شيئاً فشيئاً تتصاعد حدّة التوتر بين الطبقة السياسية الحاكمة ومُجمل ما يقع تحت تسمية الحراك الشعبي. عمليات الإشتباك الأولى أواخر آب الماضي التي تخللها استخدام القوى الأمنية من درك وجيش للمقذوفات المطاطية والرصاص الحيّ وهواوين الغازات الخانقة، فضلاً عن الماء والهراوات، كانت في معظمها مجرّد أخطاء ناجمة عن سوء تصرّف وعدم جدارة وحالات إنفعالية سببها التسرّع وقِلّة الاحتراف. اليوم اختلف الأمر بصورة جذرية، وباتت “دولة الطبقة السياسية” في وارد كسر الحلول بالتراضي، بعد أن تجاوزت قُطوع الدهشة والحيرة والتردد، وتنبّه “آلهتها” إلى ما يُحاك لدولتهم من قِبَلِ ضحاياها.
هكذا دقّت ساعة الشدّة والحزم وأمرت الطبقة العُليا مندوبيها (الحكومة القائمة) باعتماد القمع بالقوة الغاشمة. فالحراك التمرّدي الذي اندلع بوجه هذه الطبقة عموماً على نِيّة أزمة النفايات، بوشر العمل على قمعه على نِيّة حماية “السلم الأهلي” (وهي التسمية الرسمية لمرحلة استباحة البلد والإدارة بعد رفع المدفع عن رقاب الناس). وحيث بدا أن تعبير “تنفيذ القانون” لم يحقق الغاية الجماهيرية المرجُوَّة من خلال التلويح به، أخرج الجماعة من أكمامهم عناوين بيئية راحوا يُطرّزونها بالكلام عن كارثة صحية تُهدد المواطن بفعل تفاعل الشتوة الأولى مع النفايات في الشوارع، متجاهلين أنهم هم أنفسهم سبب هذه النفايات في الشوارع لمجرّد أنهم لم يتصالحوا بعد على تقاسم ريوعها… وهذا سلوك نمطي لدولة غنائمية تنتدب ممثلين لها ليشكلوا حكومة تُوضع في مواجهة الناس.
رأس كتلة الجليد الذي ظهر من خُطة القمع الدموية، تمثّل، قبل “أربعاء السحل”، بتغريدةٍ لرئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط عبر حسابه الرسمي على “تويتر” مُسمِّياً حراك الشباب بـ “الفوضى المنظمة التي تستعملها بعضٌ من وسائل الإعلام في تحطيم الدولة والمؤسسات”، ومعتبراً أنها “قد تكون تمهيداً لحدث أمني خارج معرفة البعض على الأقل، يُدمِّر البلاد”، وداعياً المواطنين إلى “الانتباه للعبة الدول من أجل تدمير لبنان تحت شعار النفايات”.
الواقع أنه لا صراحة أكثر سُفوراً من هذه. فالحراك الشعبي (الذي كان جنبلاط أعلن غير مرة مناصرته وتأييده له) ليس في نظره بالحقيقة غير “فوضى منظّمة”، الهدف منه ــ برأيه ــ ليس سوى “تدمير البلاد”، أي الخيرات التي يتحكّم بها منذ أن انتصر على اهلها بالتكافل والتحالف مع شريكه الأول الرئيس المتواصل لمجلس النوّاب، حيث يشكلان معاً الرمز الحيّ لزهرة الطبقة السياسية المشكوّ منها.. ولأنه يعتبر أن المواطن قاصر أمام معارفه الواسعة فقد دعا “المواطنين إلى الانتباه للعبة الدول من أجل تدمير لبنان تحت شعار النفايات”.
