سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 28 رمضان 1435هـ الموافق 25 تموز 2014م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
ها نحن قد وصلنا إلى الأيَّام الأخيرة من شهر رمضان المبارك، فقد انقضت أيَّام الشهر الكريم، ومرَّت كما يمرُّ السَّحاب المملوء بالخير والأمطار في أيامِ الجَّفاف، لكنَّ أمطار شهر رمضان ليست مياهاً تسقي الأرض الجافَّة، وإنَّما هي أمطار الرَّحمة الإلهيَّة الَّتي تسقي القلوب الظمأى والأرواح العطشى إلى كلِّ ما وعد الله تعالى به عبادَهُ المؤمنين الصَّائمين من مغفرةٍ ومثوبةٍ وخيرٍ وأجرٍ عظيم، فترويها وتُحييها كما يُحي المطر الأرض اليابسة، فتُزهرَ إيماناً وصفاءاً وروحانيَّةً وصلاحاً وورعاً وخيراً.
اللَّهمَّ وهذه أيَّام شهر رمضان قد انقضت، ولياليه قد تصرَّمت -أي تقطَّعت ومرَّت حتَّى شارفت على الانتهاء- وقد صرتُ يا إلهي إلى ما أنتَ أعلمُ به منِّي وأحصى لعدده من الخلق أجمعين. فلقد مرَّ هذا الشهر الكريم علينا، وكلُّ واحدٍ منّا عمل ما عمل فيه من صومٍ وصلاةٍ ودعاءٍ وقراءةٍ للقرآن وما أشبه ذلك، وأدَّى بعضاً من الأعمال الواجبة أو المستحبَّة فيه، ولكنَّه لا يدري إن كان قد أدَّى حقَّ هذا الشهر عليه، ولا يدري كم استفاد منه، ولا يدري هل وفَّى المطلوب منه تجاه ربِّهِ وتجاه نفسه وتجاه النَّاس من حوله؟ أم انَّهُ قصَّرَ في ذلك كلِّه وفرَّط فيما منحه الله تعالى إياه في هذا الشهر الفضيل؟
ونحنُ جميعاً نعرفُ أنَّ نِعَمَ الله علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى في الأيَّام العاديَّة، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {النحل:18} وأنَّها تتضاعفُ أضعافاً كثيرةً في شهر رمضان، والعقلُ يحكُمُ بشُكرِ المُنعِم، ولذا لا بدَّ للإنسان أن يشكر الله سبحانه وتعالى دائماً بالقول والعمل والتقرُّبِ إليه بأنواع العبادات والطَّاعات، رغمَ أنَّهُ مهما فعل ليشكر ربَّه على نِعَمِه الظاهرة والباطنة، فإنَّه يبقى مقصِّراً في ذلك أيُّما تقصيرٍ، وهذا ما علَّمنا إياهُ إمامنا السجَّاد(ع) في مناجاة الشَّاكرين حيث يقول: إلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضَاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرَامِكَ إيَّايَ ثَنآئِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوَارِ الإِيْمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطآئِفُ بِرِّكَ مِنَ الْعِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدْتَنِي مِنْكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقْتَنِي أَطْوَاقَاً لا تُفَلُّ، فَآلاؤُكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْمآؤُكَ كَثِيرَةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْرَاكِها فَضْلاً عَنِ اسْتِقْصآئِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْر، فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الْحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الْحَمْدُ.
