عندما كان المقاومون يطاردون فلول الاحتلال الصهيوني في الأيّام التي سبقت 25 أيّار (مايو) 2000م، ويفتحونَ الأبواب المغلقة التي كانت تفصلُ بين القرى الجنوبيّة من لبنان، كانوا يعلنون أنّها ليست الأرض فقط هي الّتي تحرَّرت، وإنّما الّذي تحرَّر معها هو ذهنيّة الإنسان الذي رضخ سابقًا لقناعة أنّه لا يملك القدرة على الإنجاز. وعندما يقتنع الإنسان بأنّ قَدَرَه ضعفُه، فإنّ عقله يفقد فعلًا أيّ حافز للتفكير في صناعة القوّة وتحقيق الإنجاز؛ لأنّ طاقته تصبح موجّهة نحو تأكيد تلك القناعة السلبيّة، التي تجتذب إليها الكثير من التبريرات والشواهد على ذلك “القدر المحتوم”، وبذلك يتحوّل الفشلُ إلى ذهنيّة واتّجاه وسلوك عمليّ. ولذلك قيل إنّ أوّل ما يُغلب عليه الإنسان فكرُهُ، ولعلّ قول الله تعالى: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغيِّروا ما بِأنْفُسِهِم}[1] يُشير إلى ذلك؛ ليكون الفشلُ وليدَ صورة ذهنيّة تكرّسُهُ قدرًا في الإنسان، وليكون النّجاح وليد تغييرٍ في تلك الصّورة إلى ضدِّها. وهذا كلُّه هو ما نلمسُهُ وراء كلّ الحروب الإعلاميّة التي تستهدف ضرب البنية الفكريّة والنفسيّة والرّوحيّة للإنسان، إضافةً إلى ضرب بنى التماسك الاجتماعي والاقتصادي والأمني وما إلى ذلك.
ذلك كان التّأثير الاستراتيجي الأعمق للانتصار الذي تحقَّقَ قبل أربعة عشر عامًا: تغيُّرٌ في بنية العقل، وفي شعلة الروح، وفي حركة الذهنيّة، وفي أفق التطلّعات والطموحات، وهو يمثّل اللّبنة الأولى في أيّ عمليّة نهوض للأمّة، والتي يمكن أن تشكّل فعلًا حضاريًّا متراكمًا إذا ما تحوّل الإنجاز والإبداع إلى ثقافة تنسحبُ على كلّ ميادين الحركة ومستوياتها، وإلى منهجٍ يطوّر كلّ ميادين الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم وما إلى ذلك.
هذا التأثير الاستراتيجي الكبير، يمثّل حُكمًا نقطة تهديدٍ جوهريّ لبنية الهيمنة والاستعمار والاستكبار العالمي، هذه البنية التي فَرضَت تصنيف العالم إلى عالمِ أوّل وثانٍ وثالثٍ؛ ليكون وجه ما سمّي بالعالم الثالث – ودولُنُا ومجتمعاتنا من ضمنها بحسب التّصنيف – هو الوجه الاستهلاكي، الذي يعيش على فتات موائد الآخرين، وعلى هامش اكتشافات العلوم التي لا يصلح لها إلا “العقل الأوّل”! وعلى هامش اقتصاد المجتمعات “المتحضّرة”! هذا العالم “الثالث” الذي ينبغي عليه أن يصرف جهده ليجد له موقعًا في الخطط التنفيذيّة لمراكز دراسات هذا “العالم الأوّل”، لتكون أدوارُنا، لا كأفراد فحسب، وإنّما كدولٍ ومجتمعات بأسرها، عبارة عن تخصّصاتٍ تصبُّ في خدمة ذلك العالم ورفاهيّته!
وإذا كان ذلك النوع من التأثيرات يمارس ذلك النوع من التهديد، فمن السذاجة بمكانٍ أن نتوقّع أنّ ذلك العالم “الأوّل” سيقفُ مكتوف الأيدي وهو يرى بداية نهوض أمّة، وينتظرُ ريثما يتحوّل التهديد إلى طلب الشراكة في قيادة العالم، ومن ثمّ تقديم نموذجٍ بديلٍ قائمٍ على رؤية مغايرة تتّصل فيها الأرض بقيم السماء…
لذلك، من البديهي أن يتوجّه ذلك العالمُ إلى كلّ نقاط الضّعف التي سيجدها في مجتمعاتنا، والتي تراكم كثيرٌ منها عبر الزمن، وتضخّم مع الأوهام، وتحجّر مع العصبيّات، وجمد مع الإخلاد إلى الأرض، سواء منها ما يرتبط بحركة الفكر ونوعيّة آليّاته، أو ببنية الاقتصاد ووتيرة ازدهاره، أو بقيم الاجتماع وسطحيّة بناها، أو بأنظمة الحكم وضعف تطوّرها، أو بقواعد السياسة وخواء أخلاقيّاتها، أو بخطوط الأمن وبدائيّة أدواته، وحتّى بطريقة فهمنا لأدياننا ومذاهبنا العقديّة وما إلى ذلك… وسيعملُ على إذكاء نارها، وتسريع حركتها، حتّى تصبح عصيّة على الانضباط، لتنطلق على شكلِ تناقضات تستتبعُ أخرى، لتصل بواقعنا إلى التّفجير الشّامل، “حرب المائة عام”، كما بشّر هنري كيسنجر، عقل الشرّ في سياسة الاستكبار العالمي.
