حرص البطريرك الماروني على أن يكون اجتماع الديمان الذي جمع عدداً من السفراء العرب نهاية آب الماضي في إطار مواجهة استهداف التكفيريين للوجود المسيحي في الشرق، لكن من دون أن يخرج بآلية واضحة
ناصر شرارة
يمكن بسهولة إيجاد رابط بين دعوة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي السفراء العرب الى الديمان في 27 آب الماضي، ودعوة رئيس الجمهورية ميشال سليمان سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى اجتماع بيت الدين، يوم 3 أيلول، للتحضير لاجتماع نيويورك لدعم لبنان في 25 الجاري.
كانت غاية بكركي من اجتماع الديمان تحصيل ضمانات عربية للوجود المسيحي في المشرق بعد استهدافه من الحركات التكفيرية الممولة والمغطاة من دول عربية. أما اجتماع بيت الدين، فكان هدفه توفير دعم دولي للبنان لاستيعاب النزوح السوري المتعاظم إليه.
كان يمكن أن يكمّل الاجتماعان أحدهما الآخر، ما دام موضوعهما واحداً، وهو حماية لبنان من أبرز ظاهرتين تؤثران عليه جراء تداعيات الأزمة السورية عليه: الإرهاب والنازحون، الوافدان إليه من سوريا. وما حال دون هذا التكامل هو أنّ سليمان نأى بنفسه عن موضوع اجتماع الديمان لتجنب الاصطدام بمعارضة السعودية له. كذلك فإنه بالإجمال يأخذ موقف المحايد من كل جهد لبكركي (بدعم فاتيكاني) لحثّ الدول العربية على وقف دعم بعضها للمجموعات التكفيرية في سوريا.
وتعود معارضة الرياض لاجتماع الديمان إلى أنها أولاً، لا تعترف بمقولة الفاتيكان بأنّ الأصولية الإسلامية الناشطة تحت عنوان الربيع العربي في أكثر من بلد، وخصوصاً في سوريا، تهدد الوجود المسيحي في الشرق. وثانياً إن الرياض لا تستسيغ الجلوس في أي اجتماع يحضره ممثل عن الدولة السورية، وكان الراعي قد دعا السفير السوري علي عبد الكريم إلى اجتماع الديمان.
من جهة أخرى، تلاحظ أوساط متابعة للوضع المسيحي أن الافتراق المتعاظم بين الفاتيكان وباريس بخصوص نظرة كل منهما إلى تأثيرات الربيع العربي، ولا سيما في سوريا، على مسيحيي الشرق، بات مرشحاً لأن يلقي بظله على العلاقات المسيحية اللبنانية البينية. وتحاول باريس أن تأخذ من اجتماع نيويورك لمساندة لبنان في 25 الشهر الجاري منصة لتدعم دورها في بلد الأرز، فيما الفاتيكان يشكك بنيات سياسة باريس في كل المنطقة، نظراً إلى عدم اقترانها بحماية مسيحيي الشرق من المجموعات التكفيرية التي تتحرك تحت غطاء الربيع العربي. وكان رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في المكسيك ودول أميركا اللاتينية وفنزويلا المتروبوليت أنطونيوس الشدراوي، قد عبّر عن ذلك قبل أيام في رسالته إلى مسيحيي العالم، حيث رأى أنّ نفس اقتراح وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر على الرئيس الراحل سليمان فرنجية عام 1973 بتهجير المسيحيين من لبنان، عرضه الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي على الراعي. والواقع أنّ الرئيس الحالي فرنسوا هولاند لم يعط إشارات تنفي التزامه موقف سلفه.
ساد اجتماع السفراء في الديمان، مناخ مختلف تماماً عن اجتماع بيت الدين (راجع الإطار). قاطعه السفير السعودي علي عوض العسيري، فيما السفير الفرنسي نظر إليه شزراً، وطبعاً لم يتعاطف السفير الأميركي مع الاجتماع. كان مأخذهم القاتل عليه هو مشاركة السفير السوري علي عبد الكريم علي فيه. وفي حين أن اجتماع بيت الدين بدا مناسبة لاستعراضات باولي السياسية و«الاستعمارية الجديدة» ضد سوريا، فإن اجتماع الديمان تميز بأنه اشتمل على مساءلة السفير السوري لمن حضر من زملائه الخليجيين عن سبب دعمهم المسلحين التكفيريين. وتميز أيضاً بأنّ الراعي حثّ السفراء المشاركين على إبرام «ميثاق عربي» لإرساء تعاون بين الدول العربية لوقف تصدير التكفيريين إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، نظراً إلى أنهم يهددون الوجود المسيحي في المشرق.
وقائع الاجتماع
استهل السفير السوري علي عبد الكريم علي الاجتماع بنوع من المساءلة لزملائه العرب عن مسؤولية بعض دولهم عن نشاط المسلحين في بلده. قال: «لدي معلومات من وزارة الخارجية تقول إن الأردن يسهّل إدخال المسلحين المدربين على أيدي خبراء أميركيين، والمزودين بخبرات إسرائيلية إلى الأراضي السورية عبر درعا، ومنها إلى شتى المدن السورية». وأضاف: «هناك مسؤول أمن سوري (اللواء علي المملوك) زار الأردن أكثر من ثلاث مرات بهدف تسوية هذا الخلل، ولكنه لم يفلح».
ردت القائمة بأعمال السفارة الأردنية ريا القاضي، بأنّ الأردن لا يسهّل عمليات مرور المسلحين من أرضه إلى سوريا، مؤكدة حرص عمّان على التعاون الأمني مع دمشق.
ردّ السفير علي: «إن كلاً من الخارجية الأردنية والاستخبارات الأردنية كانت تزودنا بلوائح اسمية عن المسلحين وجنسياتهم، ولكنها انقطعت عن ذلك بسبب التدخل الأميركي المباشر والضاغط على القرار الأردني تجاه الأزمة السورية».
ودخل الراعي على خط النقاش قائلاً: «إذا كان هذا ما يحدث بين الأردن وسوريا، فما هو المرتقب أن يحل بلبنان جراء تداعيات الأزمة السورية عليه جراء انتقال المسلحين عبر حدود البلدين ؟».
ولفت إلى أنّ العراق الذي دخله التكفيريون لم يبق من المسيحيين فيه إلا قلة تنحصر في أقصى شماله.
وهنا حاول سفير سلطنة عمان سليمان العلوي، تلطيف الأجواء، فقال: «يجب على السفراء العرب في لبنان أن يرفعوا إلى وزارات الخارجية في بلادهم طلب إبرام اتفاق ينص على تعهدهم بمنع إدخال المسلحين عبر حدودهم إلى الأراضي العربية الشقيقة، وخصوصاً إلى سوريا». ورأى أن وجود اتفاق كهذا يسهل على السفراء العرب أن يدعموا مواقفهم خلال سجالهم فيما إذا كانت بعض الدول العربية تغض الطرف عن مرور مسلحين من أراضيها إلى الداخل السوري.
وعاد الراعي ليؤكد «أهمية الإصرار على فكرة إبرام هذا الاتفاق أو الميثاق العربي؛ لأنّ من شأنه وضع آلية عمل عربية مشتركة لمكافحة التكفيريين الذين يأتون لتدمير سوريا ولبنان».
ونظر الراعي في هذه اللحظة إلى السفير الجزائري إبراهيم حاصي بن عودة، لكونه عميد الدبلوماسيين العرب في لبنان، لاستطلاع رأيه في هذه النقطة، فقال الأخير: «لا نستطيع أن نقرّ هذا الأمر (الاتفاق) بمعزل عن الرجوع إلى وزارات الخارجية لدولنا والجامعة العربية لبتّه».
قال الراعي مخاطباً السفراء: «ماذا يمنع أن تسعوا لدى دولكم من أجل إبرامه (أي الميثاق)، وهل نستطيع أن نتوقع آلية لبلورته وإعداد جدول زمني لبتّه؟».
وقال السفير المصري أشرف حمدي: «يجب إعادة البحث بعودة عضوية سوريا إلى الجامعة العربية، وهذا أمر مطلوب لأكثر من سبب، ومنها جعل هذه الآلية (اتفاق أو ميثاق كما سماه الراعي) قابلة للتنفيذ، لأنه إذا كانت سوريا غائبة عن مقعدها في الجامعة، فهذا يضع كل هذا النقاش وغيره أمام ثغرة أنه يتم في غياب المعنيّ الأساسي به».
قال الراعي: «إن رأي السفير المصري سديد ومصيب، وهذا يأخذنا إلى ضرورة أن يكون هناك أولوية لنقاش عودة سوريا للجامعة العربية».
ولوحظ أن مجموعة من السفراء أثنوا على موقف السفير المصري عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، ومنهم سفراء الجزائر وسلطنة عمان والسودان وتونس وفلسطين والعراق.
وقال السفير العراقي رعد الألوسي: «نحن نعاني من نفس مخاطر الإرهاب الذي تعاني منه سوريا، والذي يودي يومياً في العراق بحياة العشرات من مواطنيه».
واقترح الراعي ربط هذا النقاش الذي جرى «بآلية متابعة، بحيث تتشكل لجنة من السفراء الموجودين لنرى ما إذا كانت الدول العربية ستخلص إلى وضع آلية لبلورة الميثاق الذي تحدثنا عنه».
بين الديمان وبيت الدين
في اجتماع بيت الدين، تصرف السفير الفرنسي باتريس باولي وكأنه صاحب الدعوة وليس أحد ضيوفه. كان لافتاً تأخره عن الوصول لأكثر من نصف ساعة. ورغم ما يمثل هذا التصرف من خرق للياقة احترام موعد رئاسي، إلا أنّ قرار انتظاره من قبل منظمي الاجتماع كان أقوى من تململ بعض الحاضرين الذين طالبوا ببدئه من دونه.
وفيما صادف توقيت الاجتماع مع تكاثر الأسئلة عمّا إذا كانت ستحدث الضربة الأميركية لسوريا فعلاً، فإن المحادثات الثنائية بين المشاركين فيه تركزت على توقعاتهم في هذا الأمر. السفير الصيني جيانغ جيانغ أبلغ محادثيه أن حظوظ الضربة انخفضت إلى نسبة خمسين بالمئة، وأيده السفير الروسي ألكسندر زاسبيكين وقال: «انخفضت 50 بالمئة في هذه اللحظة». السفير الأميركي ديفيد هيل انتدب عنه لحضور الاجتماع القائم بأعمال السفارة الأميركية في بيروت، واختار الأخير عبارات حذرة عن توقعاته، وبدا أكثر تواضعاً في عرض عضلات بلاده من باولي؛ فقد توجه فور وصوله إلى الحاضرين بالقول بفرنسية تنطق من تحت أنفها إن «الضربة حاصلة حتماً، وإن أيام الأسد أصبحت معدودة».
لقد أغدقت مداخلة باولي الوعود بشأن ما سيقدمه اجتماع 25 أيلول للبنان من دعم لمساعدته في احتواء أزمة النازحين السوريين، وأشار إلى أن أمر بتّ هذه المساعدات سيكون ممكناً في اجتماع نيويورك، نظراً إلى أن المؤسسات الدولية المانحة ستكون هناك. لكن العبرة تظل في التنفيذ، ولا سيما أن وعود اجتماع الكويت للبنان لا تزال بجزء كبير منها حبراً على ورق. وبالإجمال، من وجهة نظر مشاركين في اجتماع بيت الدين، إن صدقية وعود باولي للبنان خلاله بشأن النازحين السوريين، بدت أقل جدية من صدقية إيحاءاته بأنه حاضن لاجتماع بيت الدين، وبأن مناخ القرار الرسمي في لبنان تجاه الأزمة السورية وانعكاساتها على وضعه الداخلي بكل تشعباتها، هو مناخ فرنسي خالص.