الحريري أكل الدالية

كذبوا على الصيادين في الروشة. خانوا وعدهم بإنشاء ميناء لهم، ليتبدّل المشهد لاحقاً، ويصبح الصيادون أنفسهم مهددين بالاقتلاع من الأرض التي ولدوا فيها وعاشوا عليها. حيتان المال الخليجية، على سفينة الحريرية، تريد ابتلاعهم. هؤلاء لن يسكتوا، يلوّحون بالتصعيد، ولا يملكون سوى بحرهم ورزقهم الذي فيه… وفقرهم

محمد نزال

هنا «الدالية». أحد آخر معاقل الفقراء على امتداد الشاطئ البيروتي. صيادون ولدوا هناك وكبروا، لا يعرفون سوى وجهة البحر وأسماكه، وكبيرهم مضى على مكوثه قبالة صخرة الروشة نحو 50 عاماً. ليل أمس كان يقف هناك، عند الطريق الترابية، ومعه أولاده وأحفاده، حول نيران أشعلوها في أحد مراكبهم القديمة، غضباً «من جميع المسؤولين». محمد علايلي، ومعه أبو «عضل» وحسن نبهة ومحمد وعمر العيتاني، وكثيرون من البيارتة، كانوا يصرخون: «أين سعد الحريري؟

