المنطقة المحرّرة، لم تتحرّر بعد من الفقر والحرمان والإهمال وجيرة العدو (هيثم الموسوي)
يعاني الشباب في المنطقة الجنوبية الحدودية بطالة مزمنة، على غرار اترابهم في المناطق الاخرى. هؤلاء، العاجزون عن ايجاد فرص عمل لائقة في قراهم ومدنهم، لا يحلمون الا بالهجرة… لمَ لا، وامام انظارهم كم هائل من القصور الفارغة التي بناها «المغتربون» تعبيرا عن الثراء
داني الأمين
قبل 4 سنوات قرّر سعيد، ( 18 سنة) ترك مقاعد دراسته في الصف الثالث الثانوي (علوم عامة)، و«اقتناص فرصة العمل في أفريقيا». حينها «لم يكن مخطئاً»، كما يقول أصدقاؤه، برغم أنه «كان متفوقاً في دراسته، ويحتاج الى بضعة أشهر للحصول على الشهادة الثانوية العامة». فهو اليوم، «يعيل والديه وإخوته الأكبر سناً منه، اشترى سيارة جميلة، وبدأ بتقسيط شقة سكنية في ضاحية بيروت الجنوبية، بينما زملاوه في الدراسة باتوا عاطلين من العمل».
فرصة العمل هذه يحلم بمثلها من بقي من المقيمين الشباب في قراهم الحدودية، المحرّرة منذ أكثر من 13 عاماً، التي لم تشهد تغيراً لافتاً في نمط المعيشة، لا بل تراجعت الأوضاع الاقتصادية للمقيمين فيها. يحاول بعض الشباب افتتاح المحال التجارية الصغيرة (دكاكين)، التي انتشرت بكثافة في المنطقة، يجري افتتاحها واقفالها بين الحين والآخر، «هي من باب التسلية وملء الفراغ، واخفاء البطالة»، يقول التاجر محمد رمال (الطيبة)، الذي رأى أن «الأهالي ينافسون بعضهم بعضاً بافتتاح المحال التجارية، ما يسهم في تراجع مداخيل التجار، في ظل ارتفاع بدلات الايجار».
حول دكان صغير، في بلدة يارون المليئة بقصور المغتربين الفخمة والفارغة، يتناوب على الجلوس على ثلاثة مقاعد خمسة شبان صغار، لا يتجاوز عمر أكبرهم 25 عاماً. أفكار وأحلام كثيرة تراودهم، تتعلق بالهجرة أو الوظيفة «الميئوس من تحققها»، «لا أمل في العمل هنا» يقول أحدهم بحسرة، «المنطقة تخلو من المعامل وفرص الانتاج، حتى إن أعمال البناء توقفت، وأصبحت الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة هي المطلوبة لانجاز بعض الأعمال المتعلقة بورش البناء الصغيرة، والدورة الاقتصادية تعتمد على مداخيل مزارعي التبغ وبعض الموظفين والمتفرغين في الأحزاب، أما المهاجرون، فقد تراجعت أحوالهم الاقتصادية، وأقفلت أمامنا أبواب الهجرة».
من بين هؤلاء الخمسة مهندس الكتروني، مجاز في ادارة الأعمال، طالب علم في السنة الرابعة في كلية الآداب، عامل بناء وصاحب الدكان. هم يمضون، كالعشرات من أمثالهم، معظم ساعات أيامهم بين منزل وآخر، يشاهدون الأخبار ويحللونها، ينتقدون السياسيين، ويقدمون حلولاً تبدو أكثر جدية لمعالجة واقعهم الراهن، فينتقد المهندس محمد بسخرية الراغبين بنزع سلاح المقاومة، الذي يعده محور الصراع الاقليمي الموجود، ويقول «لديّ الحلّ لمواجهته بطريقة مجدية، وأقل كلفة من السلاح المضاد، احفظوا الحدود، أمنوا لنا فرص العمل، ابنوا المصانع والمعامل التي تحتاج الى الأمان… وأنا أضمن تحقيق طموحكم هذا». كلام محمد لا ينطلق من الفراغ، هو يعي أن «المنطقة المحرّرة، لم تتحرّر بعد من الفقر والحرمان، بسبب الاهمال وجيرة العدو، ولأن أحداً لم يسع حتى الآن الى تحريرها، وعلى أبناء المنطقة التسلّح والتدريب لمواجهة أي عدوان قادم، أما الذين نزحوا أو هاجروا، فلا أمل لهم بالعودة قبل ذلك».
أكثر من 75 قرية وبلدة حدودية تخلو من المعامل والمصانع الكبيرة، وتراجعت فيها أعداد المعامل الحرفية الصغيرة على نحو كبير، اذ يوجد، حتى الآن معمل وحيد لتصنيع الألبان والأجبان في بلدة عيترون، استطاع بحسب مديره زياد فقيه، زيادة عدد الأبقار في البلدة، من 60 الى 250 بقرة، ما يعني «امكانية تأمين فرص عمل للمقيمين لو قرّر أصحاب الشأن ذلك»، فيما تراجع عدد معامل الأحذية في بنت جبيل من 30 معملاً في التسعينيات، الى 3 معامل صغيرة اليوم «تؤمن فرص عمل لنحو 7 أفراد فقط، بسبب انتشار الأحذية الصينية، وعدم دعم الدولة للانتاج اللبناني»، كما يشير أحمد بزي (صاحب معمل للأحذية في بنت جبيل). كذلك تراجع عدد معامل الفخّار في راشيا الفخار، من 50 معملاً الى معملين فقط، يؤمنان العمل لصاحبيهما، أديب غريب وجهاد أسير. لا وجود لأي معامل أخرى في المنطقة، كما أنه تلاشت المهن الحرفية الصغيرة، مثل مهن «السكافي» و«المبيّض»، و«الجليلاتي»، وغيرها، وتراجع عدد المزارعين، فأهملت الأراضي الزراعية، باستثناء زراعة التبغ، المنتشرة في قرى وبلدات عيتا الشعب ورميش وعيترون وتولين والصوانة.
17% من أبناء القرى الحدودية هم من المقيمين فقط، معظمهم من الكبار وطلاب المدارس والشباب العاطلين من العمل، أما الآخرون، فهم من المهاجرين أو النازحين، الذين يطمحون للعودة الى قراهم، بدليل بناء المنازل الجديدة التي انتشرت بكثافة بعد التحرير، فالمساحة السكنية لمدينة بنت جبيل، على سبيل المثال، لا تفوق 57 ألف متر مربع، يقع ضمنها نحو 900 عقار و 1800 وحدة سكنية، بينما عدد أبناء المدينة الجديدة حوالى 43900 نسمة بين مقيم ومغترب، يقيم منهم اليوم أقل من 3800 نسمة، ما يعني أن معظم المنازل فارغة وتنتظر عودة أصحابها، التي شيّد منها بعد التحرير عام 2000 ما يقارب 950 وحدة سكنية، و580 عقاراً، فيما عملية الاعمار لا تزال جارية. ولكي تقتصد المدينة في كمية المساحات، عمد أصحاب المشاريع الى البناء ذي الطراز العمودي غير المألوف كثيراً في فترة ما قبل الحرب، أي بمعدل ثلاث طبقات وما فوق، وخاصة في وسط المدينة، أو سوق الخميس الذائع الصيت، لكن تجنباً لتشويه طابع المدينة، ومنعاً للاكتظاظ فوق رقعة جغرافية محدودة، سارعت الجهات المختصة في البلدية، والتنظيم المدني الى الحد من هذا التوجه، ما دفع بالأهالي الى اعتماد التوسع باتجاه القرى المجاورة، لكن هذا الواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد رافقته موجة من الغلاء في أسعار العقارات ومواد البناء، ما أدى الى المزيد من تقليص المساحات الخضراء القليلة والباقية، والعائد بمعظمها الى عدد قليل من المالكين والمتمولين، ليصل سعر الشقة السكنية المتوسطة الحجم (120 متراً مربعاً) الى 100 ألف دولار أميركي في بنت جبيل، و80 ألف في القرى المجاورة، فتكون الأسعار بذلك قريبة من واقع الأسعار المتداولة في المدن الساحلية، مثل صور وصيدا والضاحية الجنوبية من بيروت وغيرها، ولا تسمح للشباب المقيمين بشرائها، ما يزيد «الطين بلّة»، فيما تراوح بدلات الايجارات السكنية والتجارية بين200 و 400 دولار أميركي شهريا، وهذا لا يتناسب مع الواقع المعيشي للمقيمين الفقراء، لأن الأغنياء المهاجرين هم أصحاب هذه العقارات.
يسعى اتحاد بلديات جبل عامل اليوم الى محاولات لخلق فرص انتاجية جديدة، فيقول رئيسه علي الزين «المنطقة في أراض واسعة تصلح للزراعة، ويجب على البلديات عدم الاهتمام فقط بالطرقات وحيطان الدعم، لذلك نعمل على وضع مخطط توجيهي شامل للاستفادة من القطاعات الانتاجية الممكنة، ونعمل على ارشاد المزارعين واقامة دورات لتربية النحل والدجاج، اضافة الى دورات مهنية مختلفة، وأنشأنا حقولاً زراعية نموذجية في المناطق تمهيداً لاعتمادها من قبل المزارعين».