الإهتبال السياسي والإسهال الكلامي

مزامير الضاهر

صادق النابلسي
كل من سار على الدرب وصل. هكذا قال ابن الوردي. وخالد الضاهر من الذين ساروا فوصلوا. تخطّى الرجل كل مجايليه، بفرادة صوتية دلالية لافتة، وبمهارات في الاهتبال السياسي (تراجع قواميس اللغة) قلّ نظيرها. عمل بجدّ لإنضاج شخصيته وصقلها بالتجارب، لعل واحدة منها تكشف سرّه للملأ وتدخله مملكة الشهرة والقدرة، فيقوم العالم على قيامته.
مرّ الرجل، الذي بُشِّر به، بمراحل تحوّلٍ مذهلةٍ بحياته، لكنّه في النهاية استوت سفينته على الجودي الداعشي. ملّ من شخوص 14 آذار. من تيهها وتأزّمها ورتابتها وبلادتها في التعامل مع(المشروع الإيراني الصفوي الفارسي الشيعي الذي يبغض العرب والمسلمين). الرجل ربما استعار في البداية كلماتهم وتعابيرهم وقلّدهم في بعض خطاباتهم، لكنّه في النهاية، بكيمياء الإبداع العجيبة لديه، تجاوز الجميع ليشقّ طريقه الخاص. وهذه دائماً إشكالية المبدع، يريد أن يخرج من التراث. 14 آذار صارت من الماضي، من تراث ممجوج، من أطلال متهالكة جعلتها في قطيعة مع الجماهير، وهو يستهوي مخاطبة الناس بدون ترفع وخوف وكلفة.
من هنا، يقف الرجل مع كل جديد، يحب الحداثة والحداثويين. داعش وحاشا ولمَ لا. داعش بالخصوص أعطته إحساساً آخر. أصبح لكلماته وقع السحر والرعد والإثارة. كلماته باتت كائنات حيّة لها القدرة على الفعل والتغيير وتحشيد الناس ودفعهم لمواجهة حزب السلاح. يعرف أنّ الجماهير لا تأتي دائماً للاستماع إلى أحدٍ إلا عندما يكون حاملاً لقضية، ومَن أقدر منه على حمل القضايا الكبرى والدفاع عنها. أليس الرجل منذوراً لمهمة مهدوية ثورية خلاصية، وكل ما شاءه على هذا الدرب هو اجتهاد في إخراج الناس، كل الناس، من تابوت الخطيئة والأحاسيس المثقلة بالذنب إلى الفردوس الداعشي!
اليوم، ثمة شبه إجماع داعشي على أنّ المرحلة مرحلة خالد الضاهر. خرج الرجل عن صمته وزهده بحكم الضرورة لا غير، وقال ما لم يقله صحابي قبله. قال، إنه مبشّر به، كما ليلى عبد اللطيف وآخرون لمّا يلحقوا بهما. فهو الأجدر على ثلم الوعي باستنباط لغة مستقاة من عجينة الخِلْقة التي اختصه الله بها، ومن السيرة التاريخية عندما كان كائناً مغلوباً على أمره زمن الوصاية السورية وبعدما أصبح (القاهر بالله) زمن الفتوحات الداعشية، ومن الهمّ الجامح بإقامة خلافة يكون هو والياً على إحدى إماراتها!
في مؤتمره الصحافي الخرافي بدا الرجل في قلب ساحة الوغى. يريد أن يجعل لنفسه مكاناً في الصدارة، يسعى للانتقال من كونه ممثلاً (للشعب) إلى ظاهرة، لا ينقصه سوى تعديل بملامحه ليصبح كوميديان.
وللإنصاف، الرجل لم يواجه في حياته عقبات تعبيرية وحركية وحتى تكفيرية. كل المواصفات المطلوبة متوفرة فيه، وتكنيك الوقوف على المسرح وموهبة الإضحاك والإثارة ملازمة له بالفطرة، كما أنّ الإسهال الكلامي خاصية في الداعشيين الجدد. الرجل لا يقول إلا الحق ولا ينطق عن الهوى، لذلك حرص على إدهاشنا بنص مقدس لا لبس فيه مفاده أنّ حزب الله هو مَن قام بتفجير حارة حريك وهو مَن قتل المارة في الشوارع لتعبئة جمهوره، وأنّ المحور السوري الإيراني هو من قتل محمد شطح، وعلينا أن نصدقه بأقواله وبشارته وندعو له بعد كل صلاة مرددين آمين آمين!
حقاً، الفظاعة لا تقاس بالكمية فقط، وإنْ كان نصيب اللبنانيين منها كبيراً في المدة الأخيرة. في الخطر ما يكفي، وفي التناقضات ما يحول بين المرء وقلبه. خليط من الساديّة والديماغوجية المصطبغة بأفكار دينية سطحية تفوّه بها الرجل الـ(ضاهر) من دون أنّ ينجح أحد ما في مقايضته بالاستغناء عن أوهامه. بتُ أحسب أنّ من الضروري تدريب السياسيين ورجال الدين، قبل أن يتبوأوا مناصب عامة، على التفريق بين الهذر والرأي الشخصي. بين الموقف السياسي والمخاطبة اللاعقلانية لعواطف الناس وغرائزهم.
أن تكون سياسياً يعني أن تبحث عن قبس مضيء في عيون المستقبل.أن تتسلح بالإيمان النقي، وبالحب الإنساني لتكون شريكاً للناس في عيشهم وأمنهم وكرامتهم. تحاورهم وتفهمهم وتتفهمهم، وتعيد لهم الشعور بدهشة التآلف والتنوع والتآخي لا أن تتلو عليهم مزامير التكفير والتهديد والكراهية.
قديماً قال الإمام علي لتلميذه كميل بن زياد: “يا كميل: القلوب أوعية فخيرها أوعاها، واحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالمٌ ربانيّ، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع”. فاقتضى مني التذكير والتوضيح!

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …