 قرية حدودية لبنانية، كانت «المهاجرة» الثانية. وكانت باتجاه الداخل العاملي القريب. التنزيح الجماعي الثالث، كان عشية اجتياح آذار 1978 وغداته. أما المرة الرابعة الأخيرة، فكان تطفير أهلها، في حرب التدمير الإسرائيلية في تموز من العام .2006 فروغات سكانية أربعة كبيرة إذاً. ولكن «التخطيط» الديمغرافي لزمن بنت جبيل، يبيّن «انقطاعات» سكانية كبيرة، وتحديداً منذ بداية العام ,1970 حيث كانت البلدة تفرغ من سكانها وتمتلئ، ما بين مباشرة إسرائيل تسخيم حياة البلدة بحمم مدافعها، وبين توقف هذه المدافع.
أما في باب الهجرة البنت جبيلية، فإن بيروت قبل العام ,1948 لم تكن وجهة ومقصد هجرة أو نزوح جنوبي. كان مقصد البنت جبيليين الأول، حوران في سوريا ومدن الساحلي الفلسطيني وحواضر الجليل الأعلى. وقد تطول مناطق ترددهم غزة أو دمشق أو منطقة شرقي الأردن.
ثم كان سقوط فلسطين، وكان إقفال تام للحدود معها، فصار هوى الهجرة شمالياً، يشدّ باتجاه بيروت. فكان لأبناء بنت جبيل جاليات في أحياء ضواحيها وأحزمة البؤس فيها. وهي «جاليات» راحت تتكاثر وتتضخم، مع تواتر موجاتها على إيقاع القصف والاجتياحات الإسرائيلية مع بداية السبعينيات. حيث كان دور جديد للهجرة وهو أكثر الأدوار نزفاً، وأكثرها ابتعاداً إلى مواطن الغربة الدائمة في ما وراء البحار: الولايات المتحدة وكندا واستراليا.
لقد تقسم الجسم البنت جبيلي، على امتداد تاريخه المعاصر، في جسوم كثيرة في فلسطين وسوريا وضواحي بيروت وما وراء البحار حتى غدت تبعاً لمراحل الهجرة ومناطقها، أسماء بلدات الهجرة الجديدة وكانها أسماء من أحياء بنت جبيل، كذلك بدت طرقاتها وكأنها من طرقات البلدة وزواريبها.
واختصاراً في الحديث عن الهجرة نقول، إن العديد من عائلات البلدة، أكملت عقد لقائها في مغترباتها في ما وراء البحار، اكتملت بنصاب أفرادها. وفي كثرة العدد منجاة من النسيان. وهكذا يمتد حبل الأحاديث حول بنت جبيل. يجوب حاراتها المتعرجة، مجتراً ذكرياتها، عائداً بهم إلى هذه البلدة المسكينة غير المستكينة. ولكن ديربورن في الولايات المتحدة أو وندسور وأحياء من مونريال في كندا، أو أحياء من سيدني في أوستراليا، صارت منابت البنت جبيليين الجديدة.
السياسية: خزانة الرياح
عرفت بنت جبيل الأحزاب كلها، من «يوم» الأحزاب في الثلاثينيات، إلى أيام «الحزب» حالياً. ومع تقلب الأيام في مواقعها ومواقفها منذ الأربعينيات، فإن هيئات كثيرة من البلدة «يحسبون الأحزاب لم يذهبوا»، كما يقول القرآن الكريم.
ونحن هنا لسنا في صدد الحديث في هذه الأحزاب. ولكن ما نود أن نقوله هنا، أن ثقافات الأحزاب في البلدة، تتجاور وقلما تتحاور، أو قلما تجد سبيلاً للحوار. فداعية المذهب الديني، وداعية الماركسية، وداعية القومية، لا يعترفون في العمق دائماً، وفي السطح غالباً، ببعضهم البعض. والواحد منهم يحدّث الآخر من غير لغته، وشواغله. والجميع معاً يتعايشون على ما يرد إليهم من «الخارج». الداعية الديني معلق النظر بالنجف البعيد، والداعية اليساري والقومي بالصحافة وبالقيادات السياسية في العاصمة اللبنانية، أو في خارجها غير اللبناني. لذلك كانت قضايا الحزبي البنت جبيلي كبيرة. فعلى سبيل المثال، فقد حصل مع سقوط سايغون في 30 نيسان ,1975 وهزيمة القوات الاميركية فيها، أن أقدم أحد شيوعي البلدة، محمود وأقام في غروب اليوم نفسه، الزينة النارية على كتلة صخرية كبيرة (شقيف الغراب) تشرف على نواحي البلدة كافة. تشعرك بنت جبيل دائماً، بأن شبكها مع قضايا العرب أضيق مما ينبغي. وهي تبدو أنها ما اعتادت أن تمشي مع قضاياهم في «حذاءٍ ضيق».
كانت «سَوْرة الأحزاب» البنت جبيلية وأم معاركهم، أحداث ,1936 هي عنوان بنت جبيل، فهي في عرف أهالي البلدة مفخرة تكفيهم، إن لم يكن لهم غيرها من مآثر. كانت الحياة السياسية في جبل عامل أو في محيطه القريب، الجليل، أو البعيد، دمشق، ترفد شبيبة بنت جبيل، بدعم لفكرهم القومي، وتجعلهم أكثر إصراراً في مذهبهم. فأحداث 1936 في بنت جبيل، وشمولها لاحقاً الجنوب، وأحداث 1936 في فلسطين، المتمثلة بحركة الشيخ عز الدين القسام، وصلات شبيبة بنت جبيل الشخصية مع بعض رجالاتها (أبو إبراهيم الكبير، أو إبراهيم الصغير) والثورة السورية الكبرى، وأحداث دمشق السابقة لها واللاحقة عليها، والتي تصفّت ووصلت إلى بنت جبيل، في قصائد الشاعر القروي وأحمد شوقي وخير الدين الزركلي، أحداثاً لا تخدشها عشائرية أو يلوّثها تحريك أجنبي.
زاوجت ظروف ,1936 ما بين التطلعات القومية الوحدوية السورية، وما بين التصارع الفلسطيني مع مخططات الانتداب البريطاني وتسهيله هجرة اليهود وتمكينهم من الإمساك بمفاصل المؤسسات الفلسطينية، تمهيداً للوطن القومي الموعود لليهود، بين كل ذلك وبين الظروف المحلية الاقتصادية والاجتماعية في جبل عامل يومذاك، أعني احتكار زراعة التبغ في الجنوب اللبناني.
يومها هبّ الجنوب كاملاً وراء بنت جبيل، ثم هبّت مناطق من لبنان وسوريا في إضرابات ومظاهرات لأسابيع، دفاعاً عن بنت جبيل، بلدة وشبيبة ومزارعي التبغ. وقد عرفت المنطقة يومها، أعني بلاد الشام هذه المرة، هبّتها الشعبية السياسية الأولى، وهي هبّة لم يكن لها من قبل، ولم يكن لها من بعد، ما بين إعلان دولة لبنان الكبير وإعلان الاستقلال في سوريا ولبنان.
واللافت في أحداث ,1936 نقطة تسجل لصالحها كاملاً. وتتمثل بمشاركة مباشرة معمقة لرجالات من خارج البلدة أو من خارج القوم أو من خارج المذهب، دون أن يثير ذلك حميّة عصبية أو طائفية. ونستذكر هنا أسماء رفلة أبو جمرة، مسيحي من صور، كان يقصد بنت جبيل عشية ,1936 في عمله على تأسيس حلقات للحزب الشيوعي. ولا نجزم هنا إن كان فرج الله الحلو، الذي تعرف إلى بنت جبيل أواخر 1936 مع افتتاح الحلقة الأولى للحزب، إن كان قد زارها من قبل ذلك. لكن «هوى» بنت جبيل ,1936 ظل في صدور ثلاثة من عشاقها حتى الزفرة الأخيرة: الدكتور أنيس إيراني، وهو عجمي الأب، خطيب حركة ,1936 خطيب من غير عجمة وقائدها بعد اعتقال قادتها، علي بزي وعبد اللطيف بيضون وموسى الزين شرارة والحاج علي بيضون إلى عشرات آخرين من أبناء البلدة. والمؤرخ الشيخ علي الزين، نزيل بنت جبيل الدائم ورفيق شبيبتها. وقد ضيّقت بنت جبيل على أمانيه حتى باتت زيارتها أمنية دائمة في شيخوخته، وهو الذي خصّها في شبابه بقصيدتين من عيون شعره. وعبد الحسين عبد الله، الذي آخى ما بين بلدته الخيام وبنت جبيل وما بين دنياه ودنيا بنت جبيل وما بينه وبين شاعر بنت جبيل موسى الزين شرارة. ونستطرد هنا، لنضيف إلى «خوارج» بنت جبيل أو «قرامطتها»، أسماء ميشال جمّال (ماروني من كفر عبيدا)، والياس لاوند (مارديني من دياربكر)، عملا في سلك الجمارك وقد كانت لهما مواقفهما في أحداث البلدة وفي مظاهراتها على عتبة الاستقلال.
