جان عزيز
كثيرة هي التوصيفات والتصنيفات التي تصلح لثنائي العامين 2013 ــ 2014: زمن الانتظار الفارغ، أو زمن التمديد المفروغ منه، أو زمن الغرق في أزمات المحيط، أو زمن تسلل كوارث الإرهاب الأصولي إلى الداخل، أو زمن الانعطاف الجذري في سوريا بعد 5 حزيران في القصير، أو زمن دخول النفق السوري الطويل… وصولاً إلى تسميات قد تكثر وتزخر أكثر، إذا ما توسعت دائرة الربط، لتشمل التسويات الكيميائية والنووية وأدوار طهران وموسكو وواشنطن. غير أن تشخيصاً آخر يبدو أكثر جاذبية لقارئ تاريخ هذه البلاد. إنه تشخيص سنة 2013 على أنها سنة موت النظام، على رجاء أن تكون سنة 2014 سنة إعلان دفنه، المرتبط بولادة البديل عنه.
والأهم أن لا مدعاة للجزع أو الذعر في ذلك. فالأنظمة، أكانت فردية أو جماعية أو دولتية، تولد أصلاً لتموت، وتوضع في الأساس لتتبدل وتتغير وتتطور. ثم إن متوسط عمر النظام الدستوري ـــ السياسي، الداخلي ـــ الإقليمي، في لبنان، هو ربع قرن. فنظام الانتداب الفرنسي الذي أوجد «الدولة»، عاش هذه المدة تقريباً. بين اتفاق باريس ولندن على قسمة تركة بني عثمان سنة 1920، وبين خلافهما مطلع الأربعينات على من بات الرجل القوي في أوروبا. يومها قرر الجنرال سبيرز أن يهبنا «الاستقلال الأول»، فيما كان «أبطال استقلالنا» يتنافسون على حظوة عشيقة دو مارتيل، كما وصفهم شاهد عيان اسمه اسكندر رياشي… ثم إن نظام «الاستقلال السبيرزي» نفسه عاش فعلياً أيضاً نحو ربع قرن آخر. بين رحيل فرنسا سنة 1946، وبين رحيل عبد الناصر سنة 1970. يوم اندلع السباق المحموم بين حافظ الأسد وياسر عرفات، على من يرث تركة «الهرم الرابع» في وجدان نصف الشارع اللبناني. فأدى سباقهما إلى إعلان موت نظام الاستقلال، الذي كان قد بدأ يحتضر فعلاً منذ ما بعد «النكسة». غير أن سقوط نظام الاستقلال الأول كان عظيماً. ذلك أن «المارونية السياسية» حاولت المكابرة في رفض الاعتراف بموته وعدم التنازل عن أوهام نصف قرن مضى. فيما «السنية السياسية»، بقيادة كمال جنبلاط لا غير يومها، تمسكت بوهم «الانتصار الكامل» ونظرية «الحسم». هكذا لم يولد من سقوط نظام الاستقلال بديل طبيعي، بل نظام ـــ مسخ، اسمه الحرب. وحتى نظام الحرب عاش ما يناهز ربع قرن، ناقصاً بضعة أشهر. بين أولى رصاصات «فتح لاند» وآخر قذائف 13 تشرين الأول 1990. بعدها ومعها ولد نظام الطائف. وها هو يشارف على نهاية ربع قرنه، وبالتالي موعد موته. بعدما أمضى أعواما تقارب العقد، في حالة نزع وسقم واعتلال لا علاج لها.
أكثر من ذلك، الثابت والأكيد بحسب تجارب التاريخ، أن كل نظام عندنا يكون نتاج تلاقح طبيعي أو قسري لعوامل عدة محلية وخارجية. وهو الطائف لم يشذ عن تلك القاعدة. فهو كان وليد سياقات ثلاثة، على المستويات الثلاثة، لبنانياً وإقليمياً ودولياً. ثلاثة سياقات تبدلت كلياً، أو حتى انقلبت بالكامل. يكفي استذكار ما كان واستعراض ما صار راهناً: فالطائف جاء لبنانياً في سياق مشهد داخلي عنوانه هزيمة المسيحيين في انقسامهم (بالإذن من بطولات الراحل الياس الهراوي)، وانتصار المسلمين في وحدتهم، ولو الظاهرة يومها. مشهد أول لم يعد قائماً اليوم. فالمسيحيون لم يعودوا يعيشون هزيمة العام 1990. فيما المسلمون لم يعودوا جسماً سياسياً واحداً. لا بل ثمة انطباع أنهم تقمصوا، لوحدهم، ثنائية «المسألة اللبنانية» السابقة لحرب العام 1975. إذ يبدو كأن نصف المسلمين (والمقصود الشيعة طبعاً) يعيش عقدة الغبن، فيما نصفهم الآخر (السنة) يبدو وكأنه اتخذ لوجدانه عقدة الخوف. إما في لاوعيه، وإما كتمويه واعٍ على وضعه الأرجحي في النظام والمستفيد الوحيد من بقائه ولو ميتاً.
ثم إن الطائف نفسه ولد في سياق إقليمي عنوانه بداية اندثار دولة مركزية في المنطقة اسمها العراق، بعد احتلال صدام حسين للكويت. ومن ثم تحول سوريا لاعباً متفرداً في الملف اللبناني، كممثل شرعي ووحيد للنظام العربي المنبثق من «عاصفة الصحراء»، وفي صلبه السعودية. وتكريس سوريا نفسها كذلك، كوكيل حصري لـ«روما الجديدة» التي أطلقها يومها جورج بوش الأب. أما اليوم فما من حرف واحد من ذلك المشهد الإقليمي لا يزال مقروءاً أو مكتوباً. العراق يعود بصورة مختلفة. وهو يعود على الأقل، كحلقة وصل لقوة إقليمية كبرى جديدة اسمها إيران. فيما النظام العربي هو من اندثر كلياً. والسعودية تدخل زمن تحولها الحتمي، بينما سوريا هي على «ما ذقتم وعلمتم». أما واشنطن فتنسحب من كل مستنقعات منطقتنا على رؤوس أصابعها وأشهاد ناسنا.
يبقى أن الطائف وُلد أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات في ضوء سياق دولي اسمه سقوط موسكو السوفياتية، وتلذذ واشنطن المتوحش في أحادية السيطرة والهيمنة. الأمر الذي لم يعد اليوم دقيقاً على الأقل، كي لا يقع القارئ في خطأ تعظيم «البوتينية» أو تقزيم العم سام…
هكذا يبدو جلياً أن كل ما ساهم في تقرير مصيرنا كدولة وكوطن وكناس قبل نحو ربع قرن، قد انتهى. فكيف لما وُلد مما صار عدماً، ألا يستحيل مثله؟! يبقى على اللبنانيين، إذا ما أدركوا موت نظامهم، تحديات كبيرة، كي يدركوا كيف يستخرجون حدادهم عليه، ويستخرجون من ذلك الحداد، بديلهم الأفضل. تحديهم الأول أن يعرفوا كيف يحافظون على ثوابت النظام الميت. فالطائف الراحل ليس كله سيئات أو سلبيات أو فجوات. ذلك أن فيه ثوابت يجب أن تحفظ وتصان. أولها السيادة على أساس نهائية الكيان، وثانيها الشراكة على أساس المناصفة، حتى الدولة المدنية. وثالثها الحرية للإنسان في حياته وضميره ويناعه وتنميته ومصالحه وخيره. ثاني التحديات، كيف يمكن المحافظة على هذه الثوابت، في ظل منطقة متفجرة، ومحيط قابل لتسييل كل شيء، بحمم براكين عدة متراكمة، من بركان سوريا إلى بركان الأصولية الجهادية. والمسألة ليست بسيطة، في أن تحافظ على سيادة ونهائية كيان، فيما الغرب يرسم خرائط جديدة. أو أن تحافظ على الحريات كقيمة نضال إنسانية، فيما «الحوريات» هي عنوان الحروب الانتحارية. يبقى التحدي الأخير، كيف يمكن انتهاز عدم اهتمام العالم بنا، متلازماً مع حرصه على عدم انفجارنا، من أجل أن نصنع نظاماً جديداً…
من أين المدخل إلى كل ذلك؟ قد يكون الجواب صعباً، لكنه حتماً لا يكون بحكومة موظفين، ولا بالبحث عن نسب عمولات بيع خردة الأسلحة الفرنسية لدول العالم الثالث، محسومة سلفاً من عائدات البترودولار. الباقي كله ممكن. المهم أن نعترف مع نهاية العام 2013، بأن ثمة جثة لنظام ميت في دارنا، تماماً كما جثث كل الأنظمة التي ولدته وولدتها. علّنا نبدأ على الأقل مع مطلع سنة 2014 البحث في ترتيبات ما بعد الدفن.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …