إن المرجعية المعاصرة التي لم تحرّم التطبير قد تكون لها أسباب تدفعها إلى ذلك
حسين عبد الله فضل الله
لم أكن أنوي فتح هذا الموضوع أبداً؛ بل ودعوت إلى ترك الجدال فيه لأنه يعمم هذه الظاهرة المشينة ويزيد من تشبث أصحابها بها لكونهم يتحركون عن عاطفة. ولكن الظاهرة – وللأسف – أصبحت تمسّ الإسلام بالصميم وتؤثر بشكل كبير في مسار التدين… ناهيك عن انزلاق البدع نحو ترهات أكثر بعداً من العقل وليس فيها أي منطق أو دليل أو خير!
وأمام تجنّب معظم العلماء الأفاضل الخوض في هذا المضمار لحساسيته أو لقناعة خاصة أو لتخاذل موصوف، رأينا لزاماً – وبشكل مقتضب – التوضيح لكل الأحبة من التابعين والمخالفين أسباب بطلان هذا الأمر.
ولنكون قد أدينا قسطاً من المسؤولية – الملقاة على عاتق الجميع – في التصدي للموجة الفكرية المنحرفة التي تؤسّس لمسار مغاير لنهج النبي محمد (ص) وآله (ع) وما سأقوله هو نتاج متابعة حثيثة ومناقشات مطوّلة ومشاركات – كشاهد – في بعض مراسم التطبير. ولهذا آمل التركيز في ما يلي:
أولاً، إنّ أصل التطبير بدعة غريبة عن الإسلام، انحدرت من مشارق الأرض ومغاربها، ووصلت إلينا ظلماً عبر بعض المغرضين. فقد وضّح الشهيد والمفكّر الكبير الشيخ مرتضى مطهري الأصول التاريخية لهذه البدعة حيث قال: «إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز – منطقة في أوروبا الشرقية – وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم»1.
أما الدكتور علي شريعتي فقد قال بأن «وزير الشعائر الحسينية في دولة إسماعيل الصفوي ذهب إلى أوروبا الشرقية وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك، واقتبس تلك المراسم والطقوس – التطبير والتسوّط – وجاء بها إلى إيران»2؛ فيما قال بعض المحققين إنها انتقلت من أتراك أذربيجان إلى الفرس والعرب، ورأى آخرون أن أصلها من الهند – الهندوس.
ولكن الصحيح والغالب أنّ أصل الاقتباس مسيحي فإن ظاهرة التسوط أو تعذيب الذات (flagellation) ظهرت عند المسيحيين في عام 1348م أي قبل ظهور التطبير، حيث تذكر أغلب المصادر التي أرّخت للطاعون الكبير – الذي اجتاح أوروبا في تلك الفترة والذي سمي بالموت الأسود – أن إدماء الجسد كان يعدّ بمثابة أضحية تقدم الى الرب لتخليصهم من وباء الطاعون3. وهكذا سرّبت هذه الأفعال اللاعقلانية وانتشرت بالأوساط اللامتدينة أولاً ثم انزلق إليها بعض الطيبين من المؤمنين وعمل الأعداء على تعزيزها لضرب صورة «الإسلام» اللامعة.
ثانياً، رواية ضرب السيدة زينب (ع) رأسها بالمحمل، التي يستدل بها أتباع هذا النهج، ضعيفة السند بل نقلها أموي حاقد يدعى مسلم الجصاص (تبعاً لعمله في الجص في قصر ابن زياد اللعين)، ليبين ويدعي أنهم استطاعوا إذلال زينب (ع) عاصمة الصبر. ومن هوان الدنيا على زينب (ع) أن توصف بالضعف والذل وهي صاحبة صرخة (والله لن تمحو ذكرنا) بعد أن لم تر إلا جميلاً! ولهذا لا يصح الاستناد الى هذه الرواية في مقام الإثبات. وعلى فرض أنها صحيحة فزينب (ع) لم تفعل ذلك «عمداً» بل «عفوياً» ولهول ما رأت فقط! ناهيك عما نقله الشيخ المفيد عن قول الإمام الحسين (ع) لأخته زينب (ع) بأن «لا تشقّي علَيَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً،
من أراد تقديم الدماء
فإن الله فتح باب الجهاد
على مصراعيه
ولا تدعي علَيَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت»4. فهذه الوصية لا تدل على منع الحزن والأسى والبكاء والندب، إنما تمنع ما يتجاوز ذلك مثل التطبير وأخواته.
ثالثاً، لو كان التطبير مقبولاً وصحيحاً لكان الإمامان الحسن والحسين (ع) أحق الناس بالتطبير بعد أن ضُرب الأمير علي (ع) على رأسه الشريف في محراب صلاته، ولكنهما لم يفعلا! وكذلك حال الإمامين السجاد (ع) والباقر (ع) وهما ممن شهد كربلاء بفجائعها!
رابعاً، «التطبير بدأ ومنذ سنين يؤثر بشكل خطير سلبياً» في صورة وسمعة المذهب السمح الذي أصبح مقروناً بالدم والطقوس الغريبة! وما عليك إلا أن تكتب شيعة على غوغل (Google) لتظهر الدماء في كل الصور، ناهيك عن أعداد كبيرة من الذين كانوا على وشك الهداية وامتنعوا بسبب النفور من هذه المشاهد الغريبة عن العقل والحكمة!
خامساً، إن المراجع التي لم تحرّم التطبير غالبها من القدماء… وعدم تحريمها نابع عن ثلاثة أسس:
أــ بدايةً لم تكن هذه الظاهرة منتشرة مثل الآن لأننا نعيش في عصر الصورة والفضائيات والعولمة، بل كانت مضبوطة ومقيّدة في أحياء صغيرة في إيران والعراق فقط.
ب ــ إضافة الى ذلك فإن الطاغية صدام حسين والديكتاتور محمد رضا بهلوي حاولا وبجهد كبير إطفاء أي إحياء وعزاء يرتبط بعاشوراء محاولَين سحق المذهب! ولهذا السبب كان العلماء يدعون للتمسك بكل ما ارتبط بالحسين (ع) «ولو كان غريباً» وغير مثبت كشعيرة، فقط للحفاظ على الدين والمذهب أمام خطر الانهيار.
ج ــ أيضاً لم تكن البدع قد انتشرت وتوسّعت بالشكل المخزي الذي نراه اليوم، حيث باتت الأمم تتنافس في تشويه صورة الإسلام المحمدي الأصيل وتدعم كل من يساعدها في ذلك، والحركات التكفيرية خير دليل ومثال.
سادساً، هناك العديد من المراجع وكبار المجتهدين والعلماء قد حرموا التطبير أمثال العمالقة – مع حفظ الألقاب – الخميني، والخامنئي، ومحمد باقر الصدر، ومطهري، وبهشتي، وطبطبائي، ومحسن الأمين، ومحسن الحكيم، والوائلي «عميد» المنبر الحسيني الذي وصف المطبرين بالذين يتراقصون على جراحنا! بل أيضاً أورد السّيد محسن الحكيم أن «التطبير هو غصة في حلقومنا»؛ أما السّيد محمّد باقر الصّدر فقال «إن ما نراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه!». وغيرهم الكثير من أقطاب وأساطين الشيعة الذين تصدوا لهذه الظاهرة.
سابعاً، إن المرجعية المعاصرة والتي لم تحرّم التطبير قد تكون لها أسباب تدفعها لعدم التحريم، فناهيك عن نظرتها الفقهية البحتة للموضوع والتي قيدت إباحة التطبير بعدم وجود عنوان ثانوي كهتك النفس أو الطائفة، فإن الساحة العراقية – مثلاً – تتميز بعاطفة جياشة بكل ما يتعلق بالحسين (ع)، ولهذا فإن أي تحريم أو دعوى لمنع فعل أو مناسبة ترتبط بقضية عاشوراء تجابه بالرفض والاستهجان وقد لا يتفهمها بعض الناس الذين غرقوا بالموروثات الشعبية والتقاليد، ولهذا فقد عانى السيد محسن الأمين (قدس سره) من حرب شعواء بسبب إعلانه حرمة التطبير، وكذلك العديد من العلماء والمثقفين الذين تصدوا بحزم لهذه الظاهرة الدخيلة.
ثامناً، إن أخطار الموضوع قد فاقت حد التطبير، فلقد سمعنا بالبعض يغرز جفن العين بالإبر حتى تسيل الدماء تطبيقاً لقول الامام المهدي (عج) «لأبكين عليك بدل الدموع دماً»! أو التطيين وهو وضع الطين على كامل الجسد! أو التطنيح وهو ضرب الرأس بالحائط أو العامود حتى الادماء لأن السيدة زينب (ع) فعلت هكذا! أو لبس ثياب الأسد على أنه الامام علي (ع)! أو المشي على الجمر! أو الرقص مع الطبول بمشهد طربي لا يمت الى الحزن بصلة! وغيرها الكثير من الأفعال والبدع الغريبة عن العقل والمنطق والقرآن والشريعة ومنهج آل البيت (ع).
تاسعاً، نقل البعض أن أحدهم وفي أحد المقامات كان يربط رفيقه بحبل ويجره نحو المقام مثل الكلب – أجلكم الله – على أن هذه شعيرة! فتعرض له الحراس ليمنعوه وقاموا بتوقيفه، وبعد التحقيق اعترف أن مجهولاً دفع له نقوداً كي يقوم بذلك! وهذا دليل واضح على أن الأعداء يتدخلون ليشوهوا سمعة المؤمنين الى أقصى حد! وبالتأكيد فإن السماح لقنوات الفتنة أن تبث براحة في العالم العربي والتي تدعوا الى هذه الأفعال المشينة وعدم السماح للرأي الآخر بالظهور هو أحد أوجه الحرب الناعمة القائمة على هذه الجبهة! وهذا ليس أمراً جديداً، فإن أول من أدخل ضرب الجسد بالسّلاسل وشق الرؤوس بالسّيوف إلى النجف الأشرف عام 1919 هو الحاكم البريطاني الذي خدم سابقاً في كرمنشاه ونقل هذه الممارسة إلى العراق عبر الهنود الشيعة، وذلك بهدف إضعاف الحوزة حينها، وكشفت بريطانيا عن ذلك عام 1970 في كتاب «دليل الخليج» لمؤلفه جون غوردون لوريمر.
عاشراً، إن الجزع الوارد في الرواية – التي يستند اليها أغلب منظرو التطبير – وإسقاطه على التطبير يُمسي حراماً لأنه يَستلزم هتك النفس والمذهب كما هو جلي، لأن الهتك حرام والتطبير مباح – فرضاً – والحرام يتقدّم على المباح بمقتضى الاحتياط في الفقه وعند أولي الألباب.
أخيراً، إن معظم الذين يمارسون هذه العادات ينطلقون عن حب، وقلة منهم المغرضون. إن تقديم النصح والتوعية والشرح الوافي هو وسيلة تهذيب الشعائر، فدين محمد (ص) الذي ناشد الحسين (ع) السيوف أن تأخذه في سبيل استقامته يستحقّ تكاتف العلماء والحزم في التصدي لكل ما يشوه المذهب؛ وهذا أمر لازم وضروري حتى لا ينفلت الموضوع من أيدي الجميع ونصل إلى مرحلة يصبح فيها الانتحار على حب الحسين (ع) فضيلة وشعيرة من الشعائر! ولن يستقيم الدين بعد ذلك أبداً! ومن أراد تقديم الدماء فإن الله فتح باب الجهاد على مصراعيه وهو من أبواب الجنة باتفاق الجميع؛ ومن لا يستطيع الجهاد فليتبرع بالدم لجرحى المجاهدين الذين يضحون لأجل الإسلام.
وختاماً، فالإسلام دين الحب، ودين العقل، ودين الرحمة، ودين الحكمة، ودين الانفتاح، وعندما تصل الجماعات البشريّة إلى الدين الأمثل والأنسب للإنسانيّة، ستكون قد وصلت «الإسلام المحمدي»، فالإمام الحسين (ع) هو إمام الإنسانيّة، كما كان أبوه علي (ع) أستاذاً للبشريّة، وجدّه محمد (ص) سيداً للخلق.
المراجع:
1ـ الجذب والدفع في شخصية الإمام علي(ع) مرتضى مطهري ص 165.
2ــ التشيع العلوي والتشيع الصفوي، علي شريعتي ص 208.
3ــ الموت الأسود، لويس جيبلي سلافيسيك ص 48.
* طالب حوزوي
المصدر: الأخبار