وفي التقييم الأخير لتلك الأحداث، لم يرحم التاريخ ما في صدور الجماعة. فالانتداب الذي جوبه منذ إقراره بمطلب الوحدة العربية، ما لبث أن تكرس. والاقطاع النافذ الذي تبدى أنه راح إلى غير رجعة، عاد مع الانتخابات النيابية في الأربعينيات على رأس لائحة من أربعة عشر مرشحاً، أو حسبما كنى رئيس اللائحة أعضاءها، أربعة عشر عصا، راحت تلسع مطلب الديموقراطية، الكلمة التي أحبها شبيبة بنت جبيل. أما قواد الانتفاضات الوطنية في مناطق جبل عامل، فقد راحوا، وقد أحسوا طعم الزعامة تحت أضراسهم، يفتشون عن مراقي لهم في محافل القيادات العروبية في بيروت، التي كانت بدورها تفتش عن هويتها الجديدة في محافل السفير البريطاني الجنرال سبيرز. وكما انزوى كثيرون من شبيبة بنت جبيل ومنطقتها، في بيوتهم وقراهم أو في إقامات جديدة تيسرت لهم خارج جبل عامل، أو تيسرت لكثيرين منهم في خارج لبنان.
بنت جبيل ـ عين إبل: زواج مدني
في تاريخ ما بين عين إبل وبنت جبيل، «ما صنعه الحداد». ليس الحداد الإفرنجي فقط. فمقابل الحدادة الفرنجية هناك الحدادة العربية. وإذا كان «ما صنعه الحداد» في الأمثولة العربية يعني الرمح والقنا، فإن «حداد» ما بين بنت جبيل وعين إبل، له من مهنته غير صناعة من الأواني.
كانت العلاقات ما بين القرى المسيحية وجوارها البنت جبيلي، قد امتدت إلى المدى الذي يستحيل معه بترها، إن لم يكن من المستحيل بعد منع العبث بها. ربّ مذكر هنا بأحداث .1920 ولكن ملاحظات علاقات ما بعد تلك السنة بين البلدتين، يقودنا إلى القول بأن ترجعيات أحداث ,1920 تراجعت باكراً في تقادير المنطقة. فذيول هذه الأحداث لم تمنع كذلك، عين إبل من استقبال الحاج محمد سعيد بزي زعيم بنت جبيل، يوم تقصدها أواسط الثلاثينيات، احتجاجاً على أوضاع كانت تحصل في عائلته وبلدته.
والاحداث التي عرفتها اعوام 1920 وما بعدها 1976 كانت نتيجة شرارات وفدت الى البلدتين من مقيمين في خارجها،أو ممن ليسوا منهما بالاصل (صعود إيلي حبيقة ومقاتليه الى عين إبل صيف 1976).
ولكن «الحرس القديم» في عين إبل وبنت جبيل، لم يقصر في محاولة تدبير أمور العلاقة هذه، تداركاً لما هو أدهى، ففي عين إبل تحرك الوجهاء وفي يقينهم أنهم متسلحون بموقف البطريرك خريش الذي يرى الحل «بالتفاهم مع الجوار»، وفي بنت جبيل تحرك الوجهاء بدفع من المقاومة الفلسطينية، التي رأت فيهم «محاوراً يحسن التحدث إلى نظيره الماروني»، لذلك راحت تسقط تباعاً الاتفاقات التي كان يتوصل إليها الطرفان.
وما تجب استعادته هنا، هو ان علاقات التجارة والوظيفة، مع تفاقم الأمور العسكرية، ظلت قائمة بين بنت جبيل وعين إبل، وظلت العناصر الحزبية في بنت جبيل من أبناء البلدة من ميلشيا مقربة من المنظمات الفلسطينية ومن حزبيين قوميين اجتماعيين وشيوعيين وبعثيين، ناهيك بالقيادات السياسية والوجهاء، على تواصل ولقاء مع رفاقهم وأندادهم في عين إبل، وظل في الإمكان الحديث، في تصرفات كانت تحصل بين البلدتين وفي ضرورة ضبطها وتجاوزها.
يبقى الأساسي أن العلاقة بين بنت جبيل وجوارها المسيحي، في سيرتها المأزومة الحزينة، أو في اندفاعها الطافح بِشراً، توعز بالانتماء الفعلي، وتؤشر عليه وتتمثله وتكثفه. فما يجمع أبناء البلدة بنت جبيل، بأبناء عين إبل في المأتم والعرس، هو الانسان وحده، وروابط إنسانيته وحدها.
وما زال في ذاكرتي إلى الآن الحزن العميم، الذي وقع على هيئات البلدة جرحاً عميقاً. فقد طفح هذا الحزن في بنت جبيل، كل بنت جبيل على ما نعلم مرة واحدة مطالع الستينيات، مع وفاة الطبيب في بنت جبيل ابن عين إبل الدكتور كريم الخوري. شعرت بنت جبيل يومها، لا بل تيقنت، أن موت طبيبها وإن كان قضاء وقدراً، في تزحلف سيارته على الطريق مع الشتوة الأولى، كان يومها «ضرباً من القتل». كان موته صاخباً وكان الحزن عليه كذلك.
فلسطين: الجار قبل الدار
احتفظت واجهة محل في الجهة الغربية من سوق بنت جبيل، حتى مطلع الستينيات من القرن الماضي، بكتابة كانت مرفوعة على العتبة العليا من واجهة هذا المحل: كاراج حيفا ـ يافا ـ عكا. ولا أعرف مقياس ترتيب هذه المدن كذلك.
إن متابعة خيوط فلسطين في النسيج الجنوبي بعامة، والبنت جبيلي بخاصة، يعني ملاحقة النسيج بأكمله. فلم تكن مرة خيوط فلسطين، زينة في طرف هذا النسيج. أو لم تكن لوناً أو زخرفاً أو أزراراً إضافية في أزياء لبنان ولباسه، أو خماراً «أسودَ» تلبسه المليحة اللبنانية، أمام نساك القضية العربية الأولى ومتعبديها.
في عام ,1936 تزامن انفجار الأحداث على جانبي الحدود في بنت جبيل من ناحية وفي الجليل في الحد الجنوبي. كان لكل جانب فيها «ست وثلاثينه» وقد كان بين الحدثين شُبْكة وقرابة من إيواء مقاتلين فلسطينيين وتهريب السلاح والذخيرة إليهم. كما كان في بنت جبيل مستشفى طبابة لجرحى الثورة، من أطبائه الدكتور أنيس إيراني. وقد داوم الأمر كذلك مع أعوام الثورة الفلسطينية الثلاثة (1936ـ1939)، مساهمة سياسية لرجالات بنت جبيل في «عصبة العمل القومي». وفي تمويل الثورة وإمدادها بالتبرعات. وفي الاستطلاع والإعلام.
وفي حرب ,1948 تطوع عديدون من أبناء البلدة في جيش الانقاذ، الذي تشكل بموجب اجتماع «القمة» العربية في عاليه في 7/10/,1947 كذلك «لبس» الثياب الكاكية والسُّلُكات العديد من قيادات شبابها. ولكن أبناء بنت جبيل ما لبثوا أن خرجوا من جيش الانقاذ، أو خرجوا عليه، بعدما رأوا منه ما رأوا، من تجاوزات وتمظهر حروب ليس غير.
وكان لأبناء البلدة «موطن» في معركة المالكية، شهداء (نمر طرفة، يُعرف قبره بقبر القتيل، في منتصف الطريق بين المالكية وعيترون). وجرحى يُلخص أحدهم (عبد الأمير بيضون) جزاءه من مساهمته في تصريح له لجريدة النهار 26/1/1965: «حملت من المعركة عدة إصابات هي كل ما كسبته من هذه الحياة».