يعيش في فرنسا ويتركنا وحدنا هنا! لقد وصلنا أمر قضائي بإزالتنا من هذه الأرض. رفضنا وسنرفض، وإن قرروا التصعيد فسنُصعّد ونشعل النيران عند مدخل «الموفنبيك» وطريق الروشة… ولا تستبعدوا أن نحرق أنفسنا أيضاً». هنا خرج من يوضح: «لا لن نحرق أنفسنا، بل سنحرقهم هم، كل من يريد أن يقتلعنا من هذه الأرض التي لم نعرف سواها في حياتنا».
يفسح الحشد لشاب ضخم الجثّة. إنه عامر محفوظ، بثياب البحر ورائحته، يرفع صوته على مداه فيصل بعيداً، ربما إلى داخل المنتجعات السياحية هناك، صارخاً: «وعدونا بإنشاء مرفأ لنا، قلنا لهم بارك الله فيكم، وباشروا الحفر والأشغال ووضعوا الحواجز الأسمنتية. لاحقاً توقف العمل فجأة، لم نعرف السبب يومها، وقيل إن أثرياء من الخليج يريدون استثمار أرضنا هذه. اليوم وصلنا تبليغ قضائي بوجوب مغادرة المنطقة، وهنا يعتاش نحو 100 صياد وكذلك يوجد 16 منزلاً فيها نساء وأطفاء وعائلات… هذا لن يحصل مهما كلفنا الأمر. ويا شيخ سعد الحريري اسمعنا، نحن ولاد بيروت رح تكبّونا برّا؟ لمين تاركنا ومش سائل عنا؟ ليه عم تعمل فينا هيك؟».
الدالية، لمن لا يعرفها، وربما ما لا يعرفه الصيادون، هي أرض تملّك الرئيس الراحل رفيق الحريري قسماً كبيراً منها. وآل الحريري هم الذين اعترضوا على إنشاء الميناء للصيادين، أخيراً، بحجّة أنها أملاك خاصة. وزير الأشغال غازي العريضي يعرف هذا جيداً، والصيادون تحدثوا معه سابقاً عندما زارهم، والتوقف عن العمل في الميناء كان بمعرفته. ما حصل هو انقلاب تام للمشهد. فبدل إنشاء ما وُعد الصيادون به، ها هم اليوم مهددون بالاقتلاع من جذورهم. منطقة الدالية تلك، بعلم الجميع، تُعدّ «حيّزاً عاماً» من واجهة بيروت. من ذاكرتها التي تمتد عقوداً إلى الوراء. صحيح أن أكثر الصيادين هناك من بيروت، لكن تلك المنطقة التي ما زالت «مسبحاً شعبياً» للفقراء، لم تأخذ يوماً طابعاً بيروتياً أو مذهبياً. كثيرون من الذين عاشوا في بيروت، من الجنوب والشمال والبقاع يعرفونها، وطالما سبحوا فيها، ويحفظون عن ظهر قلب اسم «المغارتين» و«النافدة» و«ابن العيتاني» الذي اشتهر بالقفز من أعلى صخرة الروشة مراراً. يعرفون طقوس القفز في الماء هناك، والتحدي السنوي بين الشبّان، ويحفظون أماكن وضع «الحسكة» و«الفلوكة». هناك آل العيتاني الذين اشتهروا، أيضاً، بإنقاذ الغرقى (هذا الصيف يقولون إنهم أنقذوا 100 غريق وسحبوا الكثير من الجثث).
العلايلي الصيّاد (المشهور بالنقنوق) يؤكد أن الميناء ليس من ضمن الأراضي التي يملكها آل الحريري، وقد «سمعنا أن شركات تابعة للحريري، مع متمولين من الخليج، يريدون إنشاء منتجعات سياحية هنا، في المكان الذي نعيش فيه. يريدون رمينا من دون أي تعويض، ونحن لا نعرف سوى العمل في البحر والصيد». عيسى يعقوب، أحد الصيادين، يرفض أصلاً «مبدأ التعويض». لا يريد أن يخرج من المنطقة أساساً. ربما هو من الذين يدركون أن الذكريات لا تُباع وتُشترى.
سابقاً بُني هناك منتجع «الموفنبيك». أذن يومها لمالكه الوليد بن طلال بأن يفعل ذلك. ربما هذا ما فتح شهية مختلف أنواع «حيتان الأموال» للاستثمار غير الشرعي. تلك المنطقة من ضمن الأملاك البحرية العامة (بالأصل). تلك من الأراضي التي لم تسع الدولة اللبنانية يوماً لاستملاكها. ذات مرّة وصل طموح بعض «الكروش» الجشعة إلى أن تستثمر صخرة الروشة نفسها، فكادوا أن يبنوا عليها منتجعاً ويوصلوه بـ«تلفريك» نحو البر. من يدري، ربما يتشجع هؤلاء اليوم ويعودون إلى طموحهم.
«الدالية» بحسب الصحف العقارية، العائدة إلى أربعينيات القرن الماضي، هي «منطقة غير مخصصة للبناء». أما ملكيتها، قبل دخول الحريري الأب على الخط، فتعود إلى عائلات أبرزها: شاتيلا وبيضون. لاحقاً استملكت فيها عائلات أخرى منها: عيتاني ومطر وعفيق ومعوّض والمر. تأخذ تلك المنطقة اسمها من الميناء القديم، وهي مساحة شعبية بامتياز، وهناك يقيم الأكراد اللبنانيون احتفالهم السنوي في عيد «النيروز». ترتادها فئات متنوعة من الناس؛ فإلى جانب الصيادين يرتادها أبناء المدينة والضواحي، وهؤلاء غالباً من الطبقة الفقيرة.
الذين احتشدوا أمس، بالعشرات، ينقلون عن المدير العام للنقل البري والبحري عبد الحفيظ القيسي أن «القصة كبيرة والقرار جاي من برا، يعني ما فينا نكفّي بالميناء وبدو يصير المشروع». الشبّان هناك، الذين كانوا غاضبين فوق العادة ليل أمس، يجزمون بأنه «لا القيسي ولا العريضي ولا الحريري ولا الدنيا كلها سوف تخرجنا من هنا، وحاضرون للتصعيد، ولا ننصحهم بأن يجربونا… ليس لدينا ما نخسره سوى هذا البحر. كل حياتنا هذا البحر وعملنا في الصيد، وهذه الروح لا ينزعها إلا خالقها».

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …