لم يتريَّث الرئيس سعد الحريري كثيراً. الجواب كان سريعاً. قال رداً على خطاب السيد حسن نصرالله في ذكرى التحرير: «إنك تأخذنا إلى الهاوية». وكان هذا الرد متوقعاً. المشترك بين الرجلين هو الافتراق المتبادل. البارقة الوحيدة بينهما، هو الحوار الباهت والصامت، الذي يمارس طقس الكلام، ورعاية الاختلاف والخلاف، في جلسات تعقد في مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري.
لا مفر من جواب هادئ عن السؤال: «إلى أين تأخذ لبنان يا سيِّد»؟
في المقدمات، سبق أن عاش لبنان مأزقه الجغرافي المزمن. هو موجود في منطقة لا راحة فيها لدولة أو نظام أو شعب. وجوده على تخوم الحرائق، كان مثار قلق، وسبب انقسام. حياده صعب وانحيازه مكلف، ولا مفر من الانحياز، فهو القاعدة، والحياد سراب.
في التوصيف، عرف اللبنانيون حروبهم وحروب الآخرين عندهم. ما كانت تلك الحروب بأسباب داخلية. الخارج نسيج من الداخل، والداخل ليس ظلاً للخارج، بل أهل له. خمسة عشر عاماً من حرب لبنان انتهت، ولم تنهِ الاحتلال الإسرائيلي لجنوبه وبعض بقاعه. كانت الدولة في هم آخر.
في الأساس، الدولة اللبنانية تشبه شعبها، بل هي تعبير عن طوائفها ومذاهبها. وهي ليست فوق الطوائف والمذاهب، بل هي تعبير عنها، وعبّارة، تعبر عليها الطوائف، وفق رغباتها وغاياتها. إذا تصالحت الطوائف، سلمت الدولة، وإذا اختلفت فرغت من وظيفتها.
في مقدمات الاحتلال الإسرائيلي، كانت الدولة تتحصن بمقولة، «قوة لبنان في ضعفه». انحياز فريق من اللبنانيين إلى فلسطين، بدَّل المقولة. ارتفعت شعارات «القوة هي القول الفصل في تحرير الأمة». وعندما سقط ضعف لبنان، استقوت الأطراف على الدولة، وأخذت حصتها منه. الفريق الذي ناصر فلسطين والمقاومة، استنفر الفريق الذي يعاديها، فرفع شعار الدولة والسيادة والقرار الموحد. اصطدم الفريقان، وانتهت بغلبة إسرائيل، فاجتاحت لبنان واحتلت أرضه ودمرت شعبه وحاصرت عاصمته.
في ما بعد، تكرَّس نهج جديد. الدولة عاجزة ومنقسمة، أما المقاومة، فالمدى أمامها مفتوح: واجهت العدو في كل مكان تطاله بندقيتها، حتى أخرجته مهزوماً من الأراضي التي احتلها وأقام فيها، زهاء ثمانية عشر عاماً.
في النتائج: لولا المقاومة، وتحديداً لولا «المقاومة الإسلامية»، لما كانت إسرائيل قد تدحرجت هاربة. لولاها، لأصبحت الأراضي اللبنانية شقيقة للجولان السوري المحتل. الدولة اللبنانية الضعيفة، كانت حائرة بين تأييد مشلول، وعدم رغبة دفينة. تفضل الدولة الاستكانة إلى الدعم الدولي الفاشل، والقرارات الرخوة، والوعود الوهمية. هذه هي الدولة. إنها مرجعية للعجز.
في الانتصار، تكرَّست قاعدة وأثبتت الوقائع نهجاً. الأنظمة فاقدة للأهلية في المواجهة. أفضلها من انتظر ولم يوقع، أو من لم يستسلم. الجيوش كذلك، برغم ضخامة آلتها العسكرية وبذخ الإنفاق عليها. وحدها المقاومة هزمت إسرائيل في لبنان، فيما الدولة كانت شاهداً محرجاً أحياناً، أو داعماً أحياناً قليلة. فلولا المقاومة، لكان لبنان في «الهاوية». ولو كانت الجيوش العربية التي واجهت إسرائيل، مدعومة بمقاومة شعبية منظمة، لما خسر العرب فلسطين، ولما وقعت في «الهاوية».
في وجوه الشبه، بين مواجهة الاحتلال ومواجهة الحركات التكفيرية كـ «داعش» و «النصرة» و «القاعدة»، أن دولة العراق، تتعثر وتخسر في القتال، وتتراجع أمام موجات الاكتساح لمناطق واسعة، تستسلم بسهولة. الدولة، بأجهزتها العسكرية، فاشلة. لا طاقة لها ولا قوة ولا توحد حول قراراتها. سقطت الموصل بلحظة والأنبار مثلها. فلا ساعدها تحالف دولي ولا محور صديق. «الحشد الشعبي»، يعوّل عليه، لأنه يتشبه قتالاً وعقيدة بفصائل المقاومة في لبنان… في وجوه الشبه، أن الدولة والنظام والجيش في سوريا ينتقلون من خسارة إلى خسارة. وما خسروه لا قدرة لأحد على استرجاعه. الفارق بين سوريا والعراق، أن الأولى تخلّى عنها العالم ويريد إسقاطها، فيما تتنازع الدول على مساعدتها بشروط.
في الحتمية، أن «داعش» ليس تنظيماً كيانياً أو قطرياً. هو تنظيم عابر للحدود والأوطان والكيانات. وهو من طبيعة مختلفة وخاصة ووحيدة. يعتبر العالم كله مدى لحربه وكل من لا يشبهه أو يتشبه به عدو له. خطره على لبنان، كخطره السابق على الشيعة والأيزيديين والمسيحيين والسنّة المعتدلين والسنّة المخالفين له والمختلفين عنه ومعه. لبنان، في مرماه المؤجل مؤقتاً. وخلاياه في مناطقه تعيش بعيون مفتوحة. وانتظاره، أو استبعاد قدومه، يقود لبنان حتماً إلى «الهاوية».
السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، تقدم الصفوف لقتال «داعش» ومن يتشبّه به. تماماً كما تقدمت المقاومة الصفوف لقتال «إسرائيل». وليس مستهجناً أن لا يتوحد اللبنانيون حول ذلك. غير أن الخطر التكفيري المتعاظم، أشد مرارةً من ارتكابات الاحتلال الإسرائيلي. إسرائيل إعدام للأرض. «داعش» إعدام للأرض والشعب، إعداماً مادياً، لا معنوياً.
طبعاً، سيستفيد النظام السوري من دعم «حزب الله»، والحكمة تقتضي التمثل بالقول «ربَّ ضارة نافعة». فانهيار النظام في سوريا، يفتح الطريق أمام «داعش» إلى قلب لبنان. صمود النظام ليس مطلوباً لذاته، بل للبنان واللبنانيين، مهما كانت فداحة ذلك.
غير ذلك، الهاوية هي تحت أنظار اللبنانيين وأمام أقدامهم.
السيد يأخذ لبنان بعيداً عن الهاوية. قد لا يفوز على «داعش»، ولكنه بالتأكيد يبعد خطره عن لبنان وعن اللبنانيين، بمن فيهم تيار «المستقبل».
المصدر: السفير