#مقال #سوسن_غبريس #بينات
كانت المرأة في كربلاء حاضرة بقوّة، وقد حفرت في صفحات التّاريخ صورًا مشرقة للمرأة الثّائرة الّتي لا تستسلم لضعف، ولا تستكين لظلم، ولا تسكت لمستبدّ، مثبتةً أنّها تستطيع أن تسجّل حضورها عند المواقف الحاسمة والمعادلات الصّعبة، وأن تكون رقمًا صعبًا يُحسَب له ألف حساب.
وقد رأينا كيف كانت تسند الزّوج وتقوِّي من عزيمته، وتدفع بولدها الغالي إلى ساحة المعركة لمؤازرة القائد، وتفتدي الإمام بنفسها، وتصبر على كلّ المصائب والبلاءات، وما كان أصعبها وأكبرها!
ولكنَّ واحدة من أولئك النّسوة تميَّزت بتأثيرها وحضورها الّذي أحدث كلّ الفرق، ولا سيَّما بعد انجلاء غبار المعركة، وغيَّر من المسار الّذي أراد يزيد تثبيته على أرض الواقع؛ وهو هزيمة الحسين (ع) ومن كان معه، وإسكات كلّ صوت معترض، وضرب مشروع أهل البيت (ع)، وتكريس زعامة قائمة على الغدر والاستبداد والهيمنة والقمع والدكتاتوريّة، بعيدًا من خطّ الرّسالة، وبعيدًا من حريّة الاختيار ومعايير الحكم الصَّائبة.
إنّها زينب بنت عليّ (ع)، الّتي لم تواجه يزيد وتردّ عليه من باب الانفعال الشّخصيّ، وإنّما انطلقت من مخطّطٍ مدروسٍ رسمته مع الحسين (ع) لمواصلة المعركة؛ بحفظ المسيرة، وحماية العيال والنّساء، وفضح ادّعاءات يزيد وأنصاره بحقّ أهل البيت (ع)، وإجهاض كلّ محاولات تشويه صورتهم أو الإساءة إلى مبادئ الرّسالة، وإيصال حقيقة الثّورة إلى كلّ المسلمين، وهذا كلّه كان يتطلّب عزيمة صلبة كالحديد، ومجهودًا جبّارًا، ويتطلّب أيضًا وعيًا وثقافة وقدرة وكفاءة، والأهمّ من كلّ ذلك، إيمانًا راسخًا بمبادئ هذه الثّورة وأهدافها، حتّى لا تضيع في متاهات الزّمن وصفحات التّاريخ وتشويهات المغرضين والنّاقمين.
وهي لأجل ذلك، واجهت الطّاغية الأكبر في ذلك الوقت، وردّت عليه، ولم تسمح له بالشّعور بنشوة الانتصار، لا بل إنّها قلبت الطّاولة عليه، وعكّرت من هناء فرحته بالانتصار، عندما أخبرته أنّه لن يستطيع أن يمحو ذكر أهل البيت (ع)، حتّى وإن قتل القائد، ولا أن يميت وحيهم، وأنّ هدفه هذا ما هو إلّا وهم، وأنّ القادم من الأيّام سيثبت له هذا الأمر، وهو ما أثبتته فعلًا.
إنّ ما فعلته زينب (ع)، في ظلّ كلّ الضّغوطات الهائلة الّتي كانت تمارَس على أهل البيت (ع)، والسّعي الحثيث لضرب معنويّاتهم وكسر عزيمتهم وإسكات صوتهم ومنع اعتراضهم وإلغاء دورهم، كان عملًا استثنائيًّا من شخصيّة استثنائيّة بطلة، عرفت كيف تقود المسبرة بعد استشهاد القائد، وكيف تؤدّي المسؤوليّة على أكمل وجه، وتصل بالمركب إلى برّ الأمان، وتحوِّل الدَّم المهدور في كربلاء إلى صرخة مدوّية في وجه الظّالمين، وإلى شعلة للأحرار في كلّ زمان ومكان.