بناء على هذا بات جنبلاط، وعلى رؤوس الأشهاد، معنياً بقطع دابر الحراك مهما كلف الأمر، حيث أن سكوته يُفضي إلى “تدمير لبنان”. وبالفعل فقد بوشر الأمر بطريقة متدرّجة ابتدأت بإعلان ما سُمِّيَ تجاوُزاً “خطة” الوزير شهيِّب لمعالجة مشكلة النفايات، وهي ليست خطّته ولا من ابتكاره، بل سبق أن تكلّم بها الوزير الممتنع عن أداء مهامه وعن تقديم استقالته، كما أتى على ذكرها كل من تكلّم في مشكلة النفايات، رسمياً كان أم صحافياً أم صائداً بالمياه الآسنة…
الإعلان عن الـ”خطة” كان الخطوة التنفيذية الأولى الممهدة لعملية القمع الإنهائية. الحراك الغائب عن حقيقة الصورة ردّ على الوزير الجنبلاطي بطريقة إرتجالية فكشف عوراتها وأكد على معارضته لها، مع تجديد الدعوة لاستقالة وزير البيئة بعد اجتماع غير مثمر معه… ثم صعّد باتجاه بعض الأملاك البحرية وبعض المقار الوزارية، وعبّر عن النية لعرقلة التئام “طاولة الحوار”…كل هذا خلال أقل من ثلاثين ساعة. وهذه كانت نقطة الماء التي فاضت بالكوب. فبعد الصبر الجميل الذي واجهت به السلطات السياسية وأدواتها الأمنية حراك المحتجين، وبعد أن أثبتت أمام الملأ طول أناتها وعظيم مراعاتها لحرية المنتفضين عليها، جاء “تجرّؤ” الشباب على طاولة الحوار ليدفع عمليات البطش بالمتظاهرين نهار الأربعاء الماضي إلى ذروة كانت حتى حينه، غير مسبوقة، خصوصاً وأن إهانات كلامية غير لائقة وجهها بعض المتظاهرين بحق الرئيس بري شخصياً. وكانت هذه واحدة من الخدمات الحمقاء التي قدّمها “الشتامون” بين صفوف المحتجين، لأخصامهم. فالتهجم على رئيس المجلس النيابي كما على رئيس اللقاء الديمقراطي لم يكن بالأمر الجديد، وقد تكرر مراراً وتكراراً على شاشات الأسابيع الأخيرة. إلا أن شتائم الأربعاء جاءت جهيرة وفضفاضة وفي لحظة حسّاسة، ما أتاح المبرر الكافي للإنقضاض على “الفوضى” بأنياب القانون الأمنية والعسكرية، ومعها زنود الأنصار والمريدين، فأطبقت “القوات المشتركة” على الجمهور مُنكِّلةً بمن وقع في المتناول، وقدّمت عيِّنة نموذجية لما هي مستعدة للقيام به.
هذا يعني في مُجمله أن حرب دولة الطبقة السياسية الحاكمة على الحراك الشعبي باتت قائمة، ولا بدّ لتجلّياتها أن تتصاعد عُنفاً في المستقبل. وهنا لا يصحّ أيّ رِهان على عبقرية زعماء البلد في تدبّر الحلول، سواء كانت تسويفية أو تأجيلية. فالجماعة منصرفون تماماً إلى محاولة الاتفاق رضائياً على التحاصص وترتيب شؤون منزلهم الداخلي الجامع وتعزيز وتوثيق التواطؤ بينهم على “بقرة البلد الحلوب”. وهم في هذه المرحلة غير مستعدين لأن يُقيموا أيّ وزن لا لرفع النفايات ولا لتلبية أيِّ من مطالب الناشطين.
ولئن كان بوسع شباب الحراك أن يُنازلوا القوى الأمنية فينتهوا ببعض الرضوض والكسور، ثم يتوزعون بين المستشفيات والسجون، ليُصار إلى إطلاق سراحهم بعد ساعات، فالسؤال الجدير بأن يطرحوه على أنفسهم يدور حول ما إذا كان بوسعهم منازلة “القوات المشتركة” التي ذاقوا عيّنة من بضاعتها في الجولة السابقة.
الرحلة في بدايتها.
المصدر: المدن