في بناء المقامات الدينية( صفحة 83.84)… للعلامة الشيخ حسين الخشن
مقام السيدة خولة في “بعلبك ”
في مدخل مدينة “بعلبك ” وفي جوار قلعتها الشهيرة يرتفع مقام يحمل اسم “خولة بنت الامام الحسين عليه السلام”،وقد كان هذا المقام في السابق عبارة عن غرفة صغيرة يؤمّه بعض الناس من “بعلبك”ومحيطها ،الا انه في السنوات الاخيرة سعى بعضهم الى توسعة المقام واعادة بنائه على طراز جميل وحديث كما هي طريقة بناءالمقامات الدينيّة المنتشرة في العراق وايران وغيرهما ،ولا تزال اعمال التوسعة قائمة الى اليوم. وعلى بعد امتار من هذا الضريح شجرة سرو (وقيل: لزّاب)قديمة العهد ،قيل :ان محيط جذعها ثمانية امتار ،وكان الناس يأخذون بعض اغصانها او اجزائها ،للتبرك بها (والتبرّك بالاشجار هي عادة منتشرة في كثير من الأماكن )،وذلك قبل ان تتمّ احاطتها بسور زجاجي عالٍ ومرتفع حال دون امكانية وصول ايدي الناس اليها،ولعلّ الهدف من وضع هذا السور هو حمايتها من تجاوزات بعض الناس،ولا سيّما اذا ما اتّخذ البعض من اوراق تلك الشجرة او اغصانها مادة للاتجار بها !!
والملاحظ انه في السنوات الاخيرة ازداد زوّار هذا المقام وروّاده بشكل لافت،واصبح مقصودا من مختلف المناطق اللبنانية ،ويزوره الكثيرون من غير اللبنانيين ايضا،ويلاحِظ الداخل اليه انّه قد كُتبت داخله زيارات خاصة من تأليف بعض الناس ،وعلّقت على بعض جدرانه ،وقد جاء فيها :”السلام عليكِ يا بنت رسول الله (ص) السلام عليكِ يا بنت امير المؤمنين السلام عليكِ يا بنت فاطمة الزهراء السلام عليكِ ايتها الصدّيقة الشهيدة الفاضلة… “!!
وتقول الرواية المتداولة شعبيا عن قصة هذا المقام: انه لما سُبي عيال الحسين عليه السلام بعد معركة كربلاء وجيئ بهم الى الشام ،كانت “بعلبك”احدى محطات هذا المسير ،وبسبب رحلة التعب والآلام التي مرّ بها هذا الموكب،فقد توفّيت احدى البنات الصغيرات ،وهي المسمّاة خولة بنت الحسين عليه السلام ،وكان عمرها آنذاك ستّ سنين ،فدُفنت في “بعلبك”.
وفي رواية شعبية اخرى متداولة انّ خولة ليست طفلة،بل انّها سُقطٌ القته زوجة الامام الحسين عليه السلام عندما عَبَرَ ركب السبايا مدينة “بعلبكّ” في الطريق الى دمشق .
في بناء المقامات الدينية( صفحة 84 85)..
المشاعر والحقائق ..
وقبل الدخول في بحث هذا الموضوع ،فاني اريد مصارحة القارئ الكريم بحقيقة مشاعري التي تنطوي عليها سريرتي ،وهي انّي ربما اكون ميّالا وراغبا ًفي الوصول الى نتيجة ايجابية تُثبت صدقيّة هذا المقام ،وذلك يرضي عواطفي وحبّي لبلادي واهلي ورغبتي وأُنسي في ان يكون لأهل البيت عليهم السلام ولا سيّما الامام الحسين عليه السلام بضعةٌ طاهرة في ارضنا ومناطقنا العزيزة على قلوبنا ،ولكنّي ادركُ انّ المشاعر لا تكفي في الاثبات او النفي في مجالنا هذا وغيره من المجالات العلميّة ،بل ربما كان اللازم على الباحث ليكون منسجما مع المنهج العلمي الاصيل ان يتجرّد من مشاعره الخاصة او يضعها جانبا اثناء عملية البحث حتى لا تملي عليه -هذه المشاعر-اتجاها معيّنا ،فيبتعد عن الحقيقة والموضوعية ،كما يحصل مع بعض الباحثين ممّن يقع اسير مشاعره او مصالحه ،فيعمد الى تحشيد الشواهد ،وتكلّف “الدلائل”وتطويع النصوص وتأويلها بما ينسجم مع ميوله ورغباته !!!
●- في بناء المقامات الدينية
(صفحة 85)..
مراحل البحث…
واثباتاً لصدقيّة هذا المقام يتحتّم علينا ان نجد جواباً مقنعاً عن الاسئلة التالية :
ً 1-هل ثمّة بنتٌ للامام الحسين عليه السلام باسم خولة ??
2-اذا ثبت ان ثمّة بنتاً باسم خولة ،وانّها كانت مع عيال الامام الحسين عليه السلام في سفره الى العراق ،فهل مرّ موكب العيال( السبايا)في مدينة “بعلبك”???
3-اذا ثبت ان هذا الموكب مرّ في “بعلبك”،فهل توفيت احدى بنات الموكب في تلك المحطة من محطات رحلة الاحزان??
4-اذا لم يثبت شيئ من ذلك ،فكيف نفسّر وجود هذا المقام في “بعلبك”المنسوب الى خولة بنت الحسين عليه السلام ??
●- هل للحسين عليه السلام بنت باسم خولة???
اما فيما يرتبط بالسؤال الاول ،فلا يوجد ما يسعفنا-اطلاقا-على القول بوجود بنت للامام الحسين عليه السلام اسمها خولة،فالمصادر التاريخية وكُتُب الحديث والانساب وغيرها التي تحدّثت عن حياة الامام الحسين عليه السلام وزوجاته واولاده لم تُشر الى هذا الاسم في عداد بناته عليهم السلام .وعدم الاشارة الى هذه البنت -لو كانت-لا يمكن ان يُفهم على انّه مجرّد سكوت او عدم اكتراث او اهمال ،لاننا لسنا نتحدّث عن بنت لشخصيّة مغمورة او عاديّة ،وانّما نتحدّث عن بنت الحسين بن علي عليه السلام سيّد شباب اهل الجنّة ،والذي تتطلّع اليه والى ذرّيته الانظار ،كما انّ قصّة موتها -بحسب الفرض-في رحلة السبي والمعاناة التي لم تعرف سابقة في الاسلام تستلفت الانتباه،ومن البعيد جدّا ان تمرّ مرور الكرام دون ان يشير اليها احد من المؤرّخين ،او ينوّه بظلامتها احد من ائمّة اهل البيت عليهم السلام او غيرهم .باختصار: انّه ومع توفّر الحوافز والدواعي لذكر اسم خولة وتسجيل اسمها في عداد بنات الحسين عليه السلام ،فلا يمكننا ان نفهم عدم ذكرها والاشارة اليها الا باعتباره دليلاً على عدم وجودها.
وتجدر الاشارة الى ان ّاسم خولة لم يرد ليس فقط في اسماء بنات الامام الحسين عليه السلام بل وفي بنات امير المؤمنين عليه السلام ايضا على كثرتهنّ، وفي بنات الامام الحسن عليه السلام ،وهكذا في بنات سائر الأئمة من اهل البيت عليهم السلام ،مع انّه لو كان ل “خولة “بنت الحسين عليه السلام وجود حقيقيّ وتوفّيت بهذه الطريقة المأساويّة ،فان من الطبيعي ان تتمّ استعادة هذا الاسم وابقائه حاضرا في الاذهان من خلال الاجيال اللاحقة ،كما تمّت استعادة اسم “فاطمة”او “رقيّة”او “زينب”او “خديجة”او “ام كلثوم”،كما نلاحظ ذلك في بنات الأئمة عليهم السلام .
هذا لو اخذنا بنظر الاعتبار رواية الطفلة،وامّا لو اخذنا بالحسبان رواية السُّقْط،فان امر اغفالها من قبل المؤرخين ،وان كان اقلّ استغراباًمن اغفال امر الطفلة ،لانّ الاجهاض -عادة-يحصل بطريقة بعيدة عن الانظار ،الا انّه مع ذلك سيبقى الاغفال مستغربا ،لجهة انّ الاجهاض لم يحصل في ظروف اعتياديّة ،بل حصل في ظروف قاسية وصعبة للغاية،بحيث يشكّل هذا الاجهاض أحد مظاهر المظلوميّة التي تعرّض لها موكب الامام الحسين عليه السلام ،وعياله وصحابته منذ ان جعجع بهم الحرّ الرياحي -قبل توبته-في القرب من كربلاء،والى حين رجوع هذا الموكب ووصوله الى “المدينة المنورة”،ثم اذا كان الائمة من اهل البيت عليهم السلام ومَن كان في الركب المذكور من العيال والنساء،و كذا المؤرخون والنّسّابة ..اذا كان كل هؤلاء لم. يشيروا من قريب او بعيد الى امر السُّقط ،فمن يا ترى يكون هذا الذي علِم بامر الاجهاض وكشف النقاب عن حقيقة هذا السُّقط وحدّد جنسه واسمه ??!!
في بناء المقامات الدينية
عدد بنات الامام الحسين عليه السلام ..
بالعودة الى المصادر التاريخية وكتب السيرة التي تطرّقت الى اولاد الامام الحسين عليه السلام ،فاننا نجد انّ الاقوال في عدد بناته عليه السلام ثلاثة:
1-انهنّ اثنتان ،وهما: فاطمة وسكينة ،وهاتان الشخصيتان معروفتان ،ولهما حضور واضح وجليّ في احداث النهضة الحسينية فضلا عمّا بعدها ،وقد تبنّى هذا القول جمع من الأعلام ،وعلى راسهم :الشيخان المفيد والطبرسي .
2-انهنّ ثلاث ،وهنّ:فاطمة وسكينة وزينب ،وقد تبنّى هذا القول بعض الاعلام ،ومنهم :ابن شهر آشوب ،والطبري الإمامي ،والعلامة السيد محسن الأمين .
إنهنّ اربع ،وقد نقل العلامة الأربلي وابن الضباع المالكي ،هذا القول عن الشيخ كمال الدين بن طلحة ،ولم يسمِّ اصحاب هذا القول اسم البنت الرابعة ،واما الثلاث الأُخر فهنّ اللاتي ذكرت اسماؤهنّ في القول الثاني.
وتعليقا على هذه الاقوال ،فانّي اسجّل النقاط التالية :
اوّلا: ربّما يقال: ان القول الثالث هو اضعف الاقوال ،لانه ومع تضارب الآراء في المسألة فلا نجد مرجّحا لقول الشيخ كمال الدين بن طلحة (ت654ه)على قول الاعلام المحققين ،سواء مَنْ نصّ منهم على انّ للامام الحسين عليه السلام بنتين فقط،كالمفيد والطبرسي ،او مَنْ نصّ على انّ له ثلاث بنات،كابن شهر آشوب والطبري الامامي ،ومن الواضح انّه بناءً على القوليْن الأوليْن فلا وجود لخولة وانما هي منتفية جزما.
ثانيا :انّ ثمّة احتمالاً قويا في حصول الاشتباه في كلام ابن طلحة :وذلك لانّه -اي ابن طلحة-قد صرّح بانّ عدد الذكور من اولاد الامام الحسين عليه السلام ستة،وذَكَر اسماءهم بالتفصيل ،ثم ذكر ان عدد البنات اربع،ثم سمّى ثلاثا منهنّ ،وهنّ:سكينة وفاطمة وزينب ،ولم يصرّح باسم الرابعة ،ولم يشر الى انّ اسمها ذهب عن باله مثلا ،ولم يضع فراغا او نقاطا (… ..)للتدليل على وحود تتمّة للكلام ،الامر الذي يجعلنا امام احتمالين في تفسير كلامه:
الاول :سقوط اسم البنت الرابعة ،اما لغفلة ،او بسبب سهو النُّساخ ،او لغيره من الاسباب المعروفة .
الثاني :ان لا يكون هناك بنت رابعة للامام الحسين عليه السلام اصلا ،وانّما حصل الاشتباه في قول ابن طلحة ،انّ عدد بناته اربع ،فبدل ان. يذكر انّ عددهن ثلاث ذكر انّ عددهن اربع.
والاحتمالان -بنظرنا-متكافئان ولا مرجّح لاحدهما على الآخر ،لانّ احتمال الغفلة عن ذكر الرابعة ،ليس بأولى من احتمال الاشتباه في ذكر العدد.
ثالثا: لو سلّمنا بصحة قول ابن طلحة بأنّ عدد بناته عليه السلام اربع ،ولكن هل يكفي هذا المقدار لاثبات انّ الرابعة هي خولة? ولمَ لا يقال بتطبيق البنت الرابعة على “رقية بنت الحسين عليه السلام “..المدفونة في دمشق ،كما احتمل ذلك بعضهم?!!
يتبع…
2-هل مرّ موكب السبايا في بعلبكّ??
لنفرض -جدلا-انّ ثمّة بنتا للحسين عليه السلام اسمها خولة ،وانّه عليه السلام قد اصطحبها معه الى كربلاء ،او كانت جنينا في بطن امّها ،لكنّ السؤال الملحّ هنا: هل انّ موكب الاحزان الذي يضمّ عيال الحسين عليه السلام واولاده قد مرّ فعلا على مدينة بعلبكّ في رحلته الحزينة من “الكوفة”الى “الشام”??
والاجابة على هذا السؤال تفرض علينا في بادئ الأمر ان نتعرّف على الطريق الذي سلكه الموكب من “الكوفة”الى “دمشق”،لانّ المعروف-كما ذكر بعض العلماء والباحثين-انّ هناك طريقين يصلان بين هاتين المدينتين :
الاول :الطريق السلطاني ،وهو الذي رجّح المحدّث النوري ان. يكون الموكب قد سلكه ،وهو طريق طويل وكثير المنازل ،ويمكن لسالك هذا الطريق ان يمرّ على مدينة “بعلبكّ”.
الثاني :الطريق المستقيم ،وهو طريق مختصر يمكن قطعه في مدّة اسبوع،وكان “عرب عقيل”يسلكونه ،ولذا أسماه بعضهم بطريق “عرب عقيل”،ومن الواضح انّ سالك هذا الطريق لا يمرّ على “بعلبكّ”،ويبدو انّ العلامة الشهيد السيد القاضي الطباطبائي يرجّح سلوك الموكب لهذا الطريق ،مبرّرا بذلك رايه في امكانية رجوع السبايا الى كربلاء في العشرين من صفر ،وذلك في ردٍّ على المحدّث النوري الذي يعدّ من اشد المنكرين لمقولة رجوع السبايا الى كربلاء في التاريخ المذكور .
باتضاح ما تقدم نقول :انّ اثبات مرور الموكب على مدينة “بعلبك”يحتّم على صاحب هذا القول نفي سلوكه -للطريق المستقيم بين “الكوفة”و”دمشق”،وهذا امر يحتاج الى تحقيق واسع يتضمنّ تفنيد الوجوه التي يُتمسّك بها للقول بانّ الموكب قد سلك الطريق الواسع ،وبحثٌ او تحقيقٌ كهذا ،لم نجد انّ القائلين بمرور الموكب على مدينة “بعلبكّ” قد قاموا به .
لكن بصرف النظر عن ذلك ،ومع التسليم بانّ الموكب سلك الطريق السلطاني ،فهل كانت مدينة “بعلبكّ”هي احدى المنازل التي توقّف فيها??
غير خافٍ انّنا لا نمتلك ماينفي احتمال مرور الموكب على مدينة “بعلبكّ”ولا سيما اذا ثبت مرورهم على مدينة “حمص”،حيث من المحتمل قويّاً ان تكون “بعلبكّ”هي المحطة التالية “حمص”،الا ان الاحتمال لا يكفي في الاثبات كما هو واضح ،ما لم تعضده قرائن اخرى ترفع درجة الاحتمال الى مستوى من الوثوق يمكن التعويل عليه .
وبمراجعة المصادر الاساسية التي ارّخت لاحداث النهضة الحسينية وما جرى بعد واقعة كربلاء ،لا نجدها قد تطرّقت الى مرور موكب الاحزان على مدينة “بعلبك”،وانّما وردت الاشارة الى ذلك في كتابات بعض المتاخّرين التي لا يسعنا التعويل عليها واعتمادها في اثبات هذا الحدث ،لا لانّها مصادر غير متخصّصة فحسب ،بل لانّها ارسلت الكلام ارسالا ،واشتملت -بعضها على الاقل -على مضامين لا يمكننا قبولها ،لانّ علامات الوضع بادية عليها ،ولهذا قال الشيخ عباس القمي رحمه الله “اعلم انّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا فيها ام عبروا منها غير معلوم ولا مذكور في شيئ من الكتب المعتبرة ،بل ليس في اكثرها كيفية مسافرة اهل البيت عليهم السلام الى الشام .
واليك عرضا مُسهبا لما جاء في هذه “المصادر “التي ذكرت “بعلبك “باعتبارها احدى منازل الطريق الى الشام .
الشيخ حسين احمد الخشن ..
●-اولا :رواية العلامة المجلسي ..
اول ما يواجهنا على هذا الصعيد هو ما اورده العلامة محمد الباقر المجلسي (ت1111ه)في “بحار الانوار “نقلا عن بعض الكتب ،قال: “وفي بعض الكتب انهم لما قربوا من “بعلبكّ”كتبوا الى صاحبها فأمر بالرايات فنشرت وخرج الصبيان يتلقّونهم على نحو ستّة اميال ،فقالت ام كلثوم: اباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم ،ثم بكى علي بن الحسين عليه السلام وقال :
هو الزمان فلا تفنى عجائبُهُ
من الكرام وما تهدى مصائبهُ
فليت شعري الى كم ذا تجاذبنا
بصرفه والى كم ذا نجاذبهُ
يسري بنا فوق اقتابٍ بلا وطأ
وسابقُ العيسِ يحمي عنا غاربُهُ
كأنّنا من اسارى الروم بينهم
كانّ ما قاله المختار كاذبُهُ
كفرتم برسول الله ويْحَكُمُ
فكنتم مثل من ضلّت مذاهبُهُ.