وفي السنوات السبع ما بين سقوط الجليل ,1948 وإبعاد الفلسطينيين عن الحدود المطلة على فلسطينهم، لم يكن فلسطينيو بنت جبيل لاجئين وحسب. فقد تشكل منهم يومها حركات فدائية مسلحة، اتخذت من بنت جبيل قواعد انطلاق وتسليح وتدريب، وهي الأعمال الفدائية التي قام بها الفلسطينيون باتجاه بلدهم. وهي مرحلة مبتورة، في اعتبار التأريخ لحركات المقاومة التي قام بها الفلسطينيون. وما زالت تحضر إلى اليوم في مخيلة أبناء بنت جبيل، أطفال يومها وكهول الأيام الحاضرة وشيوخها، صور «حسن» الفلسطيني. وأبو غالب، ونايف الفلسطيني وعلى أبو دبسه، بكوفياتهم الحمراء والسوداء. يلفونها على رؤوسهم من غير عقال.
واندفع هوى بنت جبيل الفلسطيني مع دخول المنظمات الفدائية إليها عام ,1969 وكان في طليعة الشهداء الأخضر العربي (3/12/1969). قضى في العرقوب، وللإيضاح فهو بنت جبيلي من مواليد فلسطين. وتوالت الضحايا في البلدة، مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية وتواترها إلى سيرة كادت تكون أسبوعية، أو يومية في أحايين كثيرة. وكان آخر عناقيدها، قبل عملية الليطاني واحتلال ,1978 استشهاد مجموعة من البلدة على تلة من تلالها، وقد ظل أفرادها يقاومون منفردين بعدما، ولىّ غيرهم منسحباً.
أما في مرحلة ما بعد قيام «الشريط» حتى تحريره في أيار ,2000 فله حديث آخر، فالمئات من نزلائه من أبناء البلدة، ممن قضوا شهداء أمواتاً، أو ظلوا شهداء أحياء لهم صحائف سيّارة في سيرة البلدة وتقديماتها.
شو نحنا (نحن) وشو هني (هم)
شو نحنا (نحن) وشو هني (هم)، مقدمة سياسية وخلاصة في آن معاً، كان يسوقها احمد قاسم، جار المحمودين في بنت جبيل. وأحمد قاسم أبو علي، ومن قبل أن يتزوج، من الجيل الوسط بين جيل أبيه وجيل أولاده. عاصر أبوه قاسم، صادق الحمزة، وعمل مع عصابته.
وأحمد قاسم، أبو علي من قبل أن يتزوج، من الجيل الشاب منتصف الأربعينيات. شارك الفلسطينيين، في منازلات الجليل عام 1947ـ,1948 بتوصيل السلاح والذخيرة، لم يكن الأمر تهريباً للسلاح لقاء بدل مال، كانت مساهمته «انتماء». «شو نحنا وشو هني»، وقد يستطرد أبو علي مفسراً: «الحال بيناتنا واحدة».
وأحمد قاسم بذاته، لم تأخذ منه الكهولة حماسة شبابه. فمع وصول الفدائيين إلى بنت جبيل في تشرين ,1969 عاد وامتشق السلاح على كتفه الثاني، لأن كتفه الأول كان مشغولاً دائماً، بعدّة تحصيل أود عائلته: «مهدّة» أو معولاً أو رفشاً. وتكلفهما على مشقة وإعياء، طوال سبعينيات القرن العشرين، في إقامته في بنت جبيل أو أثناء تنزيحه عنها. شو نحنا على كتفه الأيمن، وشو «هني» على كتفه الأيسر، حتى أخذ الله وديعته.
مع ابنه خالد (خالد بزي) كانت لـ«نحنا» تغطية أكثر شمولاً. فالصراع مع محاور الشر، أكثر سعة وعمقاً. أعار خالد جمجمته لله. كان قليل الكلام كأبيه. كان يغضب ويهدأ، يفرح ويحزن، يوافق ويعارض، يتكلم كثيراً بعينيه، وكأن عينيه لكل المهمات، أقلها مهمة النظر. وهما ليستا للبكاء بالتأكيد.
والصراع عند خالد (سر أبيه)، لم يعد بين لبنانيين وفلسطينيين، وبين اسرائيليين، أو بين عرب ويهود. هناك محوران: خير إسلامي وشر يهودي. والصراع بينهما يبقى قائماً حتى تحقيق الوعد بالنصر. أو حتى ترث السماء الأرض ومن عليها. ولكن خالدا، في حرب تموز، توسل تراب بنت جبيل، وسادة عريضة هذه المرة، وهو الذي لم يكن له، طوال التسعينيات في البلدة ليل نائم.
مقهى الانشراح ونزهة الأفراح
يمثل هذا العنوان طموح واحد من أبناء البلدة (رشيد بيضون). كان صاحبه قد ابتنى لنفسه في فلسطين منزلاً ومنزلة، ومكاناً ومكانة، في حيفا وفي البقيعة في فلسطين. بعد 1948 عاد إلى بنت جبيل، بأمل واسع، مع ضيق ذات يده، بعد أن خسر الكثير من ثروته إثر سقوط فلسطين. ترجم أمله ذاك، باسم لمقهاه الذي كان يتصدر سوق البلدة «مقهى الانشراح ونزهة الأفراح».
لكن بنت جبيل راحت تذوي وتذوي. فقد تحولت ديموغرافية بنت جبيل، لصالح النسب السكانية المقيمة خارجها وبنسبة 1/ .10
لبثت بنت جبيل دائماً في ثياب الميدان. تفتش بنت جبيل عن تراثها في داخلها وحاراتها فلا تجده. تناسى سكانها حياة اجتماعهم على طريق قامتهم القلقة داخلها. فهل نصدق أن البقية القائمة في بنت جبيل، رمق الاجتماع البنت جبيلي الأخير، تقيم هانئة على تراثها الشعبي، الذي احتبك في وجدانها لمئات من السنين، أغاني وأمثالاً وعادات وسلامات ومراتب وأصبوحات، كانت تعطي الجنوبي في حياته، نبرة الأمر اليومي المطلق، الذي يتحكم ويقيم ميزان الروابط والعشرة والأحلام. أغفل البنت جبيليون المقيمون بعض تراثهم، وغفل النازحون البنت جبيليون الذين انقطعوا عنها، بدءاً من مطلع السبعينيات عن حواشي هذا التراث حتى انقطعوا عنه.
ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه الآن هل من الممكن أن يكون البنت جبيلي بنت جبيلياً جنوبياً، دون أن يستدعي قريته حياً حياً، وزاروباً زاورباً وبيتاً بيتاً. دون أن يستذكر بركة البلدة قطرة قطرة. ودون أن يستذكر حواكيرها ميادين لهوه ولعبه، ميداناً ميداناً، وأشجارها شجرة شجرة وعشاً عشاً. دون أن يستذكر بعض مشايخها، الذاهلين في زوايا غرفهم في بطون التواريخ والكتب، أو المتوقدين حيوية وحركة في مجالس العصاري والمسايا. هل يكون البنت جبيلي بنت جبيلياً إذا لم يستو دبيكاً في ساحات بلدته الصغيرة. هل يكون البنت جبيلي بنت جبيليا، دون أن يستذكر الأدعية المحمولة على أرجوحة السحر، بنبرة ابتهال طائرة مطلع الفجر، تهدهد نوم الأولاد في نصف إغفاءاتهم، أو في نصف يقظتهم: يا رضى الله ويا رضى الوالدين. يا من قصدوك وجدوك يا رب. يا صباح السرور يا مدبر الأمور.
دمرت إسرائيل، بإجرام عاصف قلب بلدة بنت جبيل، والقلب مصحف البصر. حنا القلب محتضناً «نبيتها» و«عينها الزغيرة» و«حاكورة نص الضيعة» و«السوق» و«الساحة»، وساحات الدبكة فيها، و«أبواب السر» في بيوتها و«خششها»، ووراء كل سر منها صلاة وابتهال وعطاء وقلب وأغنية.
يحلو لمؤرخين من البلدة التذكير بالأسطورة التي تقول ان بنت جبيل هي «كفرشمس» أو «بيت شمس». وهي تسمية يرويها كبار السن في خريف أعمارهم. والآن يصدق على بنت جبيل تسمية «دوار الشمس»، بعد أن أحرقت إسرائيل «قلب» البلدة ووسطها، وظلت البيوت التي تزنرها في دائرة محيطها منتصبة في كرومها، أوراق زهرٍ تشهد على نسغٍ تمتصه من قلب البلدة القديم