«السيّدة» تحب «السيّد»… أعدّوا المشانق
بيار أبي صعب
ليست فيروز شخصاً عاديّاً، بل رمز وأيقونة في وطن الأوبريت («النهائي»)، وأحد الوجوه الأخيرة القادرة على أن توحّد الناس وتعطي معنى سامياً لوجودهم في زمن التحوّلات الكبرى. ومع ذلك، رغم موقعها الفريد في الوجدان اللبناني، يبقى مستغرباً، ومن سمات هذا الزمن العبثي، المتشنّج، البلا أفق، أن تندلع حرب حقيقيّة حول موقف نُسب إلى المغنيّة الأسطورة، على لسان ابنها في معرض حديث إلكتروني. جملة واحدة قالها زياد الرحباني خلال حوار مع موقع «العهد»، واقتطفتها «الأخبار» في اليوم التالي (١٧/ ١٢/ ٢٠١٣)، كانت كافية كي تزلزل العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي. «فيروز تحبّ السيّد كثيراً». نعم؟ كيف للأيقونة أن تحب أصلاً؟ كيف لها أن تملك خياراتها الشخصيّة، وإذا سلّمنا بوجودها كيف تُعلن على الملأ؟
انتقدنا فيروز دهراً لأنّها فوق المعمعة، تعيش في الأسطورة. ذات يوم، حين لم يكن ينتظرها أحد، اتكأت على كتف زياد وترجّلت عن غيمتها. «هربت من شبّاك» الأوبريت الرحبانيّة، وجاءت إلينا، صارت تتحدّث مثل ناس كل يوم وتغنّي لغة الشارع. لقد تغلّبت الفنّانة على الأيقونة. ذلك التحوّل لم يحقق الإجماع حكماً، ومن قال إن على المبدع أن يكون تسوويّاً وتوفيقيّاً وباهتاً كي يحقق الإجماع؟ وكما في الفنّ كذلك في السياسة: ها هو الرحباني الابن يزيد في الطين بلّة فيكشف عن حبّ أمّه للسيّد. لم تجدي غير «السيّد» يا فيروز؟ إنّها خيانة عظمى، انتقال مفجع، مخالف للطبيعة، من معسكر الأخيار إلى معسكر الأشرار.
بسرعة، خرج من الغابة الكومندوس نفسه الذي نجده في كل مناسبة، جاهزاً لإنزال الحرم، وإعلان نهاية هذا الفنّان أو ذاك وموته وإفلاسه… «المرحومة فيروز» اقترح على صفحته نبيّ الليبراليّة الذي كان أطلق حكم الإعدام في زمانه على أم كلثوم. على كل حال ليست خسارة كبيرة أوحى معلّق آخر، فإنْ هي إلا رمز «الخرافة اللبنانيّة» كما اكتشف صاحبنا بنفَس واقعي اشتراكي (وعروبي؟) مباغت. الخرافة اللبنانيّة لم تعد تعجبك؟ وما كان منه سوى أن وجد لنفسه ولسائر المفجوعين عزاءً ناجعاً، فماذا يمكن لفيروز أن تهدي حسن نصرالله في النهاية غير… «الضيعة والجرة والمختار»؟ و«تلأمن» شاعر علماني على صفحته: «إذا غنّت فيروز للبنان الجديد، المقاوم، من سيذيع تلك الأغاني (ما دام) الغناء حراماً». أهضم تريقة على «المقاومة». برافو!
في هذه المعمعة نسيناً سؤالاً بسيطاً. الكومندوس نفسه، عوّدنا على خوض معارك الحريّات بلا هوادة. فما باله لا يحتمل أن يكون لفنّانة كفيروز رأي أو موقف يتناقضان مع ناموس الفضائل الليبراليّة؟ هكذا يحقّ لزياد دويري أن يصوّر فيلماً في تل أبيب، ولا يحقّ لفيروز أن تحبّ حسن نصرالله؟ لم نقرأ لوماً، ولو لطيفاً، للفنّان الطموح الذي ارتمى في أحضان إسرائيل، بل إن معظم منتقدي فيروز على «جريمة» لم يثبت بعد ارتكابها، كانوا بالأمس من أشرس المدافعين عن حريّة دويري في اختيار أدواته وخطابه. طبعاً، مكانة فيروز في وجدان الناس لا تقارن بمكانة الآخرين أياً كانت موهبتهم ونجاحهم، من هنا كل هذا الصخب. لكن الصحيح أيضاً أن أبلسة محبّي حسن نصرالله هي الوجه الآخر لترويج صورة إيجابيّة عن اسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر، مقصود أو غير مقصود. فإذا كانت فيروز تحبّ السيّد، فهل يمكن أن يكون الدافع إلا وطنيّاً؟ إنّه خيار يشبهها ويشبه تاريخها وموقفها من الصراع المصيري المحتدم أكثر من أي لحظة سابقة، مع الهمجيّة الصهيونيّة التي يرعاها الغرب بتواطؤ الرجعيّات العربيّة.
لم يخطر ببال ليبراليّي آخر زمن، أن بوسع المرء أن يكون مع المقاومة لأسباب وطنيّة، ويحتفظ بخياراته الفلسفيّة والدينية والثقافية، ويغنّي ويرقص حتى الصباح. إذا كانت فيروز كسرت جرّة «اللائق سياسيّاً» لتقف في مواجهة نصف الدنيا، فهي ليست «الراحلة» بل بالعكس في ذروة تألقها وشبابها. فيروز التي تحبّ السيّد، ليست بطلة «الليل والقنديل»، بل إنّها أقرب إلى «غربة» بطلة «جبال الصوّان»، ابنة «مدلج اللي مات عَ البوابة» في مواجهة «فاتك المتصلّب». إنّها فيروز «القدس في البال» و«الغضب الساطع» و«أجراس العودة» و«شمس المساكين»… فيروز التي غنّت «رفيقي صبحي الجيز» هي تحديداً من يمكنه أن يختار حسن نصرالله. لكن لا داعي للزعل، هناك خيارات كثيرة غير فيروز: «معسكر الأخيار» لديه إليسا والحاج فضل شاكر.