وهذا “المصدر”لا يمكننا التعويل عليه ،اذ لا يبدو ان المجلسي نفسه على ثقة من امر الكتاب الذي نَقل منه،او انه محل اعتمادٍ عنده -فضلا على ان يكون حجة علينا-والا لسمّى الكتاب والكاتب ولم يلجأ الى اعتماد اسلوب الابهام والتجهيل ،كما تشي عبارته “وفي بعض الكتب “،وقد عرفنا من سيرة العلامة المجلسي في “بحار الانوار “انه لا يتبنى النقل من خصوص المصادر التي يراها معتبرة ،بل هو قد ينقل عن بعض المصادر التي صرّح بعدم اعتمادها ،او كونها قديمة .هذا من جهة ،ومن جهة اخرى ،فانه لا تصريح ولا دلالة على هذا النص على دخولهم مدينة “بعلبك”،اذ خروج الاهالي لتلقّيهم على نحو ستة اميال لا يدل على انهم دخلوا المدينة بعد ذلك،
●- ثانيا :رواية القندوزي ..
والكتاب الآخر الذي تحدّث عن مرور الموكب على “بعلبكّ”هو “ينابيع المودة لذوي القربى”للقندوزي ،وجاء فيه :”انّ ابن زياد دعا الشمر اللعين وخولي وشبث بن ربعي وعمر بن سعد وضمّ اليهم الف فارس وامرهم باخذ السبايا والرؤوس وامرهم ان. يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها”الى ان يقول :”ثمّ انهم قبل ان جاءوا بلدة “بعلبك”كتبوا الى واليها ان تتلقانا الناس وخرجوا على نحو ستة اميال فرحا وسرورا !!فدعت ام كلثوم عليهم وقالت :اباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من لا يرحمكم.. “،ثم يذكر نفس ما جاء في النص الذي تقدم نقله عن العلامة المجلسي .
وهذا النص لا يمكن التعويل عليه ايضا ،لان مؤلفه وهو سليمان بن. ابراهيم القندوزي الصوفي (ت1294 ه)متأخر جدا ،ولم يحدّد لنا مصدرا او مرجعا اخذ عنه هذا الكلام،وان كان التطابق او التقارب بين ما اورده وبين ما يُنقل عن ابي مخنف -مما سيأتي نقله-او ما نقله العلامة المجلسي رحمه الله عن “بعض الكتب”يدفعنا الى القول :انه اخذ هذا الكلام اما عن مقتل ابي مخنف مما سوف نبيّن قيمته العلمية لاحقا ،او عن بحار الانوار للعلامة المجلسي والذي عرفنا حال مصدره ،وعدم امكان التعويل عليه .
على ان النص -كما نلاحظ في مطلعه -يذكر ان عمر بن سعد كان من جملة الاشخاص الذين كُلّفوا باخذ السبايا والرؤوس الى يزيد ،وهذا امر لا تساعد عليه المصادر التاريخية ،كما سنشير في بعض تعليقاتنا على النص الآتي،
●- ثالثا: رواية عماد الدين الطبري..
والكتاب الثالث الذي تطرّق لمرور الموكب في “بعلبكّ”هو كتاب “كامل السقيفة”لمؤلفه عماد الدين الطبري( كان حيا سنة 698ه) ،واليك نصّ كلامه:
“ثم ان عبد الله بن زياد لعنهما الله اعطى الرأس الى زجر بن قيس ومعه رؤوس الشهداء من الأصحاب واهل البيت وقال :احملها الى يزيد بن معاوية ،ثمّ سيّر الامام زين العابدين واهل البيت الى الشام وجعل عليهم شمراً بن ذي الجوشن ومخفر بن ثعلبة ووضع الغلّ في عنق الامام زين العابدين وغلّوا يديه الى عنقه فكان الامام لا يفتأ في الطريق يتلو كتاب الله ويحمد الله ويثني عليه ويستغفره ولم يكلم واحداً من الأعداء قط الا اهل بيته .
وقيل :ان يزيد لما وقعت عينه على اولئك اللعناء قال :قد كنت اقنع وارضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ،اما أني لو كنت صاحبه لعفوت عنه.
وحملوا اهل البيت والامام السجاد على رواحل منهم ،لان القوم انتهبوا ثقلهم فلم يتركوا عندهم شيئا،ولما وصلوا الى يزيد رفع مخفر صوته مناديا :هذا مخفر بن ثعلبة اتى امير المؤمنين باللئام الفجرة .فقال الامام عليه السلام: ما ولدت امّ مخفر اشرّ وألأم ،وكان اللعناء يخشون من قبائل العرب ان تهيج عليهم والرأس معهم فيستلبونه منهم،فلم يسلكوا الطريق الاعظم وانما تنكّبوا الطراق( الطرق)حذرا من ذلك،فوصلوا الى قبيلة وطلبوا منهم علفا لدوابهم وقالوا :معنا رؤوس الخوارج نحملها الى الأمير،وهكذا ساروا بهذه الحجة حتى بلغوا “بعلبكّ”،فامر القاسم بن الربيع عامل البلد بتزيينه ،وحملوا الرأس الى البلد مع آلاف الدفوف والطبول والمزامير والشبّابات ،ولما علموا بان الرأس رأس الحسين خرج ما يقرب من نصف البلد واحرقوا الاعلام ومعالم الزينة والفرح ،وقامت الفتنة ايّاما على ساق في البلد ،وهرب الذين معهم الرأس من البلد سرّا .
ووصلوا الى اول بلد من بلاد الشام وكان الوالي عليه الملعون نصر بن عتبة ،فاظهر الفرح والاستبشار وزيّن البلد وقضى الليل كله بالرقص والغناء ،فخرجت سحابة سوداء ارعدت وابرقت واحرقت معالم الزينة كلها ،فقال عمر بن سعد وشمر لعنهما الله :هؤلاء قوم اهل نحس وشؤم فخرجوا منهم الى ” ميّافارقين”فاختصم كبار البلد بينهم كل واحد يريد دخول الرأس من بابه ،لانه عاقد الزينة فرحا به ،فوقع بينهم قتال،وقتل الآلاف من الطرفين ،فبقي كلاب “الكوفة”هناك عشرة ايام ،ومن هناك انتقلوا الى “نصيبين”.
قاب منصور بن إلياس :رفعوا اكثر من الف علم استقبالا لرأس الحسين ،وكان راس الحسين معه فاراد ان يدخل البلد فتقهقر حصانه فاقبلوا بعدة افراس له فلم تتقدم ،فبينما هم كذلك اذ وقع راس الحسين من اعلى الرمح وكان ابراهيم الموصلّي في القوم فاحتاط للرأس ،لانه عرف راس الحسين فلام الناس وقتله الشاميّون ،فاخرجوا الرأس خارج حدود البلد وراحوا ينثرون المال على الناس بحيث يعسر شرح ذلك ،فارتفع في اليوم الثالث تراب وغبار حتى اسودّت الآفاق فساء بهم ظن الناس وقالوا: ان بقيتم ها هنا قتلناكم فخرجوا منهم الى مدينة ” شبنديز” فتعاهد الناس فيما بينهم ان لا يعطوهم مؤنة لهم ولا لدوابّهم وان اضطرّتهم الحال الى القتال قاتلوهم.
ولما علم الكوفيّون بواقع الحال هربوا ليلاً فتعقّبهم اهل البلد يلعنونهم ويسبّونهم حتى بلغوا حافّة الفرات ،فساروا على الشاطئ وقطعوا قرية قرية حتى دنوا من دمشق اربعة فراسخ ،فكان الناس يقدمون لهم النثار والهدايا وظلّوا على باب المدينة ثلاثة ايام حتى يزيّنوا البلد ،فزيّنوه بكل ما عندهم من حُليّ ورياش وزينة الى درجة لم يشابهها بهذه الزينة قبل اليوم،وخرج ما يقرب من خمسمائة الف ما بين رجل وامرأة والدفوف بايديهم واخرج امراء القوم الطبول والكوسات والابواق والدفوف وراحوا بالآلاف يرقصون نساءً ورجالاً على اصوات الدفوف والطبول والربابات وكان (هكذا في النص)النساء قد اختضبن واكتحلن ولبسوا (لبسن )الحُليّ والحُلل ،وذلك يوم الاربعاء السادس عشر من ربيع الأول .
ولمّا اشرقت الشمس أدخلوا الرؤوس الى البلد ولم يصلوا الى بيت يزيد الا وقت الزوال لكثرة الناس ،وكان يزيد لعنه الله قد اعتلى عرشه وهو ” تخت مرصع” وزيّن القصر والمجلس بانواع الزينات ووضع كراسيّ الذهب والفضّة عن اليمين وعن الشمال ،وخرح الحجّاب وادخلوا اللعناء الذين رافقوا الرؤوس فسألهم يزيد لعنه الله فقالوا: انقذنا دولة الأمير من تدمير آل ابي تراب ،وقصّوا عليه الحكاية ،ووضعوا بين يديه رؤوس اولاد النبي (ص)،
●- رابعا :مقتل ابي مخنف ..
