إحراق العلم الذي تعتمده حركة داعش يمكن النظر إليه من عدة زوايا:
١- من حيث تضمّنه للفظ الجلالة، والموقف الفقهي الشرعي عدم جواز إحراق لفظ الجلالة، ويضاف إليه اسم النبي (ص)؛ لاستلزام ذلك هتك الحرمة. ومع أن التكليف الشرعي متوجّه للمسلمين عمليًّا، قد ينظر البعض للإحراق على أنه يمثل هتك حرمة الذات الإلهية أو النبوية.
ولكنّ هذا لا يبرّر ردّة فعل حادّة ضدّ من لم يقصدوا بالإحراق هتك الحرمة، وإنّما قصدوا رمزيّة العلم بكلّيته لأمر آخر، وليس لما فيه من تفاصيل…
وعلى هذا الأساس، لو علم الذين قاموا بالإحراق بهذه الخصوصية الفقهية، لقاموا بترميز محلّ الكتابة ولما كانت هناك مشكلة من هذه الناحية.
٢- أن يقصد بالإحراق كونه موقفًا رافضًا للممارسات التي يمثّلها هذا العلم، في كونه رمزًا لجماعة موصوفة بالإجرام والقتل الوحشي وانغلاق العقل وغير ذلك. وبهذا المعنى لا يصبح الإحراق فعلًا موجَّهًا نحو الإسلام كدين، ولا للكتابة التي يحتويها العلم، وإنّما نحو سلوك الإجرام والفساد وذهنية الإلغاء والتطهير “الديني” التي تعيشها. وفي هذه النظرة يشترك المسلمون والمسيحيون، وفي المسلمين لا تتفاوت هذه النظرة بين السنّة والشيعة عمومًا.
٣- وجود خطّة شيطانية لتشظّي المجتمع اللبناني، ولعب كثير من المتضرّرين من أي تقارب سياسي واجتماعي إسلامي – مسيحي، على وتر المشاعر الدينية، للدفع في اتّجاه فتنة بين المسلمين والمسيحيين؛ بل في اتّجاه تعقيد المسيحيّين من السنّة عمومًا، ولا سيّما أن هذه الطريقة من إثارة المشاعر قد تفرض على كثيرين من المسلمين السكوت؛ لأن أيّ موقف مبرّر للإحراق سيصطدم بالحكم الشرعي (بالمعنى الأوّل الذي ذكرناه)، وسيجعل المبرِّر للإحراق مشتركًا في “الجريمة” مع الذين “يهتكون” حرمة الذات الإلهية أو النبويّة، ويستحقّ العقاب بمنطق جماعة الإجرام والإفساد.
وهذه الوجهة تحيلنا إلى قراءة الأمر من زاوية التجاذبات السياسية التي يخضع لها كلّ المشهد السياسي في لبنان منذ سنوات.
٤- أنه جزء من التعبير عن الخوف المسيحي من الدولة الإسلامية القادمة على صهوة السيف أو الجزية، هذه الدولة التي ضربت عرض الحائط كلّ الأدبيّات الإسلامية التي تصوغ العلاقة مع الأديان الأخرى، والتي تنفتح اليوم على أنّ الصيغة الفضلى لبناء الدول اليوم تقوم على “العهد” أو العقد الاجتماعي والسياسي – بتعبير معاصر-. وفي الحقيقة أنّ هذا الخوف أصبح سمة مشتركة تجمع كل من هو خارج حركة داعش وأخواتها، وبذلك فهو يشمل المسلمين كما المسيحيين. ومن المهمّ هنا أن لا نؤطر الخوف من حركة داعش أو نطيّفه أو نمذهبه، بما يدفع الخائفين للتفكير بالهروب لا بالحلول الجذرية التي تستدعي التعاون مع كل المتضرّرين من هذا اللون من الفكر والسلوك.
أمّا النقاش في أصل الحكم الإسلامي بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المسلمين أنفسهم، ولا سيّما في شكل الحكم ونظامه ومعاييره، فهو أمر فكري وليس جديدًا على الساحة الفكرية، ولا ينبغي أن يحمَّل الذين مارسوا الإحراق على أنّهم في حالة تسجيل موقف في هذه الساحة، وإنّما اعتراض على الدولة التي لها واقع ووصف وممارسات واضحة.
أخيرًا لا ينبغي التعامل مع قضيّة الإحراق وطريقة تسجيل المواقف منها بمعزل عن الأزمة التي يعانيها العقل المنغلق لدى جماعات من المتديّنين والسياسيّين، بما يفرض تحديد سبل المقاربة أو المعالجة ومستوياتها تبعًا لذلك.
جعفر محمد حسين فضل الله
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …