المأزق

جان عزيز
بين ضغط البطريرك الماروني لتحديد جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبين تشرذم الواقع السياسي حيال هذا الاستحقاق، وعدم نضوج أي مخارج له حتى اللحظة، وبين محاولة رئيس المجلس النيابي نبيه بري كسب بعض الوقت تمهيداً لإيجاد الحلول، بات معظم المعنيين بالموضوع يعتقدون بأننا ذاهبون قريباً، ما لم تطرأ تطورات مغايرة في الفترة المتبقية، إلى سيناريو قريب جداً من التالي:
لن يتمكن بري من تجنّب ضغط بكركي إذا ما استمر. ورغم الرسائل غير المباشرة التي نقلت من عين التينة إلى الصرح، بمعنى أنه يا سيدنا نحن جاهزون لتلبية مطلبك بتحديد جلسة، لكن أليس الأولى بأبناء رعيتك أن يسبقونا بالجهوزية فيترشحوا للاستحقاق؟! لكن النبض الميثاقي لدى بري سيجعله يتخطّى كل الاعتبارات، ويلاقي دعوة البطريرك.

فيدعو إلى جلسة بفارق زمني بين تاريخ الإعلان عن الدعوة وتاريخ موعدها، كاف لهزّ الجميع وإيقاظهم أن تفضلوا، ماذا ستفعلون الآن؟!
لن تكون تلك الفترة وافية لطبخ رئيس. لكنها ستدفع الجميع إلى ترتيب حد أدنى من أوضاعهم، للذهاب إلى جلسة الانتخاب الأولى، بحدٍّ أدنى من ماء الوجه المحفوظ، كفريق سياسي مفترض واحد. من جهة الفريق الحريري، ستكون الأمور موضع إحراج كبير. فضغط الوقت سيقطع عليه أولاً مسار انفتاحه على الرابية الذي كان قد بدأ منذ نهاية العام الماضي. كما سيفرض عليه الحسم بين مرشحيه الأربعة. أمين الجميل سيجد نفسه مضطراً للانسحاب من السباق الحريري الداخلي، لأسباب مبدئية وحسابية. بطرس حرب وروبير غانم سيقعان تحت «مَوْنة» المستقبل وضغوط ماضيهما وحاضر القوة والقوات… فينكفئان. وفي ظل مباركة خليجية ومزايدة آذارية شعبوية، سيجد الفريق الحريري نفسه مضطراً إلى القول لسمير جعجع: تفضل أنت مرشحنا الرئاسي… من دون أن يكشف له تكملة العبارة ــــ الموقف: للجلسة الأولى، أو حتى لدورة الاقتراع الأولى فيها.
في المقابل، سيجد فريق 8 آذار نفسه منقاداً طبيعياً، بحسب رغبته ومصلحته وواقع الأمور، إلى تأييد مرشح تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
يذهب الجميع إلى المجلس في الموعد المحدد. النصاب مؤمّن، تحت ضغط إلحاح البطريرك، ومزايدات كل الأطراف، وخصوصاً في ظل اطمئنان الجميع إلى سيناريو مؤكد مسبقاً لمسار الجلسة. يعلن الرئيس بري افتتاح الموعد المنتظر. كل الشاشات حيّة مستنفرة على مشهد القاعة الضبابي. يدور صندوق الاقتراع على النواب، بعدما يكون هؤلاء قد كتبوا أسماء مرشحيهم بعناية شديدة، وتحت حراسة مشددة من جيرانهم. بحيث يتولى كل نائب نظارة ورقة جاره، انطلاقاً من الثقة المطلقة بين زملاء اللوحات الزرقاء وزعمائهم. تسقط الأوراق في الصندوق بحذر كبير ورقابة كاملة من حملة ولاّدة الرئيس. حتى لا يتكرر الخطأ المقصود الذي قيل ان ريمون إده ارتكبه في جلسة 17 آب 1970!