والمصدر الخامس الذي ورد فيه الحديث عن محطة “بعلبكّ”كإحدى محطّات المسير التي سلكها الركب الحسيني في طريقه الى الشام هو مقتل ابي مخنف “لوط بن يحيى الازدي “المُتوفَى في القرن الثاني للهجرة ،فقد نُقل عن أبي مخنف انّه قال :”ثمّ أَتوا “بعلبكّ”،وكتبوا الى صاحبها أنّ معنا رأس الحسين عليه السلام ،فأمر الجواري ان يضربن الدفوف ونُشرت الأعلام وضُربت البوقات ،وأخذوا الخَلوق (الطيب) والسكر والسويق وباتوا ثملين ،فقالت أم كلثوم :ما يُقال لهذا البلد ?فقالوا :” بعلبكّ” ،فقالت: أباد الله خضراتهم ،ولا أعذب الله شرابهم ،ولا رفع أيدي الظلمة عنهم.. ”
اقول :مع التسليم باشتمال مقتل “أبي مخنف”المتداول على العبارة المذكورة،فإنّ ذلك لا قيمة له،لا لأنّ “أبا مخنف”لا يُعتدّ بقوله ،أو لا يُحتجّ بكتبه ،كيف وهو “من رؤساء أهل الأخبار ،وكلّ مَن ألّف في التاريخ نقل عنه وأخذ منه”،بل لأنّ النسخة ،بل قل :النسخ المتداولة من كتابه “مقتل الحسين عليه السلام لا يوثق بصحّتها ،وقد عبثت بها الأيدي ،وتعرّضت للتزوير واشتملت على “المطالب المنكرة غير الصحيحة “والأخطاء التاريخية الفاحشة بحيث يُقطع بعدم صدور الكتاب عن ابي مخنف ،وهذا ما جزم به جَمْع من المحقّقين والباحثين،
●- خامسا :كلام منسوب الى ابن شهر آشوب..
وقد نسب بعض الكتّاب إلى ابن شهر آشوب أنّه نصّ على مرور الموكب في مدينة “بعلبكّ”،وأنه قد تمّ بناء مسجد في الموضع الذي وضع فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام ،قال: “وقصّة هذا المسجد ذكرها ابن شهر آشوب :وملخّصها :أنّه “لما حمل جند الأمويين رأس الحسين عليه السلام الى دمشق ،مرّوا ب “بعلبكّ” فاستقبلهم سكانها مهلّلين فرحين بقتل الخوارج :وأقام الجيش في رأس العين ،يرتوي ،ويطلب الراحة،لكنّ السيدة زينب ابنة علي بن ابي طالب عليه السلام ،كشفت حقيقة الأمر للسكان ،وعرّفتهم أنّ القتلى هم آل بيت رسول الله (ص)،فانقلب أهالي “بعلبكّ”ضدّ جند يزيد وهاجموهم يريدون اخذ الرؤوس ودفنها ،ولما فشلوا ،عبّروا عن وفائهم ببناء مسجد في الموضع الذي نُصبت فيه الرؤوس ،وأَسْمَوْهُ”مسجد الحسين”وظلّ متواضعاً حتى تسلطن الظاهر بيبرس البندقاري (658-676ه)،فأمر بعمارة المسجد وتوسيعه.. “.
ولكنّ هذه النسبة لا تصحّ ،ولم يحدّد لنا الكاتب المذكور وهو الباحث الأكاديمي ،مصدر كلامه ولا أين ذكر ابن شهر آشوب المازنداني ذلك?! كما أنّنا لم نجد احداً من المؤرخين أو الباحثين والذين تحدّثوا عن حركة الموكب الحسيني من الكوفة الى الشام قد نقل عن ابن شهر آشوب شيئاً عن ذلك ،والأهم من ذلك كلّه أنّنا وبمراجعة كتاب “المناقب “لابن شهر آشوب لا نجده قد تعرّض أو أشار لمرور الموكب على “بعلبكّ”اطلاقاً !ولا ذكر “مشهد الرأس “في “بعلبكّ” عندما تحدّث عن المشاهد التي بُنيت باسم “مشهد الرأس “في العديد من البلدان ،ابتداءً من “كربلاء الى عسقلان وما بينهما في الموصل ونصيبين وحماه وحمص ودمشق،
●- سادسا :مشهد رأس الحسين عليه السلام ..
وقد يعدّ وجود المسجد المذكور او ما عُرف بمشهد رأس الحسين عليه السلام شاهدا على مرور الموكب في “بعلبكّ” ،بل انّ وجود المشهد المذكور هو الشاهد الوحيد -بحسب الظاهر-الذي عوّل عليه بعض الباحثين في اثبات مرور السبايا على مدينة “بعلبكّ” ،وذلك في خارطة الطريق التي رسمها لموكب السبايا والرؤوس منذ أن غادروا أرض المعركة في كربلاء حتى وصولهم الى دمشق.
الا انّ هذا الشاهد لا يمكن الوثوق به ،لأنّ المشهد المذكور لا نجد له ذِكراً في أيّ من المصادر التاريخية او كتابات الرّحالة او علماء البلدان او غيرهم ممّن سيأتي ذِكرهم ،بمن في ذلك صاحب “تاريخ بعلبكّ” “ميخائيل ألوف”،وهو الذي تحدّث قبل قرن ونيّف عن مساجد “بعلبكّ” ومزاراتها ،ومنها مقام “السيدة خولة “كما سيأتي ،ومجرّد أن يشتهر في الآونة الأخيرة في منطقة “بعلبكّ” أنّ هذا المشهد هو مشهد للرأس الشريف فهذا لا يشكّل قرينة إثبات ،ما لم يثبت امتداده التاريخي ،وهو شرط ضروري للتأكّد من مصداقيّة أي مقام او مشهد من هذا القبيل ،كما فصّلنا ذلك سابقا ،ومن العجيب أنّ الباحث المذكور قد اصرّ على أنّ هذا المسجد هو مشهد رأس الحسين عليه السلام مرتكبا ً مصادرة واضحة لم يأتِ بما يثبتها او يؤكدها ،مع أنّه اعتمد في تحديد حركة موكب الأحزان على مصدر في غاية الأهميّة وهو كتاب السائح الهروي (ت611ه)الذي سجّل فيه-بحسب الباحث نفسه-بخبرة وبصيرة ووصفٍ دقيقٍ المشاهد التي بنيت باسم مشهد رأس الحسين عليه السلام ،ولكن الهروي وهو “حلبي المسكن”لم يأتِ على ذكر أي مشهد في “بعلبكّ”،ولو كان موجوداً في زمانه لما اغفله ،لانّ كتابه “الإشارات الى معرفة الزيارات “وضع بهدف التعريف بالمزارات المنتشرة في بلاد الشام ومصر والعراق ،والرجل لم يعتمد فيما سجّله من مزارات على النقل والسماع ،وإنّما اعتمد على المعاينة ،لأنّه كان سائحا جوّالا كاد -كما قيل – ان يطبّق الارض بالدوران برّاٍ وبحرا وسهلا ووعرا حتى ضُرب به المثل ،فقال جعفر بن شمس الخلافة في رجل :
قد طَبّق الأرض من سهلٍ وجبلٍ
كأنه خطُّ ذاك السائح الهروي
وعليه ،فكيف يُغْفل الهروي ذكر هذا المشهد??!! الّا اذا كان غير موجود في زمانه،وأمّا تبرير إغفاله له بأنّ المشهد -فيما يبدو بعيدٌ-عن المدينة لا يراه السائح كالهروي ،فهو تبرير ضعيف ،بل لا يخلو من غرابة ،لسببين :
أحدهما :أنّ دعوى بُعد المشهد عن مدينة “بعلبكّ” غير دقيقة ،لأنّه على أبعد التقادير يبتعد عن المدينة بمئات الأمتار ،وربما أنّ بناءه عالٍ ومرتفع ،فمن الطبيعي ان لا يخفى على كلّ من كان داخل المدينة.
وثانيهما: انّ الهروي ليس سائحا عابراً،فهو خبير ولديه عناية خاصة بمعرفة المزارات ،وهو بصدد التأليف في هذا المجال ،ولذا حتى لو فرضنا أنّ رجليه لم تطأْ أرض “بعلبكّ”،فلا بدّ أن يسمع بأمر هذا المشهد لو كان موجودا بالفعل .
ثمّ إنّ القضية لا تتوقف عند عدم تطرّق خصوص الهروي لأمر هذا “المشهد”،فكافة المؤرخين والبُلدانيين والرحالة والعلماء المهتمّين بالبحث عن المقامات الدينية ممّن مروا على “بعلبكّ”وتسنّى لنا الوقوف على كلماتهم لم يتحدّثوا -ولو بإشارة عابرة – عن هذا”المشهد “،كما سنلاحظ كلماتهم فيما يأتي ،ممّا لا نستطيع تقديم تفسير مقنع له الا تفسيرا واحدا وهو عدم وجود هذا “المشهد ” في زمانهم.
والأغرب من ذلك أن يتّهم الباحث المذكور “الظاهر بيبرس”وابنه بأنّهما سعيا الى طمس حقيقة هذا المشهد بإسباغ صفة المسجدية عليه. دون أن يأتيَ على دعواه بأيّ دليل او شاهد يعضدها !!
والخلاصة: إنّ الشواهد لا تسعفنا على تأكيد مرور موكب الأحزان على “بعلبكّ”،وإن كان ذلك محتملا ،اذ ليس لدينا ما ينفي ذلك ،كما أسلفنا.
●- في بناء المقامات الدينية
(صفحة 96..97..98..99)..
●- محاكمة النص المذكور سابقا..
هذا هو نص عماد الدين الطبري نقلناه بتمامه ،ليتسنّى للقارئ الكريم ان يتابع معنا تقويمه ومحاكمته ،والحقّ يقال :ان ادنى تامل في هذا النص يكشف أنّه مليئ بالاخطاء التاريخية وغيرها ،ولا نجافي الصواب اذا قلنا : ان علامات الوضع بادية عليه ،ووضع ايّ نص لا يعني اتّهام مؤلفه بالوضع ،كيف وهو عالم كبير وفقيه متكلّم جليل الشان ،فربّما وضعه آخرون ووثق بكلامهم فسجّله في كتابه،او ربما أُضيف على كتابه فيما بعد ،وكم له من نظير ،وكيف كان،فان النص الآنف -كغيره من النصوص -يعطيك صورة واضحة عن ذهنية صاحبه ودقّته،ويبدو ان صاحب النص ضعيف للغاية في المعلومات التاريخية والجغرافية .
وفيما يلي نشير الى بعض هذه الأخطاء التي اشتمل عليها النص المذكور مما لا يمكن التغاضي عنها :
اولا :انه وبعد وصول الموكب الى بعلبك وانكشاف حقيقة الأمر وانقلاب اهل البلد اي -بعلبك – على الجلّادين ،فانّ القوم سارعوا الخطى للخروح منها ،ليصلوا -كما يقول النص – الى ” اول بلد من بلاد الشام ” ،وكأنّ “بعلبك” خارج بلاد الشام !واللافت ان هذه البلد عليها والٍ ،وهو نصر بن عتبة ،وهو امر مثير للاستغراب ايضا ،اذ ليس بين “بعلبك” و”دمشق” بلدة كبيرة تحتاح الى تنصيب والٍ خاص عليها !ولم يُسمِّ لنا النص هذه البلدة التي وصلوها ،وانّما وصف لنا حالها وانّها استقبلتهم بالرقص والغناء والسرور الذي لم يكتمل بسبب ظهور معجزة،وهي سحابة سوداء اضطرتهم للخروج منها ،ومن الطبيعي ان نتوقّع انّ الموكب بعد خروجه من هذه البلدة قادما من “بعلبكّ”ان تكون محطته اللاحقة هي المحطة الأخيرة ليدخل بعدها الى”دمشق”او ضواحيها القريبة ،ولكنّ المفاجأة التي تبرز امامنا هي انّ الموكب يظهر فجأة في “تركيا”وفي بلدة “ميافارقين”،ثم ينتقل منها الى “نصيبين”وهي مدينة تقع في “تركيا “ايضا ،مع انّ النص يفترض هذه المدن شامية! ،ثمّ يتحرك الموكب في رحلته العجائبية ليصل الى بلدة اسماها ب “شبديز”،وهذا الاسم يُطلق على موضعين :احدهما: قصر عظيم للمتوكل العباسي في سُرّ مَن رأى (سامراء)،والآخر :منزل بين “حلوان”و”قرميسين “في لحف جبل بيستون سُمّي باسم فرس كان لكسرى ،بعد ذلك يظهر الموكب على “حافة الفرات”،ليسير على الشاطئ ويقطع قرية قرية حتى يدنوَ من “دمشق”!!!
ان علامات الاستفهام والاستغراب التي يمكن تسجيلها على هذا المسير الذي افترضه النص كثيرة ولا تخفى على القارئ الحصيف ،وهي في المحصلة تورث القناعة بوضعه ،وتبرهن على انّ صاحب هذا النص جاهل بجغرافيا بلاد الشام والمنطقة ،ولذا لم يكن موفّقا في هذه القصة التي نسجها من محض الخيال .
ثانيا :ترد في النص مجموعة من الاسماء ذات المكانة -كما يفترض النص-في جهاز السلطة الأموية آنذاك ،ومع ذلك لا نجدها مذكورة الا في كتاب “كامل البهائي”،الأمر الذي يثير الريبة ،كما هو الحال في “القاسم بن الربيع”عامل السلطة في “بعلبكّ”،و”نصر بن عتبة”الوالي على “اوّل بلد من بلاد الشام “!!!.
كما ترد في النص اسماء شخصيات لا نعرف عنها شيئا ،منها :”ابراهيم الموصلي “،ومنها :”منصور بن الياس “،والأخير سوف يظهر في احدى المحطات التركية “نصيبين “ويظهر راس الامام الحسين عليه السلام معه ،مع ان ابن زياد قد عهد -حسب النص – الى”مخفر بن ثعلبة “بحمل الرأس !!.
ثانيا :يتحدث النص عن وقوع احداث جسيمة ،بعضها ذات طابع اعجازي ،كظهور سحابة سوداء احرقت زينة البلد ،وبعضها احداث دموية ذهب ضحيّتها الآلاف من الناس ،او ادّت الى حصول فتنة في بعض البلدان استمرّت لأيام ،وهذه الاحداث على جسامها وتوفّر الدواعي لنقلها -على الأقل ممن كانوا في موكب من السبايا-لا نجد لها عينا ولا اثرا في سائر المصادر !!.
رابعا :يظهر من صدر النص ان ابن زياد قد سيّر الى الشام مجموعتين فهو أرسل رؤوس الأشهاد مع “زجر بن قيس “،وأرسل الامام زين العابدين عليه السلام ومعه النساء والأطفال مع “شمر بن ذي الجوشن “و”مخفر بن ثعلبة “،وارسال “ابن زياد”هاتين المجموعتين أمرٌ قد اكّدته كافة المصادر المعتبرة ،وهي ظاهرة في أنّ ثمّة فاصلا زمنيا بينهما ،اذ القافلة الأولى أُرسلت ومعها الرؤوس “لتبشر”يزيد بمقتل الحسين عليه السلام ،واما القافلة الثانية فقد تأخرت قليلا في “الكوفة”،واذا كان هدف المجموعة الأولى هو ابلاغ يزيد ب “البشرى”فمن الطبيعي ان تسلك اقرب الطرق الى “دمشق”،ما يمنع بحسب طبيعة الأمور ان تلتقي المجموعتان في الطريق،بل لا بدّ ان تصل المجموعة الأولى ( حاملة الرؤوس )في وقت اسرع من المجموعة الثانية التي يفترض انّها سلكت طريقا طويلا غير ما هو متعارف،لكنّ النص المتقدّم يفترض انّه عندما فرّ القوم من “بعلبكّ” ،بسبب ردة فعل اهلها الغاضبة ،فاذا بالقافلتين تلتقيان ،ليظهر “شمر بن ذي الجوشن “- الذي افترض النص اولا انّه كان مع موكب العيال -مع قافلة الرؤوس !الامر الذي يرفع من منسوب التشكيك في النص ويبعث على الإطمئنان والوثوق بأنّ ذاكرة واضع النص قد خانته مجدّدا!??
ولكن ربما يقال :ان حصول اللقاء بين المجموعتين اللتين انقذهما ابن زياد الى يزيد لم يتفرّد به عماد الدين الطبري في نصّه المتقدّم ،فهذا -اعني الإلتقاء في الطريق -يستفاد من عبارة الشيخ المفيد بشأن المجموعة الثانية :حيث قال :”فانطلقوا -اي المجموعة الثانية بقيادة “مخفر بن ثعلبة العائذي “و “شمر بن ذي الجوشن “-حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرّأس”.
ولكن التأمّل في كلام المفيد بأجمعه ولا سيّما المقطع الذي يسبق العبارة المذكورة يفيد بأنّ مجموعة الرّأس قد وصلت الى يزيد قبل إنفاذ المجموعة الثانية ،وبصرف النظر عن ذلك ،فلو كان المفيد يريد التأكيد على حصول اللقاء بين المجموعتين في الطريق لوردت عليه الملاحظة المتقدّمة التي سجلناها على كلام عماد الدين الطبري.
خامسا :ومن عجائب هذا النّص وغرائبه ظهور شخصيّة اخرى في الموكب في “اول بلد من بلاد الشام “بعد الخروج هربا من “بعلبكّ”،وهذه الشّخصيّة هي “عمر بن سعد “،فكيف تمّ التعتيم على هذه الشخصية في كلّ هذا المسير ليتمّ الحديث عنها في هذه المحطة ،مع انّها شخصية محورية وأساسية في كلّ احداث معركة كربلاء ?!فمن ارسله ?ومتى ? وكيف وصل الى “بعلبكّ” وما بعدها ?!انّ هذا أمر لا نجد له جوابا ،ولا نجد في المصادر الأخرى ما يؤيّده او يشير الى أنّ “ابن زياد “قد سيّر “عمر بن سعد”الى الشام !بل “الذي يظهر من التواريخ والسِير ان “عمر بن سعد”لم يكن مع القوم في سيرهم الى الشام “.
●- في بناء المقامات الدينية
( 104 105 106 107)
3-هل توفّي أحد افراد الموكب في “بعلبكّ”؟
ولنسلّم الآن بوجود خولة وبمرور الموكب في بعلبك ،لكنّ السؤال :ما الذي يثبت أنّ أحد أفراد الموكب وتحديداً بنت الإمام الحسين عليه السلام قد توفيت في هذه المحطة ،أو اجهضتها أمّها نتيجة العناء والأذى ودفنت في بعلبكّ؟
من سوء حظّنا او حظّ المصريين على صدقية المقام المذكور أنّنا لا نستطيع الإجابة على هذا التساؤل إلا بالنفي ،حيث تواجهنا حقيقة لا لبس فيها ،وهي خلو المصادر ذات الصلة( بصرف النظر عن ضعف هذه المصادر ممّا سبق الحديث عنه)من أدنى اشارة الى وفاة أحد أفراد الركب في محطة “بعلبكّ”،صغيرا كان او كبيراً،ذكراً او انثى ،سقطا او مولودا ،باسم خولة او باسم آخر ،وهذا أمر ليس طبيعيا أن تغفله الروايات التي تحدثت عن هذه المحطة في رحلة الموكب ،بل إنّه وفي ظلّ توفر الدواعي القوية لنقل القصة ،ولا سيّما لدى تيّار المعارضة ،كونها حادثة تدين السلطة الأموية وتظهر فداحة المظلومية التي تعرّض لها أهل البيت عليهم السلام فلا يمكن ان نفهم هذا السكوت إزاء هذه الحادثة سوى اعتباره علامة سلبية تؤشر الى عدم حدوث شيئ من هذا القبيل ،وقديما قيل :لو كان لبان.
4-ماذا عن المقام ؟
ولكن الّا يشكّل وجود المقام نفسه وشهرة انتسابه الى السيدة خولة بنت الحسين عليه السلام دليلا كافيا لاثبات وجود هذه الشخصية ودفنها في تلك المنطقة؟وبعبارة اخرى ،ألا تصلح الذاكرة الشعبية المتلقاة جيلا بعد جيل مستندا لإثبات وجود “خولة “ودفنها في “بعلبكّ”؟
والجواب: إنّ ذلك لا يمكن التعويل عليه ،لأنّ الشهرة،على فرض تحقّقها ،فهي محدودة ببعض أهالي المنطقة ،هذا من جهة،كما أنّها من جهة أخرى لا تملك امتداداً تاريخيا يؤهلها إلى درجة الإثبات والإعتداد بها في إثبات صدقيّة المقام،والخلاصة: إنّ محدودية الشهرة جغرافيا وزمنيا يُفقدها قيمتها العلمية الإثباتية .
وأما الذاكرة الشعبية لأهالي تلك المنطقة فلا يسعنا اتخاذها مستندا لإثبات صدقيّة المرقد وانتسابه الى السيدة “خولة”الّا اذا ثبت أنّ هذه الذاكرة ليست وليدة العصور المتأخرة ،وانتفت القرائن والشواهد المعاكسة لها،ومن الواضح أنّ هذه الذاكرة لا تملك امتدادا تاريخيا،ولا سيّما في ظلّ المتغيّرات السكانيةوالديمغرافية التي شهدتها مدينة “بعلبكّ”وجوارها في مراحل عديدة من تاريخها ،وما الذي يمنع أن يكون تشكّل الذاكرة المشار إليها قد انطلق من بعض الاعتبارات العاطفية او غيرها،كقصة المنام الآتية ،كما رأينا ذلك في بلدان أخرى ،حيث تستولد الذاكرة الشعبية عشرات الأبناء والأحفاد إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام ،ومن ثم تُبنى لهم مقامات لا أساس لها من الصحة .
ثمّ لو كان لهذه الذاكرة امتداد تاريخي يعبّر عن حقيقة واقعية فلماذا تمّ إغفالها والتعتيم عليها في شتّى المصادر والمراجع ذات الصلة؟!ولِمَ لم يعبأْ بها كلّ العلماء الذين ستأتي الإشارة اليهم !??
على أنّ ثمّة ملاحظة هامة في المقام وهي أنّ هذه الذاكرة لا تنسب إلى موكب سبايا اهل البيت عليهم السلام طفلة واحدة قد توفيت في بعلبم وهي خولة ،وإنما تَنْسب إلى هذا الموكب خمسة أفراد آخرين قد قضوا في منطقة صغيرة هي منطقة البقاع اللبناني، ومع ذلك كلّه ورغم فداحة الخطب وعظيم المأساة فلا يشير أحد من العلماء والمؤرّخين والرّحالة… إلى شيئ من هذه الأحداث الجسيمة ،او ينقل لنا اسماء الذين قَضوا في هذه المنطقة ،او مقاماتهم ومشاهدهم!!
الاشارة الأولى الى المقام ..
ونحن-بحسب ما وسعنا التتبع -وجدنا أنّ اول إشارة لهذا المقام وردت في كتاب “تاريخ بعلبك”لمؤلفه ميخائيل موسى ألوف ،قال وهو يعدّد المزارات الموجودة في هذه المدينة: “ومزار “خولة”للشيعة( المتاولة)،وهي ابنة الحسين ابن علي بن ابي طالب عليهما السلام،قيل :لما سُبي اهل البيت عليهم السلام في زمن الأمويين وأُتي بهم دمشق مروا ب “بعلبك”،فماتت خولة فيها ودُفنت فيها ،وفي دار مزارها شجرة سروٍ قديمة العهد جدا”.
ولا يخفى أنّ “ألوف”أسند كلامه الى القيل مُعفيا نفسه من تحمّل مسؤولية المعلومة ،ونخال أنّه استمدّها من الأحاديث الشعبية السائدة آنذاك في “بعلبكّ”،والمستغرب ان بعض الكتاب المعاصرين ممّن كتب حول تاريخ “بعلبكّ” تكلم عن دفن خولة في “بعلبكّ”بلغة القطع والجزم وحدّد عمرها بستّ سنين ،دون أن يأتي بدليل على كلامه أو يشير الى مصدر عوّل عليه في ذلك ،والظاهر أنّه هو الآخر استند الى الرواية الشعبية المنتشرة في مدينة “بعلبكّ”.
وفي هذه المرحلة الزمنية كتب الشيخ صادق زغيب أبياتا من الشعر تؤرّخ إعمار المقام .
●- في بناء المقامات الدينية
(صفحة 10..108.109.110.112.113)
عمر المقام…
●- ولا نخال أنّ عمر هذا المقام يزيد على قرنين من الزمن ( وربما ثلاثة قرون على فرض صحة بعض الوقفيات أو الصور الفوتوغرافية )،واذا ما كان موجودا فهو غير معروف ولا يشار اليه بالبنان ،ومستندنا فيما نقول هو تتبع المصادر ذات الصلة بتاريخ “بعلبك”،حيث لا نجد أيّة اشارة الى مقام او قبر يُعزى الى احدى بنات الحسين عليه السلام ،واليك توضيح ذلك:
أولا: بمراجعة كتب العلماء البلدانيين ،نجد انّ شيخهم ياقوت الحموي لم يأتِ على ذكر قبر”خولة” أو مقامها ،مع أنه قد وصف “بعلبك”،وتحدث عن قبور بعض الشخصيات فيها ،مصححا وناقدا ،فتحدث عن قبر مالك الأشتر ،نافيا صحته،على اعتبار أنّ الأشتر مات في “القلزم”،وتحدث عن قبر يقال :إنّه ل “حفصة بنت عمر“ زوجة النبي (ص)،ونفى ايضا صحته،باعتبار ان “حفصة “زوج النبي (ص) ماتت في المدينة المنورة وقبرها معروف هناك ،وأكّد أنّ القبر المشار اليه هو ل”حفصة”اخت “معاذ بن جبل “،وكذلك ذكر أنّ فيها -أي “بعلبك”-قبر “إلياس”النبي ،وبقلعتها مقام “إبراهيم”،وبها قبر “إسباط “،ولكنّه لم يأتِ على ذكر قبرٍ منسوب إلى إحدى بنات الحسين عليه السلام او مشهد لرأسه الشريف .
واللافت للنظر أنّ “الحموي”قد حدّثنا عن مشهد السقط “محسن بن الحسين”في مدينة “حلب”،والذي يُحكى انّ أمه اسقطته عند مرور الموكب فيها ،فلِمَ لا يتحدث عن مشهد خولة في “بعلبك”لو كان موجودا في زمانه !?واذا كان بعض امراء الشيعة قد اهتموا ببناء مشهد السقط “المحسن”منذ ما يقرب من ألف عام ،فلِمَ لم يهتموا ببناء مشهد “خولة ” لو كانت موجودة بالفعل ?!لا أريد بهذا الكلام ،تأكيد وجود السقط المحسن ،او الجزم بالحادثة التي تُذكر بشأن اجهاضه ،فهذا أمر يحتاج الى متابعة بحثية ،وانما اريد بذلك التنبيه الى ان قصّة خولة -مولودة كانت أو سقطا-ليس لها امتداد تاريخي ،والّا لاهتمّ بها الشيعة وبنوا لها مقاما ،كما فعلوا ذلك في “حلب”وربما غيرها.
وثمة تساؤل آخر يُطرح في هذا المقام ،وهو أنّه وبناء على أنّ خولة بنت الحسين عليه السلام كانت سقطا ،،كما أنّ المحسن بن الحسين عليه السلام هو الآخر سقطٌ،فهل أن) ام السقطين واحدة وكانت تحمل توأما ،وقد اجهضت احدهما في “حلب”والآخر في “بعلبك”?ان هذا امر مستبعد جدّا ،او أنّ الأم مختلفة? وهذا يفترض ان يكون الامام الحسين عليه السلام قد اصطحب معه في تلك الرحلة اكثر من زوجة ،وهذا امر بحاجة إلى اثبات.
ثانيا: وهكذا لا نجد شيئا على هذا الصعيد في كتب الرحالة (وهي من أهم المصادر في هذا المجال)الذين مروا على بعلبك ،او ما جاورها من البلدان،ومنهم ابن جبير في رحلته المعروفة ،وكذلك الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي( ت1143ه)في رحلتَيْه :”حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز”و”الرحلة الطرابلسية”، وهاتان الرحلتان للنابلسي في غاية الأهمية في بحثنا ،ليس لأن النابلسي رجل خبير ودقيق،وهو من أهل المنطقة -أقصد بلاد الشام -فحسب ،بل لأنّه في الوقت عينه كان صوفي الهوى ومهتما بالمقامات الدينية،وزيارتها تعني له الكثير،كما يبدو واضحا من رحلتيه المذكورتين واللتين مرّ فيهما علئ بعلبكّ ووصف مزاراتها وقلعتها ومساجدها،وقد زار فيها مقام الشيخ عبدالله اليونيني ،كما زار”النبي شيث”و”كرك نوح”و”النبي ايلا”،الى غير ذلك من البلدان التي قصدها بهدف زيارة مقامات الأنبياء والأولياء المنتشرة فيها،ولكنّه لم يُشر اطلاقا إلى مقام يُنسب الى خولة بنت الحسين عليه السلام ،او مشهد يُعزى الى رأس الحسين عليه السلام.
وثمّة رحّالة آخر متقدّم زماناً على النابلسي وهو الشيخ ابن محاسن (1053هـ)وقد مرّ على بعلبكّ وبلادها وزار الكثير من القبور والمقامات فيها ومع ذلك لم يُشر الى مقام السيدة خولة او مشهد الرأس .
ثالثا :وبمراجعة كتب المؤرخين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ،نجد صمتاًمطبقا إزاء خولة ومقامها ،ولو على سبيل تسجيل الملاحظة النقدية من بعضهم لظاهرة معينة،كأن يتمّ الحديث عن أنّ للشيعة مقاما يزورونه ويتبرّكون به.
رابعا: ولا نجد ذكرا لهذا المقام او سعيا للتعرفّ عليه عند علماء الشيعة قاطبة ،ولا سيما علماء بلاد الشام ،كعلماء”حلب”و” الكرك”و”مشغرة”وغيرهم من علماء جبل عامل ،مع أنّ الدواعي متوفرة عند هؤلاء وحاضرة أكثر من غيرهم ،فلم يذكر في سيرة احدهم انه زار مقام السيدة “خولة”،او تحدّث عنه،او حثّ الناس على زيارته ،حتى أنّ الفقهاء والعلماء الذين زاروا “بعلبكّ”أو اقاموا فيها مدّة من الزمن ،لم ينقل عنهم شيئ من ذلك ،ومن هؤلاء الشيخ حسين عبد الصمد العاملي الجبعي (ت948هـ)والذي اقام مدة في “بعلبك”وولد له ابنه الشيخ البهائي،وكذلك ،فان الشهيد الثاني زين الدين الجبعي (ت966هـ)أقام مدة في بعلبك ودرّس على المذاهب الخمسة في مدرستها النورية،ولم يُنقل عنه شيئ يرتبط بزيارة السيدة خولة،مع انه قد زار “مشهد شيث”عليه السلام عندما كان في بعلبك واستخار فيه لبعض اموره ،كما نقل تلميذه ابن العودي.
وقد مرّ على بلاد بعلبك و”جبل عامل”في عام 1221هـ العالم الحجازي الشيخ ابراهيم بن مهدي آل عرفات واسهب في الحديث عن قبور الأنبياء الموجودة فيها ،وسجّل الكثير من المشاهدات الهامة عن هذه المقامات وما هو مكتوب على جدرانها وما يقوله الناس عنها ،ولكنّه لم يأتِ على ذكر هذا المقام لا من قريب ولا من بعيد.
ويستمرّ هذا السكوت الى ما يقرب من زماننا ،حيث لم يُنقل انّ احدا من اعلام الإمامية قد زاره ،من امثال السيد”أبو الحسن الأصفهاني (ت 1365هـ)”والشيخ عبد الله نعمة (1219هـ-1303هـ)،وغيرهم من العلماء،واما التقاط صورة للسيد عبد الحسين شرف الدين (ت 1377هـ)أمام هذا المقام مع جمع من الأعيان فهو لا يدل على تبنّيه للمقام او اقراره بوجود السيدة خولة،كما لا يخفى.
خامسا :لم نجد أنّ احدا من العلماء المهتمين بالبحث عن المراقد والمزارات والمشاهد المشرّفة أشار الى هذا المقام او القبر او مشهد الرأس ،مع انّ ذلك من صلب اهتماماتهم ،ويأتي على رأس هؤلاء العلامة البحّاثة الشيخ محمد حرز الدين (ت1365هـ) ،فقد ألّف كتابا قيّما في الرجال اسماه “معارف الرجال ” ،وآخر حول المراقد والمقامات والقبور أسماه “مراقد المعارف”وتحدّث في كتابه الثاني عن المراقد المنتشرة في البلدان الاسلامية عامّة سواء كانت هذه المراقد لشخصيات شيعية أو غيرها ،وقد سجّل في كتابه هذا وصفاً لبعض المقامات الموجودة في بعلبكّ ،ومنها مرقد حفصة بنت معاذ بن جبل ،وأشار الى قد سئل عن هذا القبر ( فلعله مرّ في بعلبك) ،ونقل كلام ياقوت الحموي في معجم البلدان وما ذكره بشأن المقامات التي تضمها المدينة. ،لكنّه لم يُشر الى قبر خولة او مشهد رأس الحسين عليه السلام ،مع أنّ ذلك من صلي اهتماماته ،وبالرغم من أنّ المقام -مقام السيدة خولة -كان مشيدا في زمانه ، ولا نجد تفسيرا لهذا الاعراض عن ذكره الا عدم اعتنائه به،او كونه مغمورا بحيث لم يسمع به.
وهكذا نجد أنّ العلامة السيد محسن الأمين قد أهمل ذكر هذا المقام ،وهذا مع انّ السيد الأمين -وهو العالم العاملي والخبير الموسوعي -قد كان هو الآخر مهتما بالحديث عن بلدان الشيعة وما فيها من آثار ومشاهد ومعالم ،مع أنّه قد تحدّث عن مشهد “رقية بنت الحسين عليه السلام “في محلّة العمارة بدمشق ،ونراه أيضا تحدّث في غير واحد من كتبه عن “بعلبك” وقلعتها وآثارها وعن رموز التشيّع فيها وعن امرائها الشيعة وسادتها ونقبائها الأشراف من آل مرتضى..
ولكنه لم يتطرق الى هذا المقام اطلاقا،بل تجاهل الإشارة اليه ،ولم يعبأ به ،مع انه كان -بالتأكيد-مبنيا في زمانه.
سادسا: لم نجد احدا من علماء التراجم الذين كتبوا في سيرة المعارف والشخصيات الشيعية من ذوي الشأن العلمي او الديني او الادبي سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الأطفال قد تحدّث عن خولة بنت الحسين عليه السلام ،مع ان هؤلاء -أي علماء التراجم -قد دوّنوا في كتبهم أسماء شخصيات اقلّ شأنا من “خولة بنت الإمام الحسين عليه السلام”،فلو كانت “خولة”هذه شخصية حقيقية ،فكيف غفل عنها هؤلاء او أغفلوا ذكرها في كتبهم ?!
سابعا :وأضف الى ذلك كلّه أنّ بلاد الشام قد شهدت قيام دول وإمارات شيعية متعددة وفي فترات زمنية مختلفة،منذ حكم الفاطميين ،وما تلا ذلك من دويلات شيعية انتشرت في بلاد الشام ،كدولة بني عمّار في طرابلس ،وإمارة الحمدانيين في حلب،والتي امتدّت الى بعلبكّ ،وإمارة آل حمادة في شمالي لبنان،وصولا الى الأمراء الحرافشة الذين حكموا في “بعلبكّ”نفسها لما يقرب من اربعة قرون ،ومع ذلك فلم ينقل في أيّ مصدر من المصادر أنّ شيعة بلاد الشام قد زاروا هذا المقام ولا سيّما في القرن الرابع الهجري وما بعده ،حيث انتشر التشيّع في بلاد الشام ،ولم يُذكر – ايضا- أنّ احدا من امرائهم قد ساهم في بنائه وتشييده ،كما هي عادة الكثيرين من الأمراء الشيعة ،هذا مع أنّ العلامة الأمين يذكر أنّ الأمراء الحرافشة “بنوا المساجد في بعلبكّ وغيرها “،وأنّ الأمير يونس الحرفوش بنى “جامع النهر “فيها، ويذكر الشيخ “آل عرفات “في كشكوله أنّ بعض أمراء الحرافشة بنى مقام “النبي ايلا”في البقاع ،ولكن لم نجد-بحسب التتبع-أنّ أحدهم بنى مقام “السيدة خولة “أو مشهد رأس الحسين عليه السلام !إنّ هذا إن دلّ على شيئ فإنّما يدل على عدم امتداد هذا المقام تاريخيا ،وأنّه مقام استُحدث في الأزمنة المتأخرة .
●- في بناء المقامات الدينية
(صفحة 113..114..115..116)
الحجر المنقوش ..
●- في ضوء ما تقدّم اتضح أنّه ليس ثمّة دليل يُعتدّ به يشهد لصدقيّة هذا المقام ،أو يثبت وجود “خولة بنت الحسين عليه السلام “،أجل يبقى في هذا المجال أمران قد يتمسّك بهما البعض لإثبات صدقية المقام المذكور ،والأمران هما:
الأمر الأول :هو الحجر المنقوش الذي بعث صورته مطران بعلبكّ قبل مائة عام الى الأب لويس شيخو اليسوعي ،ونشر الأب “رنزفال اليسوعي “الباحث في الكتابات الشرقية تلك الصورة في مجلة المشرق ،وبحسب رنزفال فانّ كتابة النقش “غير سهلة القراءة في بعض المواضع فضلا عن أنّها غير كاملة ،واليك -والكلام لرنزفال -ما أمكننا ان نقرأ فيها :”1-حسين بن علي ..(؟) رضي الله عنه 2- في ذي الحج[ ة]3-سنة سبع وسبعين وار[ بعمائة]4- رب اغفر له وارحم”.
