إضاءات موجزة حول «اللغة» في المنهج التفسيري للعلامة محمّد حسين فضل الله

بقلم: الأستاذ محمّد طرّاف

في البداية لا بدّ لي أن أشير بأنّني في هذه الكلمة المتواضعة، لن أتحدّث عن المنهج التفسيري كلّه عند العلامة المفسّر السيد محمد حسين فضل الله (2010م) ـ رحمه الله ـ بل سوف أسلّط الضوء فقط على جوانب قليلة محدّدة.الجانب الذي أودّ الحديث فيه هو الطريقة التي يعتمدها السيد فضل الله في تناول الجانب اللغوي، وقراءته القرآن من خلال هذا الجانب.وليس هدفي هنا سوى تقديم محاولة توصيفية تحليليّة بسيطة أقارب من خلالها المشهد اللّغوي عنده، وكيف كان يقرأ النص القرآنيّ من الزاوية اللّغوية طبقاً لقناعاته الخاصّة.جميعنا يعرف ـ بطبيعة الحال ـ أنّ السيد محمد حسين فضل الله هو من الرعيل النجفي الذي كان يعيش في الفترة النجفية اللّغوية المزدهرة، وهي فترة الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات.. من القرن الميلادي الماضي، فالنجف في هذه الفترة كان فيها نشاطٌ لغويّ وأدبيّ عالٍ؛ ولذلك وجدنا نوعاً من التزاوج والدمج بين الشخصيّة العلمائيّة والشخصيّة اللغوية العربيّة، فظهرت أقلامٌ مُبدعة في ميدان الكتابة والنثر العربيّين مثل السيد عبد الحسين شرف الدين والسيّد محسن الأمين والشيخ محمد رضا المظفر وأمثالهم، إلى جانب ظهور فقهاء لغة مثل الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي.. وهو ازدهار ربما يكون قد تأثر كثيراً بالنزعة العروبيّة والقومية التي عمّت العالم العربي في القرن العشرين، وتركت بصماتها على الاهتمام باللغة العربية عموماً.هذه الفترة كانت فترة ازدهار متميّزة، وكانت هناك مجلات ونشريّات أدبية متنوّعة، وكان طلاب الحوزة قريبين جداً من القضية اللّغوية بطريقة أو بأخرى. ليسوا كلّهم بطبيعة الحال، وإنّما فريق بارز منهم بالحدّ الأدنى.معالم المقاربة اللغوية القرآنية عند العلامة فضل اللهلقد وضع العلامة فضل الله في قراءته لموضوع اللّغة التي يُبنى عليها النص القرآني مجموعة من الأسس، أشير هنا لبعضٍ منها باختصار وفقاً لتحليلي الشخصي:1 ـ عقلائيّة اللغة القرآنيّةأوّل المعالم والأسس هو عُقلائيّة اللغة القرآنيّة. صحيحٌ أنّنا قد لا نجد عنده نصّاً صريحاً بكامل الفكرة التي سأوضحها الآن، لكنّ جزءاً ممّا سأقوله مستقى من نصوصه، فيما الجزء الآخر ناتج عن تحليلي لطريقته في التعامل مع النصّ القرآني.لم يكن السيد فضل الله يؤمن بأنّ النص القرآني يحتوي على لغة غير عقلائيّة، وأقصد من اللغة غير العقلائيّة، اللغةَ ما فوق العقلائيّة، لا المعنى السلبي للكلمة والذي يوحي باللغة المجنونة أو الخارجة عن العقل والعقلانيّة، فالقرآن يتكلّم باللغة التي يتكلّم بها الناس، لا بمعنى أنّ اللغة لغة عربيّة فحسب، بل بمعنى أنّ التركيب وقدرة النصّ على احتواء المعاني هي قدرة عقلائيّة في نهاية المطاف.وعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نفهم لغة نصّ من ستمائة صفحة ـ مثل القرآن الكريم ـ على أساس أنّه يحتوي مع ما لا يتناهى من العلم، فإنّ من الطبيعي أن تكون هذه اللغة التي فيه هي لغة ما فوق عقلائيّة وبشريّة، أي أنّنا نتحدّث عن شيء غير قابل للتعقيل، أو فقل: عن شيء أقرب للميتافيزيقا؛ إذ لا يمكن لنصّ من ستمائة صفحة مثلاً أن يحتوي على ما لا يتناهى، فهذا شيء فوق طاقة الوضع اللّغوي العقلاني، ومن ثمّ فإنّ تركيبة اللغة الموجودة في القرآن وبِنيتها هي بِنية يمكن أن نعبّر عنها بأنّها ما فوق عقلائيّة وما فوق عقلانيّة.يبدو من المسار التفسيري كلّه للعلامة فضل الله أنّه لا يعتقد كثيراً بأنّ النص القرآني يحتوي على لغة من هذا القبيل، فهو دائماً يتعامل بما يشبه طرائق تعامل الفقهاء، وهي الطرائق التي تنبني على أنّ الكلام الذي نتعامل معه هو لغة عادية، كما يتكلّم الناس مع بعضهم، ومن ثمّ فاختزان النصّ القرآني لطاقات خارجة عن إطار قواعد التفاهم والتفهيم المتعارفة بين الناس، هو أمرٌ استثنائي يحتاج إلى أن نقدّم دليلاً عليه.يبدو من حركة السيد فضل الله في تفسيره (من وحي القرآن) بل في سائر بحوثه وكلماته أيضاً، أنّها كانت تسير في هذا الاتجاه، فقد كان معارضاً واضحاً للتفاسير الباطنيّة والإشاريّة والرمزيّة التي تعتقد بأنّ النصّ القرآني مركّب تركيبة خاصّة غير متداولة بين الناس، على الأقلّ من وجهة نظره، لذلك كان يرفض بشدّة النزعات التأويليّة غير القائمة على معطى لغويّ، بمعنى أنّ النزعة التي تقوم على نظريّة لغويّة عقلائية مثل نظريّة المجاز التي برّرت التأويل المعتزلي، يمكن أن تكون مقبولة عنده، أمّا النزعة التأويليّة التي تقوم على شيء لا يعتمده نظام اللغة العقلائي، كأن أقول: إنّ النص القرآني الموجود بين أيدينا ليس سوى تجلٍّ أو تنزّل للعلم الإلهي، وبالتالي أنا أستطيع أن أقرأ النصّ القرآني في نسخته ما فوق الماديّة، كما قد يثار ذلك في بعض الأوساط العرفانيّة، فهو ما لا يقبله العلامة فضل الله، ولم يكن ينسجم إطلاقاً مع نمطه التفسيري.إذن، أوّل ركن يمكن أن نستنبطه من خلال تجربة العلامة فضل الله التفسيريّة، بل من خلال نصوصه المباشرة، أنّه لم يكن يقبل بأنّ بنية اللّغة القرآنية هي بنية غير ما نعرفه نحن من طرائق البيان والتبيين، وبذلك وقع التباعد الحقيقي بينه وبين بعض طرائق التأويل الفلسفي والعرفاني والباطني والرمزي.بل على هذا الأساس عينه، لاحظنا له موقفاً أيضاً من الروايات التي تحمل هذا النمط من تفسير القرآن الكريم. فعلى سبيل المثال ـ والمثال من عندي ـ صحيحة بريد العجلي التي يستدلون بها على اشتراط الصيغة في عقد النكاح، فالسيّد الخوئي كأنّما يعتبرها الدليل العمدة عنده على اشتراط الصيغة في عقد النكاح وعدم مشروعيّة المعاطاة، إنّ هذه الرواية تشرح قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: 21)، فتقول بأنّ الميثاق هي الكلمة التي يوثق بها عقد النكاح، و«غليظاً» ماء الرجل يفضيه إليها.هذا التركيب التفسيري في الرواية لا ينسجم مع البنية اللغويّة؛ لأنّ «غليظاً» وصفٌ للميثاق، فلا نستطيع أن نفهم أن يكون الميثاق هو عبارة عن كلمة النكاح، أي العقد، وأنّ غليظاً هي عبارة عن أمر مادي خارجي لا علاقة له بوصف الكلمة، إلا بضرب من التأوّل والتكلّف

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …