الحراك الذي بدأ كحملة للمطالبة بحل لأزمة النفايات تطور ليشمل قضايا ونواحيَ سياسية واجتماعية وإقتصادية كثيرة. وللمرة الأولى تخطى الإحتجاج الأساليب التقليدية المتمثلة بالإعتصام والتظاهر. فكانت آخر إبداعاته، تنظيم سوق شعبية في وسط بيروت، بعنوان “سوق أبو رخوصة بالبلد” في إشارة إلى أن المنتجات ستباع فيه بأسعار رخيصة، على خلاف ما هو سائد في “الوسط”. وقد إستلهم المنظمون التسمية من رئيس “جمعية تجار بيروت” نقولا شماس الذي صرح بأنه يرفض أن يصبح وسط بيروت “أبو رخوصة”، وذلك جراء إحتلاله من قبل المعتصمين منذ أكثر من شهر.
لم تتوقف الحملة المضادة لخطاب شماس عند هاشتاغ. فـ”#أبو_رخوصة”، الذي سرعان ما إنتشر على فايسبوك للمطالبة بأسعار رخيصة لمنتجات وخدمات “مدينة الغلاء”، تحولّ إلى واقع مع الدعوة إلى النزول للتبضع في “سوق أبو رخوصة”، متيحاً لأي كان إحضار بضاعته معه وبيعها بأسعار رخيصة. وقد نُشرت على صفحة “الإيفينت” صور لوسط عدد من مدن وعواصم العالم، خصوصاً الأوروبية التي نحلم بالتمثل بها، مع إشارة إلى شعبيتها ورخصها. فوسط المدينة غالباً ما يكون أكثر الأماكن إكتظاظاً وجاذبيةً لمختلف طبقات المواطنين وأكثرها تنوعاً، على خلاف وسط بيروت “الخاص” والفارغ، خصوصاً من اللبنانيين. فكان “سوق أبو رخوصة ليعود وسط بيروت الى أهله والناس، ولتعود البلد تجمع اللبنانيين من دون ان تكون حكراً على اصحاب الحسابات المصرفية الضخمة”، وفق الدعوة.
وقد جاء مصطلح “أبو رخوصة” في سياق تصريح محرض على الشيوعيين ومخوفاً منهم، إذ قال شماس “نحترم الحراك المدني لأن مطالبه مطالبنا، لكن الامور بدأت تنحرف عن مسارها وعلى الحراك التنبه إذ لا أعنف من الذي يحصل على الإقتصاد، ولن نسمح ان تُقطع أعناق التجار في لبنان”. فبالنسبة لشماس، المطالبة بأدنى مقومات العيش من كهرباء ومياه وتنظيف الشوارع من النفايات هي ميزة شيوعية، كذلك هي مطالبة المواطن بحقه في المجال العام. هذه المطالب هي، في أعين تجار بيروت، غير مشروعة، و”فنتازمات” شيوعية هادفة إلى تخريب وسط بيروت وإفراغه “من السياح العرب”. تحدث شماس عن غياب السياح العرب، لكنه نسي غياب معظم اللبنانيين الذين لا يمكنهم تحمل كلفة فنجان قهوة في “الوسط”. تحدث عن “الشيوعيين الذين لفظتهم روسيا”، ونسي أبناء البلد الذين تلفظهم السياسات الإقتصادية في كل لحظة إلى بلاد المهجر.
الرسالة واضحة: حتى الشارع في الوسط التجاري هو لأصحاب الأموال، لا للشعب. والحال إن الحراك شهد تحولاً منذ بدايته حتى الآن كما تغير خطابه تغيراً جذرياً. فالحراك الذي بدأ جامداً، موجهاً من قبل أشخاص محددين ناشطين في المجتمع المدني، ومركزاً على أزمة النفايات بشكل حصري، أصبح يظلله اليوم خطاب سياسي يمكن وصفه بالراديكالي. وليس المقصود هنا شعارات “إسقاط النظام” و”إستقالة الحكومة” فحسب، بل الخطوات العملية بإتجاه إسترجاع ما سُلب من الشعب كخليج “الزيتونة” و”الدالية”، والرصيف الذي كادت أن تسرقه “البارك ميتر”. ويعتبر “إحتلال” الوسط التجاري من قبل الشعب أهم الخطوات وأكثرها رمزية وجرأة بوصفه ملكاً لـ”سوليدير”، وحكراً على أقلية صغيرة جداً. وقد كشف هذا التحرك، قبل تنفيذه حتى، عن خوف أصحاب المصالح وسخطهم.
“نحاس المنيوم حديد للبيع، بطاريات سيارات عتيقة للبيع”، “قرب عالطيب”، “وصّل بياع الحلو وصّل، معمول مد بقشطة وبجوز، معكرونة فرايك عوامة وصّل”، هي هتافات الإحتجاج غداً. بياعو الترمس والفول، “بونجيس هرم” و”بسكوت غندور”، وثياب وأحذية “البالة” هم من سنراهم في وسط “سوليدير” وعائلة الحريري غداً. الفجل سيجتاح وسط “الأشباح” ليصبح بـ”سعر الفجل”، فتعود إليه الأرواح.
المصدر: المدن