وقد ذكر بعضهم ان النقش المذكور عُثر عليه في مدينة بعلبكّ وتحديدا “في مقابل”لوكندة عربيد”،يعني في المكان الذي يقع فيه مقام خولة اليوم”،الأمر الذي استنتج منه أنّ هذا هو شاهد قبر كان على “السيدة خولة”،وأنّ عوامل الزمان وعاديات الدهور أدّت الى تهديمه وتهشيم اطرافه .
الّا أنّ هذا الشاهد لا ينفع في إثبات وجود “خولة”وتصحيح نسبة المقام اليها ،أو الى إحدى بنات الإمام الحسين عليه السلام او احد ابنائه ،وقبل أن نسلّط الضوء على نقاط الضعف في هذا الشاهد (اي النقش ) لا بدّأن ننبّه الى انّ ما ذُكر من انّ النقش عُثر عليه في مقابل “لوكندة عربيد”اي في المحل الذي يقع فيه قبر “خولة”هو كلام لا وجود له في مجلة “المشرق”،ولم يرد في كلام “رنزفال”اطلاقاً،والإيحاء بأنّ هذا من تتمة كلامه مجانب للأمانة العلمية ،إنّ نص “رنزفال ” ليس فيه إيحاء بمكان العثور على النقش ،بل ليس فيه ما يشير بانّ النقش قد تمّ العثور عليه في مدينة بعلبكّ أساسا ،واستفادة ذلك من أنّ موقع المطرانية آنذاك يقع بالقرب من المقام هو استنتاج غريب ولا شاهد عليه ،لأنّ كون المرسل لصورة هذا النقش هو مطران بعلبك لا يعني اطلاقا أنّه عثر عليه في مدينة بعلبكّ فضلا عن ان يكون قد عثر عليه في مقابل المطرانية او بالقرب منها.
بالعودة الى النقش نفسه ،فإنّنا وبعد التأمّل في صورته نسجّل الملاحظات التالية:
اولا: مع ان “رنزفال”رجّح كون النقش هو نقش قبر ،الّا أنّ هذا الأمر يحتاج الى التثبّت منه من خلال الرجوع الى أهل الخبرة والإختصاص في مجال الآثارات القديمة ،اذ ربما كان النقش علامة موضوعة علئ عتبة مسجد من المساجد -مثلا-وسقطت بفعل العوامل المختلفة .
ثانيا :على فرض انه شاهد قبر ،فليس هناك ما يثبت انّ صاحب هذا القبر هو من ذرية الإمام الحسين عليه السلام المباشرين أو غير المباشرين ،لأنّ الصخرة التي اشتملت على النقش ان كانت مهشّمة من أولها وقد سقط من النقش شيئ فلا ندري ما هي الأسماء او الكلمات الساقطة التي توضّح لنا هوية صاحب القبر،وأما إذا فُرض أنّ الصخرة لم يسقط من رأسها شيئ فسيكون اسم صاحب القبر هو “حسين ابن علي “يرجع الى الإمام الحسين عليه السلام ،فهذا الإسم متداول بين المسلمين ولا سيّما الشيعة ،والترضي عليه بعبارة “رضي الله عنه”لا يستفاد منه أنّ اسم “حسين ابن علي”يرجع الى الإمام الحسين عليه السلام وأنّ المترضي عليه هو من اهل السنة ،أجل إنّ هذا الاحتمال إنّما يكون وارداً إذا ثبت سقوط اسم ما من اول النقش ،لكنّ هذا ليس واضحا من صورة النقش ولم يُشر اليه “رنزفال”اطلاقا. وفي أحسن التقادير فإنّ هذا مجرّد احتمال ضعيف لا يُبنى عليه .
ثالثا: ومما يبعث على مزيد من الشكّ في أن يكون المقصود بالإسم هو الإمام الحسين عليه السلام أنّ ثمة كلمة غير مفهومة في صورة النقش جاءت بعد اسم “علي”مباشرة ،وقد أشار “رنزفال ” الى ذلك بوضع عدة نقاط (… .)لانه لم يفهم الكلمة ،ويبدو انها من تتمة الإسم ،ومن المحتمل ان تكون هذه الكلمة هي “أسمر”،او ما هو قريب من ذلك ،ما يجعل من الراجح ان تكون إشارة الى عائلة صاحب الضريح،او انّها تتمة لاسمه ،لاحتمال ان يكون اسمه مركّبا.
رابعا :بالإضافة الى ما تقدّم ،فان ثمة عبارة وردت في آخر النقش هي ذات مغزى ودلالة هامة ،لأنها تسلّط الضوء على هُوُية الشخص الذي يرمز النقش اليه،والعبارة هي :”ربّ اغفر له وارحم”،فهذه العبارة تدلّ على أمرين في غاية الأهمية :
احدهما :إن صاحب الضريح هو ذكر وليس أنثى ،بقرينه تذكير الضمير في “له”وهذا واضح وجليّ.
ثانيهما :إنّ صاحب الضريح بالغ وليس طفلا ،لأنّ الرحمة والمغفرة الالهيتين ،انما تطلبان للبالغين لا للصغار ،كما هو معروف،لأن الصغار مطهّرون عن دنس المعاصي والذنوب ،بسبب رفع قلم التكليف عنهم ،فلا معنى لطلب المغفرة لهم .
وما نستنتجه مما تقدّم ليس فقط عدم ارتباط النقش المذكور ب “خولة”أو غيرها من بنات الإمام الحسين عليه السلام ولو كان ذكرا ،لأنه -كما هو معروف -لم يبقَ للإمام الحسين عليه السلام بعد معركة كربلاء ذَكَرٌ بالغ الّا علي بن الحسين عليه السلام ،ما يعني في المحصّلة أن اسم “حسين ابن علي “الموجود في النقش لا يُراد به الإمام الحسين عليه السلام ،بل رجل آخر،والله العالم.
●-في بناء المقامات الدينية.(116..117)
المنام والمقام ..
●- الأمر الثاني :هو المنام المتداول في بعض الأوساط في “بعلبك”وحدّثني به بعض علمائها وخلاصته :إنّ أحد الأشخاص من الطائفة السنية من “آل الخرفان “،ويقال :من “آل جاري”رأى في منامه طفلة تخبره أنها مدفونة في بقعة معيّنة من بستانه ،وأنّ السّاقية التي تحمل المياه تمرّ على قبرها فتؤذيها ،فحدّث الرجل بمنامه هذا أحد السادة من “آل مرتضى”،فحفر بدوره في تلك البقعة ،فوجد جثة طفلة صغيرة ،فاهتمّ لأمرها وقام بدفنها حيث المقام اليوم ،ولكن لا ندري من أسمى هذه الطفلة باسم “خولة” وأنهى نسبها الى الإمام الحسين عليه السلام ?فهل هي التي اخبرته في المنام باسمها ونسبها ?سنفرض أن الأمر كذلك ،ولكن هل يمكننا التعويل على هذا المنام في اثبات صدقيّة المقام ??
قد ذكرنا في الفصل الأول أنّ المنام ليس حجة شرعاً ولا يمكن التعويل عليه في إثبات صحة المراقد ،ولكن قد يقال :إنّ لهذا المنام. خصوصيّة تفرض علينا التصديق به والتعويل عليه ،لأن الواقع صدّقه ،وذلك بعد نبش القبر والعثور على جثّة الطفلة مطابقة لوصف الشخص الذي رآها في المنام.
لكن قصة المنام هذه تواجهها عدة ملاحظات وأهمها :
اولا: كيف لنا ان نتوثّق من صدق المنام وحصوله فعلا? اذ إنّ مجرد انتشار القصة اليوم لا يصلح دليلا على حصولها فعلا ،ولا سيّما مع معارضتها برواية شعبية اخرى منتشرة في منطقة بعلبكّ ايضا ،وهي رواية تقدّم لنا قصة أخرى لهذا المقام ،وهي قصة السقط ،ومفادها :أنّ زوجة الإمام الحسين عليه السلام قد تعرّضت للإجهاد والتعب ،فأسقطت حملها ودفن في تلك البقعة ،فبأي القصتين نأخذ ?وأيّها نصدق?
ثانيا :من الذي يضمن ان تكون قصة المنام “مفبركة”من قبل الشخص نفسه الذي زعم رؤية المنام،فربّما كان على علم بدفن طفلة معيّنة في بعض الأمكنة ،ثم اختلق قصة المنام وذهب الى بعض السادة من “آل مرتضى”وهم شيعة محبّون لأهل البيت عليهم السلام وزعم انه رأى في منامه بنتا للإمام الحسين عليه السلام في المكان الفلاني وأنّ ساقية المياه تؤذيها ،طمعا منه في كرم هؤلاء السادة وما قد يغدقونه عليه من أموال،والّا فلماذا لم يذهب هذا الرجل وهو سنيّ المذهب الى بعض علماء السُنة ليخبره بالمنام?!
إنتهى.