تعد الأوراق. يبدأ الفرز. تتوالى الأسماء متداخلة أو متتالية: ميشال عون… سمير جعجع… ورقة بيضاء. النتيجة: لا مرشح حاز ثلثي الأصوات اللازمة للفوز في الدورة الأولى، أي 86 صوتاً. أكثر من ذلك، لا مرشح حاز على 65 صوتاً حتى. أي لا مرشح مؤهلاً للفوز في الدورات التالية. نظراً إلى العدد الحاسم والمدروس بدقة من الأوراق البيضاء. ماذا يفعل نبيه بري لحظتها؟ فرضيتان ممكنتان: إذا أعلن انتهاء الجلسة، طار الاستحقاق وتأجل على الأرجح إلى ما بعد مهله الدستورية وما بعد الفراغ وما بعد ما بعد الفراغ. أما إذا اعتمد الفرضية الثانية، فيعلن رفع الجلسة نصف ساعة للتشاور…
ثلاثون دقيقة سيعدّها الجميع لا بثوانيها، بل بأجزاء الثواني. أكثر من عشرين هاتفاً خلوياً مفتوحاً بين ساحة النجمة ومعراب والرياض، أياً كان محل الإقامة الموقت لسعد الحريري. حتى ولو كان نجم ساحة النجمة في ذلك النهار. في الجهة المقابلة، اتصالات مباشرة شفهية وأخرى «سلكية آمنة» على خط وليد جنبلاط الجالس ساكناً في المقاعد الخلفية للقاعة. تمر الدقائق ثقيلة، قبل أن يتولى سعد مباشرة، أو خط خارجي ما إذا اضطر الأمر، لمهاتفة جعجع: لقد فعلنا كل ما يمكن. وقفنا معك بكامل نصابنا في الدورة الأولى. هذه هي النتيجة. جنبلاط لن يمشي. المهم أنك نجحت في استبعاد عون. الآن علينا حسم الأمر: بطرس حرب أو روبير غانم؟ معراب ستزكّي الأول. ينتقل البحث إلى عند جنبلاط. يرفض اسم حرب. يطرح جان عبيد أولاً، وإلا روبير غانم. يسقط اسم عبيد لدى الحريري وجعجع. فيفترق الرجلان. الحريري يوافق على التسوية مع جنبلاط على غانم. فيما جعجع يرفض. ينتهي الوقت المستقطع القاتل. يعود النواب إلى الجلسة. فيدرك الجميع أن الاتفاق قد رسا على الاسم الأضعف. تعلو أصوات مستنكرة. بعضهم يحاول استعادة ماضي «الرئيس» في سياق اتهامي، من استحداث مقعده النيابي بالتعيين سنة 1991 إلى إسقاط هنري شديد بالقوة سنة 1996 ومنعه من الترشح ثانية، هدية من غازٍ لغانم. يستفيق الجميع في آخر لحظة. لن يقبل أي قطب ماروني بالأمر. القرار نهائي. تنفجر الجلسة. يطير النصاب، رغم كل الاجتهادات حوله. وندخل المجهول.
ما الذي يمكن أن يغيّر مسار هذا السيناريو؟ أمران ممكنان نظرياً، أو زيارتان نظريتان: الأولى زيارة يقوم بها جعجع إلى الرابية. تماماً كما زار اليرزة في 21 أيلول 1988. مع فارق أن لقاءه عون قبل اكثر من ربع قرن كان لتعطيل انتخاب رئيس مفروض مرفوض. فيما المرجو أن تكون زيارته اليوم لتسهيل انتخاب رئيس مطلوب ومحبوب! أما الزيارة الثانية، فيقوم بها عون نفسه إلى الرياض، قبل أن ينطلق السيناريو السابق وقبل وقوع محاذيره.
الزيارة الأولى تبدو مستبعدة. بينما الثانية يقال انها باتت ممكنة، أو حتى وشيكة… وإلا، فلنستعد للمأزق يا سيدنا!

المصدر: الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …