ما حدث يوم الجمعة 20 حزيران الماضي لم يكن، بوقائعه الأمنيّة وتداعياته السياسية، يوماً عادياً عابراً. ولا الأيام التي تلَته بعد الذي أصاب الطيونة والروشة. كان ذلك اليوم في رأي المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الشرارة المتعمّدة إلى امتزاج التخريب والتدمير بالإغتيال السياسي والدم البريء. لكن ثمّة ما كان أدهى من ذلك كلّه، وكان قد وضعَ البلاد على فوهة بركان مذهبي، أو ما يُشبه إحداث انقلاب بكلّ ما للكلمة من معنى، لكنّه لم يقع.
نشَرت مجلة “الأمن العام” في عددها العاشر تقريراً مفصّلاً عمّا حصل في ذلك اليوم، فقالت إنه في السادسة صباح الجمعة 20 حزيران، وللمرّة الاولى في مثل هذا الوقت وبهذه العجلة، دخَل مدير مكتب المعلومات في المديرية العامة للأمن العام العميد منح صوايا الى مكتب المدير العام اللواء عباس ابراهيم بينما كان يمارس رياضته اليومية، وأبلغ إليه توافر معلومات خطيرة وصلت للتوّ، تفيد بأنّ أشخاصاً يُحضّرون لعمل إرهابي كبير.
حُدِّد مكان تجمّعهم في فندق “نابليون” في شارع الحمراء، ورأى صوايا ضرورة التحرّك لاعتقالهم. فطلب منه ابراهيم إطلاع مديرية المخابرات في الجيش ورئيس فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي العميد عماد عثمان على الأمر، وعقد اجتماع أمني في المديرية العامة للامن العام.
بعد وقتٍ قصير اجتمَع العميدان صوايا وعثمان، في موازاة تواصل مفتوح مع مديرية المخابرات، وقرّرا التحرّك بعد مخابرة رئيسي مجلس النواب نبيه برّي والحكومة تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق، وإخطارهم بفحوى المعلومات، والإلحاح عليهم عدم مغادرة منازلهم في هذا اليوم. وأصرّوا كذلك على برّي إلغاء احتفال “يوم المخاتير” في قصر الاونيسكو الذي دعَت اليه حركة “أمل”، على أن يتحدّث فيه رئيس المجلس النيابي. وفي وقت لاحق، دهَمت قوة من الأمن العام وشعبة المعلومات فندق “نابليون” في شارع الحمراء، واعتقلت أشخاصاً تبيَّن أنّهم من جنسيات عدة.
كان من المقرّر أن يتوجّه ابراهيم عند الحادية عشرة إلّا ثلثاً من ذلك اليوم الى البقاع لتفقّد شعبة مُحدثة في مركز الامن العام في المصنع، هي شعبة مكافحة المستندات المزوّرة، على أن يُلبّي دعوة الى غداء في شتورة يحضره عدد من الاصدقاء، ويتَّسم بطابع عمل سياسي ـ اجتماعي. كانت الثغرة، التي يصفها ابراهيم بـ”الخطيئة”، في تحديد الموعد قبل اسبوع، ناهيك عن تزايد عدد المدعوّين الى الغداء، ما كشف خبر ذهابه الى شتورة. وفي التقويم الشخصي والتقدير الامني، تنبّه ابراهيم لاحقاً إلى الهفوة التي يقتضي أن يتفاداها المهدَّدون بعدم تحديد مواعيد مسبقة في أماكن عامة، او الإفصاح عنها قبل وقت مبكر هاتفياً او بأيّ وسيلة اخرى، في معرض حاجتهم الى اتخاذ اقصى درجات الحيطة والحذر.
وبسبب كثرة المدعوّين شاع الخبر، فاستفسر ضباط الامن العام في البقاع من ابراهيم عن صحّة الغداء وانضمامه اليه، وذكروا له أسماء مدعوّين جدد. وكان تقويمهم أنّ العدد بات كبيراً والحفل مكشوف تماماً.
تزامَن الغداء مع ما كان صدَر صباحاً في جريدة “النهار”، نقلاً عن محطة تلفزيون إسرائيلية ذكرت أنّها حصلت على وثيقة من جهاز “الموساد” تكشف عن تحضير “كتائب عبدالله عزام” لاغتيال شخصية أمنيّة لبنانية، رجَّحت أن تكون ابراهيم. وعَزت الوثيقة معلوماتها الى عملاء في مخيم عين الحلوة، أفصحوا عن تجهيز إرهابيّين محترفين من الخبراء الشيشان سيارة مفخّخة ووضعها في تصرّف وفد فلسطيني رسمي اعتاد لقاء ابراهيم في بيروت، من دون علم اعضاء الوفد، بغية تفجيرها خلال لقائهم به. وقد سَبقَ ذلك معلومات وصلت بنحو يوميّ، تقريباً، في الاسابيع المنصرمة، من مصادر أجهزة استخبارات محلية وأجنبية، تحدّثت عن تخطيط للمحاولة.
يروي ابراهيم لـ”الأمن العام” تلك اللحظات: “قرّرتُ تلبية الدعوة الى الغداء على رغم تحذير الضابط المرافق من خطورة التحرك في ذلك اليوم. نظّم الضابط المرافق أربعة مواكب تمويهيّة كنت في أحدها، ومنَعني من استخدام الهاتف في السيارة طيلة الطريق التي يسلكها الى البقاع. في الطريق أخبرني عناصر الموكب أنّهم لاحظوا أنّ سيارة رباعية الدفع من نوع “مورانو” حاولت تجاوزه مرتين بعد بلوغ صوفر. لم أنتبه اليها، إلّا أنّ عناصر الموكب أكّدوا أنهم لاحظوها، فيما كان الموكب يشقّ طريقه مسرعاً. طلبتُ من الضابط المرافق تخفيف السرعة بحجّة أننا نقترب باكراً من الموعد، على رغم أنّ تعليماتي تقول بالقيادة المسرعة في الغالب”. ويضيف: “طلبتُ أيضاً عدم تجاوز سيارات العابرين والانتظام في صفوفها. وقبل أن نصِل الى حاجز قوى الامن الداخلي عند ضهر البيدر، بنحو 200 متر، دوّى انفجار، وكان موكبان من المواكب الاربعة المموّهة قد تجاوزا ضهر البيدر. طلبتُ إكمال الطريق الى مكان الانفجار على رغم أنّ في الامر خطأ، ما يقتضي ـ لأسباب أمنية ـ العودة فوراً الى بيروت. وعند حاجز قوى الامن كان العسكريّون الجرحى مضرّجين بالدماء، بينهم عنصر في الامن العام صودِف وجوده في المكان، نُقل فوراً الى المستشفى.
أخطرني أحد عناصر الحاجز أنّه تلقى تعليمات بتوقيف السيارة الرباعية الدفع عند وصولها وتفتيشها بعد الاشتباه بها، لكنّ راكبها سرعان ما فجَّرها عندما اقترب منه المؤهل اوّل محمود جمال الدين وفتح باب السيارة لتفتيشها”.
بعد انقضاء دقائق على الإنفجار، اتّصل وزير الداخلية باللواء ابراهيم وسأله عن مكان وجوده، قبل أن يُعقّب: برافو عليك. تنصحنا بعدم مغادرة بيوتنا ثم تخرج أنت؟!.
اتصل به أيضاً قائد الجيش العماد جان قهوجي قائلاً: لا تقل أين أنت. عُد فوراً الى بيروت. الحمدالله على السلامة. على الفور استدارت المواكب الاربعة وعادت الى بيروت.
عندما يُسأل إبراهيم عن الترابط الذي تحدّثَ عنه بين دَهم فندق “نابليون” وتفجير السيارة المفخخة، يقول: “أعتقد انه أسيء فهم الكلام. لم أقصد أنّ الحادثين مترابطان في ذاتهما، بل إنّ لبنان كان مقبلاً على يوم أمني خطير، من خلال التخطيط لمجموعة اهداف امنية. أوحَت المعلومات التي توافرت لدينا صباح الجمعة بأنّ الامر ليس مجرّد عمل امني واحد فحسب، بل يُشبه إحداث انقلاب في البلد بكلّ ما للكلمة من معنى من خلال تعميم الفوضى فيه، بتنفيذ هجمات إرهابيّة من بينها تفجير شاحنة وسيارات عدة مفخخة في اكثر من منطقة. كان التخطيط لعمل كبير تنجم عنه ارتدادات في حجمه. هذا هو المقصود بالترابط، وهو اشاعة جوّ من الرعب والذعر بغية ايصال البلد الى ما لا تُحمد عقباه”.
وعن أهميّة المعلومات التي تلقّاها الأمن العام من أجهزة استخبارات محلية وأجنبية، يصفها بـ”صديقة وشقيقة”، يقول ابراهيم: “معلومات دقيقة ورصينة. لم تتوقّف عند يوم انفجار السيّارة المفخخة يوم الجمعة فقط. لأنّ اليوم التالي، السبت، تلقيتُ من المصادر نفسها معلومات مقلقة تصبّ في الاتجاه ذاته، وانّ مراقبة تحركاتي وتنقلاتي لا تزال مستمرة وتكثّفت اكثر. بات في حوزتنا كمّ هائل من المعلومات من الأجهزة الامنية اللبنانية وأجهزة استخبارات خارجية في النطاق نفسه”.
ويؤكّد إبراهيم أنه “في لعبة الأمن ومكافحة الإرهاب، يعرف كلا الطرفين ما يفعله الآخر، وهو مُصرّ على دوره. هذه هي لعبة مكافحة الإرهاب. ينبغي أن ترضى بأداء المهمة وتتحَمَّل الكلفة أحياناً نظراً الى خطورتها. الأمن العام ارتضى المهمة برمّتها، وهو جاهز لحمل العبء والثمن اذا اقتضى الأمر في سبيل اجتثاث الارهاب”. وعن التنسيق والتعاون مع اجهزة استخبارات عربية ودولية، يجيب: “لسنا في جزيرة معزولة. العالم أضحى قرية صغيرة، إلّا انه أصبح كله مهدّداً. الارهاب بات تهديداً دولياً، والمواجهة يجب أن تكون دولية”.
(الجمهورية)
عباس ابراهيم – تفجير ضهر البيدر – فندق نابليون – التفجيرات في لبنان