ولهذا يجبُ علينا أن نقفَ في أواخر هذا الشَّهر لندقِّق فيما عملناهُ، لنعرف إن كنَّا –على الأقل- قد قُمنا حقاً بما نقدر عليه من عمل، أم أننَّا قصَّرنا حتَّى في ذلك، وفرَّطنا بالفرصة الربَّانيَّة السنويَّة التي وهبنا الله تعالى إيَّاها؟ وهذا لا يكونُ فقط باحتساب ما فعلناه من الواجبات والمستحبَّات والطَّاعات، أي أن نحسب كَم صلينا وصُمنا، وكم دعونا وقرأنا القرآن، وكم ذكرنا الله تعالى وحمدناه وشكرناه، وكم دفعنا من أموالنا صدقاتٍ أوحقوق شرعيَّة، وكم فعلنا من الخيرات…
فعلى الرَّغم من أهميَّة ذلك كلِّه إلا أنَّه لا يكفي، لأنَّهُ لا بُدَّ لنا حين نقوم بهذا الحساب أو هذه “الجردة” لأنفسنا من أن نتأمَّل في دوافع أعمالنا أولاً، هل كانت قربةً إلى الله تعالى؟ هل كانت صافيةً له؟ هل كانت خاليةً من الرِّياء وحسابات المصالح الدنيوية أم أنَّها لم تكن كذلك؟
وأيضاً، علينا أن نتأمَّل في نتائجِ أعمالنا وتأثيرِها في أنفسنا وفي قلوبنا وفي أرواحنا، فهل غيَّرنا الصَّوم بحيث جعلنا أحراراً أمام شهواتنا وأمام الدُّنيا كلِّها فلا يستعبدُنا شيءٌ أو أحدٌ غير الله تعالى، أم كان مجرَّد امتناعٍ عن المفطِّرات؟
هل غيَّرتنا الصَّلاة ونهتنا عن الفحشاء والمنكر، أم كانت مجرَّد حركاتٍ طقوسية روتينيَّة نؤدِّيها بشكلٍ رتيبٍ وممل؟
هل غيَّرنا الدُّعاء وطهَّر قلوبنا من الأحقاد والضغائن، وارتقى بروحانيَّتِنا وعلاقتنا بالله عزَّ وجل، أم كان مجرَّد نصوصٍ نقرأها دون روحانَّية ودون تفكُّرٍ وتأمُّل؟
هل أحيت قراءة القرآن الكريم قلوبنا وأرواحنا، وهل غيَّرت في أنفسنا إلى الأفضل بما تدبرناه من الآيات، أم أنَّ التلاوة لم تتجاوز شفاهنا ولم تعبُر إلى عقولنا وقلوبنا لتستقرَّ بها وترتقي بنا إلى أن نكونَ كما أراد لنا الله عزَّ وجلَّ أن نكون؟
هل طهَّرت الصَّدقات وأعمال البرِّ أنفسنا، أم كانت مجَّرد أموال ندفعها لنرضي غرورنا وتكبُّرنا، حين نَمنُّ على الفقراء بها، ونتباهى بها أمام النَّاس ليمتدحونا، فنكسب من ذلك جاهاً وشُهرة؟
علينا أن ننظر في ذلك كلِّه لنعرفَ إن كانت عباداتنا وأعمالنا صافيةً وخالصةً لله تعالى أم أنّها مشوبةٌ بالذَّاتيَّات وبحبِّ بالدُّنيا وبالرَّياء والعُجُب وما إلى ذلك مما يفسدُها ويُضيِّعُها…؟ وعلينا أن ندقِّق في ذلك كلِّهِ حتَّى لا نخرج من هذا الشَّهر خاسرين والعياذُ بالله تعالى، فنكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين علي(ع): رُبَّ صائمٍ ليس لهُ من صومِهِ إلَّا الجوعَ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من صومِهِ إلَّا التَّعَبُ والنَّصَب. علينا أن ننتبه جيداً لكلِّ ذلك حتَّى لا نكون مثل تلك المرأة الَّتي كانت تصومُ نهارها وتقوم ليلها، ولكنَّها كانت تؤذي جيرانها بلسانها، فلم ينفعها ذلك في شيء لقولِ رسول الله(ص) عنها حين علمَ بحالِها هذا: هي في النار. فالعبادة الفارغة من المعنى الرُّوحي والأخلاقي لا تعني شيئاً ولا تنفعُ شيئاً، ولهذا كان الهدفُ الرئيسُ من الصَّوم وفرضِهِ وكِتابتِهِ علينا هو الوصول إلى حالة التَّقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {البقرة:183}، والتقوى تستلزمُ المعرفةَ بأوامر الله تعالى ونواهيه، والالتزام الجادِّ بها، وتعني تعميقِ الارتباط بالله تعالى والسَّعي إلى التقرُّبِ إليه بما يُحبُّه ويرضاه من القول والعمل.
ومن هنا فإنَّ علينا أن نستفيد من صومنا وصلاتنا وكلِّ عباداتنا وطاعاتنا، فنصفِّي نفوسنا من كلِّ سوءٍ وحقد، ونسمو بأرواحنا إلى كلِّ طهرٍ وصفاءٍ ومحبَّةٍ وروحانيَّةٍ وسلامٍ للحياة وللناس، لنكون المسلمين الحقيقيِّين الَّذين يُجسِّدون الإسلام قلباً وقالباً، ويستهدونه في حياتهم منهجاً وسلوكاً، ويلتزمون به فكراً وعاطفةً و قولاً وعملاً، في خطِّ رسول الله(ص) وآله الأطهار وأصحابه الأخيار.
أيُّها الإخوة، لقد دخلنا منذ أيَّام في العشر الأواخر من شهر رمضان، وهي الأياَّم العظيمة الَّتي أخفى الله تعالى فيها ليلة القدر الَّتي هي خيرٌ من ألف شهر، ولذا فعلينا أن نعمل فيها بكلِّ جدٍ واجتهاد لنتدارك ما فاتنا، فإن كنا أهملنا وقصَّرنا في العشرتينِ الأولى والثَّانية، فلنعوِّض ذلك الآن، وإن كنَّا قمنا بالدَّور المطلوب منَّا فلنستمرَّ بذلك ولنجتهد في أن نكمل ما بدأنا به، لنفوز برحمة الله تعالى ومغفرته ورضوانه، وقد كان رسول الله(ص) يجتهد في العشر الأواخر بالعبادة أكثر مما يجتهد في غيرها، فـ يطوي فراشه، ويشدُّ مئزرَه، ويُوقظ أهله. كما أخبرنا بذلك أمير المؤمنين علي(ع) فيما يروى عنه، وكان يعتكف فيها في مسجده متعبداً لله جلَّ وعلا ومنقطعاً إليه عن كلِّ ما سواه، وفي الرِّواية عن الصادق(ع)، عن أبائه(ع) عن رسول الله(ص) قال: إعتكاف العشرِ الأواخر من شهر رمضان يعدل حجَّتين وعُمرَتين. وهذا يدلُّ فيما يدلُّ على أهميَّة هذه الأيَّام وفضلها الكبير.
ومن هنا، فإنَّ علينا في هذه الأيام أن نعيش مع الله سبحانه وتعالى بكلِّ عقولنا وقلوبنا، وأن نجتهد في الطَّاعات، ونستزيد من الحسنات، ونرغب في الخيرات ونسارع إليها، لنعمِّق صلتنا بالله تعالى ونوثِّق علاقتنا به جلَّ وعلا. وعلينا أن نستفيد من هذا الشَّهر لنتدبَّر في كتاب الله تعالى ونستنير بنوره، ولنتدبَّر في آياته تعالى في الكون وفي أنفسنا، ليكون إيماننا به جلَّ وعلا إيمان الواعين المتبصِّرين المتفكِّرين، وقد ورد في الحديث الشَّريف: تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة. لأنَّنا كلما عرفنا الله أكثر -من خلال آياته- كلَّما اقتربنا منه أكثر، وشعرنا بالرَّاحة والطمأنينة أكثر، وعشنا حالة الثِّقة به وبرحمته وعفوه وكرمه وألطافه أكثر، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2و3} فلا ييأس ولا يقنط من رحمة ربَّه ولا ينهزم أمام تحدِّيات الحياة، وأمام ضغوطات المستكبرين، بل يتوكَّل على الله تعالى في كلِّ ما يواجهه، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق:3} أي أنَّه يكفيه عن سؤال غيره من المخلوقين ويبلِّغه ما يريد لأنَّه تعالى خالق الخالق، باسط الرِّزق، فالق الإصباح، ذو الجلال والإكرام والفضل والإنعام، وهو يكفي عبدهُ المؤمنُ من كلِّ ما يخافُهُ ويَحْذَرُه، ويجعلُهُ يثبُتُ مع قضايا الحقِّ والعدل مهما عظُمت التَّحدِّيات وكبُرت المخاطر وازدادت الألآم، فالثِّقة بالله تعالى هي من شمائل المؤمنين الصَّالحين الَّذين يتَّقون الله ويُسلمون أمرهم إليه. وقد ورد في الحديث الشَّريف: كُن على ثقةٍ بما في يد الله أكثر مما في يدك.
أيُّها الإخوة المؤمنون.
إنَّ من أهمِّ ما يجبُ أن نستفيدَهُ من شهر رمضان، هو أن نطهِّر قلوبنا، ونُنَقيَ أرواحنا، ونخلص لله تعالى وحده نيَّاتنا، وأن نعمل صالحاً ولا نشرك بعبادة ربنا أحداً، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {الكهف:110} وأن نتزوَّد منه لما نسنقبله من أيامنا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى {البقرة:197} وأن نشعر بعظمة الله في نفوسنا، وأن نثقَ به ونتوكَّل عليه في كلِّ أمورنا، وهذا هو سرُّ التقوى، الَّتي يحدثِّنُا عنها علي(ع) حين يقول في صِفَةِ المؤمنين: عَظُمَ الخالقُ في أنفُسِهِم، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعيُنِهِم. وبهذا نكونُ من الَّذين ندعو الله تعالى في كلِّ ليلةٍ في دعاء الإفتتاح أن يرحمنا ويوفِّقنا لنكون منهم، حين نبتهل إليه قائلين: إلهي ربحَ الصَّائمون، وفاز القائمون، ونجا المخلصون.
وإنَّ من أهم ِّ ما نستفيدُهُ من شهر رمضان أيضاً، هو أن نستقيم كما أمرنا الله تعالى في خطِّ طاعته، فنلتزمَ صراطَهُ المُستقيمَ ونتَّبِعَهُ ولا نتَّبعَ سواه، وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{الأنعام:15} أن نكون مع الله تعالى فلا نوالي إلَّا أولياءه، ولا نعادي إلَّا أعداءه، ولا نخشى في ذلك لومةَ لائم، ولا ظلمَ ظالم، ولا عُتوَّ مستكبرٍ، لنكون ممَّن ينطبق عليهم قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران:173-174-175}
ومن هنا نطلُّ على ما يجري في عالمنا الإسلامي، حيث نلتقي اليوم، في آخر يوم جمعة من هذا الشهر المبارك، مع (يوم القدس) الذي أراده الإمام الخميني(قده) يوماً عالمياً يرمز لقضيَّة المسلمين المركزية، التي هي القضية الفلسطينية، بحيث يعيش فيه المسلمون كلَّهم حالة الشعور بالمسؤولية تجاه أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ويأتي هذا اليوم في ظل أكبر هجمةٍ همجيَّة يتعرض لها قطاع غزة، بعد ثلاثة أسابيع من العدوان الصهيونيّ على شعبه، حيث يُمعن الإحتلال في إستباحةَ الدَّم الفلسطينيّ، وفي قتل الأطفال والنساء والشيوخ من أهل القطاع.
وقد جاءت مجازره الأخيرة في الشجاعيَّة وخزاعة، لتُبرز مدى الحِقد والهمجيَّة والإجرام الذي يحمله هذا العدو، حيث يحاول تغطية فَشله في حربه البريّة من خلال تقصُّد إيقاع عددٍ كبيرٍ من الضحايا المدنيّين عبر القصف الجويّ والمدفعي، دون أن يرفُّ ضمير دول العالم المستكبر أو يرتفع صوتها إستنكاراً لهذه الجرائم البشعة، بل إنها تُقدِّم لها المبررات، لتصبح بذلك، شريكةً في دم أطفال غزة.
وتَبقى المقاومة الفلسطينية هي الردُّ الكبير على همجيَّة العدو، حيث تدكُّ صواريخها عمق الكيان الصهيوني، لتصل إلى تل أبيب، وتضرب عمق الأمن الصهيونيّ، وتضع كلَّ مُستَوطنيه في مرمى نيرانها، لتُثبت للعدو، أنها قادرة على أن توجعه في العمق، وتضربَ عنجهيَّته وتعطِّلَ حركة مَرافقه الحيويَّة ومطاراته الرئيسية.
كما يواصِل أبطال المقاومة إنجازاتهم وثباتَهم في الميدان، دونَ ان تهتزَّ أقدامهم أو ترتجف أيديهم، رغم عنف القصف الصهيوني، فيستمرون بضرب جيش العدو وقتل جنوده، في مواجهاتٍ بطوليَّة شبَّهها إعلام العدو ببطولات المجاهدين في بنت جبيل في تموز 2006، حين أسقطوا نُخبةَ جيش العدو، وحطَّموا كرامته وعُنفوانه.
وهكذا يغرقُ جيش العدو في مستنقعِ الحرب البريَّة التي شنَّها بهدف إستعادة هيبته وقدرته الردعيَّة، فإذا به يَلقَى ضرباتٍ موجعةٍ ستترك أثرها الكبير على صورته ومعنوياته، لتتكرَّسَ هزيمته في مقابل إرادة المقاومين وإيمانهم، حيث تؤدي الخسائر البشريّة الكبيرة التي تلحق بجيش العدو، إلى إرباك مخططات الحكومة الصهيونية، ويفاقم مستوى الإعتراضات الداخلية على هذه الهزائم بسبب إرتفاع كلفة الحرب البرية، حتى باتت حكومته تستنجد بالتدخلات الدوليَّة، من أجل إنقاذ ماء وجهها، للخروج من المستنقع الذي وقع به.
لقد أعادت هذه الحرب تصويب البوصلة، وفضحت كلَّ الحركات التكفيريَّة الحاقدة، التي لم يرتفع لها صوت في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي كشَف خلفيَّاتها وحقيقتها، كما كشَفَت كلَّ الأنظمة العربية العميلة، التي تنفخُ في نار الفتنة المذهبيَّة وتُمارس كل أنواع التحريض بين السنة والشيعة، حيث سَقطَ القناع عن وجهها من جديد، وبات من الواضح أنها تقف في صف العدو، فالدول التي نددت بالمقاومة في لبنان عام 2006 ووقفت موقف الصمت والتواطؤ مع العدوان بل والتآمر على المقاومة، تتخِذ اليوم نفس الموقف المُخزي، رغم أن حركات المقاومة في فلسطين هي سنيَّة المذهب، مما يكشف حقيقة هؤلاء الذين يستّغلّون الخلافات المذهبية لتمزيق الأمَّة، في حين يتآمرون مع العدو لإسقاط قوى المقاومة.
إنَّ غزة اليوم، تعيد تصويب البوصلة نحو القدس، وتكشف حقيقة الصراع بين من يتمسَّك بالمقاومة التي تُمثِّل شرف الأمَّة، وبين مَن يُناصبها العداء، وخصوصاً أمريكا وإسرائيل وجميع المتآمرين في الداخل والخارج. لكن، يبقى الأمل الكبير بالله تعالى وبالمقاومين، من أجل إسقاط كلّ كيدهم ومكرهم، وصناعة مستقبل جديدٍ وإنتصارات جديدة لهذه الأمّة إن شاء الله…
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } {التوبة:105} والحمدُ للهِ ربِّ العالمين