كثيرةٌ هي الأحداث التي يُمكن إحصاؤها وإيرادها كشواهد على أنّ السياسة الاستكباريّة بدأت، منذ استشرفت وصول الإسلاميّين إلى هذا النوع الحضاريّ من النصر، بمسح الأرض، وتجميع الأفكار، ورسم الخطط، التي تستهدفُ كلُّها القضاء على هذا الإسلام من داخله، عبر استهدافه من الجذور، في عقيدته وشريعته ومناهج حركته وبناه الحضاريّة؛ ليغدو في نظر العالَم في صورة وحشٍ مشوّه، يمثّل خطرًا على البشريّة، وبالتالي تُصبح إبادته الجماعيّة، من الداخل والخارج، أمرًا مبرّرًا ضمن المنطق الدّولي؛ بل فيه عمق معنى الإنسانيّة والسلوك الحضاريّ، ولو من خلال القنابل الذرّية وغرف الغاز!
مع الأسف، كان الأقلَّ كلفةً على الغرب المستكبر، أن يعمل على التفجير الداخليّ، لكي تُصاب الأمّة باليأس والإحباط، وتستعيد ذهنيّتها السابقة بأنّها أمّة لا تستحقّ الحياة؛ هذا إذا صدّقت أنّها أمّة! لتدخل بعد ذلك في غيبوبة حضاريّة جديدة، هي أقسى من سابقاتها؛ لأنّ الزّمن الذي يتحرّك خارجها أصبح أكثر سرعةً وأقوى تأثيرًا.
من هنا، نطرح مفهوم “البيئة الحاضنة للنصر”، لنؤكّد أنّ تحصين النصر لا يكون إلّا بأن يكون هناك مجتمعٌ، أو أمّة، ترتقي إلى بنيته التي شكّلت قاعدة صنعه، وهذا إنّما يكون – على الأقلّ – بسدّ كلّ الثغرات التي يُمكن أن ينفذ من خلالها الأعداء ليحوّلوا النصر إلى هزيمة، وكما انطلقت المقاومة في خطّ الإعداد العسكريّ والأمنيّ، وارتكزت على بيئة اجتماعيّة حامية لها، فإنّ مرحلة ما بعد النصر لا تقلُّ خطورة عن مرحلة المقاومة في حركتها الميدانيّة الجهاديّة؛ لأنّ التحدّيات التي تواجه المجتمع، الذي تنتمي المقاومة إليه، هي مزيجٌ من تحدّيات الخارج، القائمة بتهديد العدوّ المستمرّ لكلّ عناصر القوّة، وتحدّياتٍ تنشأ من طبيعة السِّلم الّذي يهنأ به المجتمع نفسُه؛ وهي طبيعةٌ تفرض خفض نسبة التوتّرات المضادّة لأيّ تهديد، وتسمح بنفوذ كثير من الفيروسات التي تبثُّ عبر الإعلام والتربية والتعليم، واحتكاك المجتمع عبر نوازعه الانفعاليّة والعصبيّة وما إلى ذلك.
بعبارةٍ أخرى، تمثّل مرحلة الجهاد العسكري توجيهًا للاهتمام نحو الحدود القصوى للمحافظة على الحياة، كغريزة متأصّلة في البنية البشريّة، وبالتّالي تخفُّ قيمة الاهتمامات الأخرى للإنسان؛ بل قد يعتبرها هامشيّة أمام التحدّيات المصيرية التي يواجهها. أمّا عندما تستريح النفس لهدوئها ودعتها وسلام الواقع من حولها، فإنّ كثيرًا من الهامشيّات تصبح في صلب الاهتمام، وكثيرًا من الكماليّات تصبح ضروريّات؛ وهذا ما يتطلّب مضاعفة الجهود لتحصين النفس عبر عمل مستمرّ ودؤوب ومتنوّع الأبعاد. ولعلّنا نفهم ذلك الحجم من التحدّي ممّا رواه عليٌّ(ع)، قال: “إنّ رسول الله (ص) بعث سريَّةً، فلمّا رجعوا قال: مرحبًا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس”[2].
ولذلك نقول إنّ البيئة الحاضنة للنصر لا بدَّ من أن تعمل على تقوية البنية الاقتصاديّة؛ لأنّ جوع الناس قد يكون بيئة خصبة لكثير من الأمراض الأخلاقيّة والجرائم، كما أنّه منفذٌ أساس لشراء الضّمائر، ولاجتذاب الجواسيس والعملاء وما إلى ذلك.
ولا بدّ من العمل على تماسك الاجتماع، عبر تمتين معاني التواصل والتباذل والتعاون، والتفكير بذهنيّة توزيع الأدوار، وتقوية مواقع الضّعف، وذلك كلّه يرتكز على تنمية حسّ الجماعة التي تحقّق التوازن بين نوازع الفرد وطموحاته، وحاجات المجتمع وتحدّياته. وإنّ فقدان هذا النوع من التماسك، يؤسّس لتفكّك الجبهة الداخليّة التي تفتح أكثر من ثغرةٍ ينفذ منها الآخرون، وتشكّل مناخًا ملائمًا للتفلّت القيمي والأخلاقي.
ومن سبل تماسك المجتمع، إشاعة روح الوحدة، الّتي تعني التّعاون مع الآخر المختلف والالتقاء معه على “كلمة سواء”، وعلى أهداف رساليّة مشتركة، وهذا يفترض أن تكون الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة من المشاريع الأصيلة في تمتين بيئة النّصر وزيادة مناعتها. ولذلك فكلّ ما يضرّ بالوحدة، حتّى على مستوى الذهنيّة، يمثّل خطرًا استراتيجيًّا على مشروع النهوض الذي يتحرّك الجهاد لحماية عوامله وبيئته، ولا يصحّ النّظر إلى ذلك على أنّه مسألة هامشيّة، ولا النظر إلى قضيّة الوحدة على أنّها مسألة سطحيّة ظاهريّة مصلحيّة بالمعنى الضيّق للمسألة.
وليس بعيدًا عن تحصين بيئة النّصر، التحديث الدائم للنظم السياسيّة؛ لأنّ الفساد السياسي يسمح للفاسدين بأن يتحكّموا بحركة السياسة الّتي ستتحرّك وفق المصالح والنفوس الفاسدة والضَّعيفة أمام الإغراءات والترهيب، وبالتالي، يكون القائمون على إدارة شؤون البلاد والعباد، من الّذين يرتهنون لإرادات خارجيّة، تعمل وفق أجندات مصالحها، ليقف هؤلاء حجر عثرة أمام مصالح الناس، وبالتالي يفقد النّاس أمنهم الاجتماعي والسياسي، وينخر فيهم القلق على المصير، ويتحوّل الناس إلى وجودات ذات قيم متعدّدة ومتضاربة، ويصبح الاستزلام والتملّق لصاحب السلطة وجهًا من وجوه العمل السياسي، وعندئذٍ يسهل الضّغط على الشعب كلّه عبر الضّغط على قياداته “البشريّة”. وعلى هذا الأساس، كان الإصلاحُ المستمرّ جزءًا لا يتجزّأ من قواعد المحافظة على الإنجازات والانتصارات.
وليس صحيحًا أنّ بيئة النّصر تقتضي البُعد عن أسباب الترفيه، ليعيش الإنسان الإحساس بالموت قبل أن يأتيه، فقد ورد في الحديث: “روّحوا القلوب ساعةً بساعة”؛ لأنّ الملل قد يصيب القلوب كما الأبدان، وبالتّالي، يكون ذلك سببًا في تجدّدها.. وعلى هذا الأساس، فالجهاد لا يتنافى مع السّياحة، بل يفرضه، ولكن ضمن الهادفيّة والقيم؛ لأنّ المطلوب هو تخفيف حدّة التوتّرات النفسيّة التي تنشأ من عوامل مختلفة؛ لأنّ بيئة تعيش التوتّر والضّغط النفسيّين، هي بيئة غير صحّية للتّفكير السليم والتحكّم بردود الفعل؛ فإذا عمّ ذلك المجتمع، كان سببًا من أسباب دماره وهلاكه.
حتّى إنّنا نستطيع أن نقول إنّ البيئة الفكريّة لا بدَّ من أن تكون ذات بنية تطوّريّة، تنتج من موقع الإبداع المستند إلى الأصالة، وتنقد من موقع الإخلاص للحقيقة الّتي هي الأرض الثابتة للحركة والتقدّم. وليس صحيحًا أنّ مشروع النهوض الّذي يولّده النّصرُ يتطلّب الجمود عند فكرٍ ما، أو عند طروحاتٍ معيّنة؛ لأنّ هذا يعني الجمود على أفكار مرحلة ونتاجها، في حين قد تطرح المراحل القادمة أسئلة كثيرًة تتطلّب فكرًا تدرّب على الإنتاج المبدع، والتفكير الحرّ، أن يجيب عنها، حتّى لا تبقى مساحة قلقٍ في الفكر، يشكّل تراكمها عنصر قلقٍ للذّات، قد يدفعها إلى الاستقالة من كلّ مواقع المقاومة والنّصر والنّهوض الحضاريّ للأمّة.
باختصار: إنّ النّصر عندما يتحقّق على أيدي المجاهدين، فإنّ تمتين بيئته الحاضنة تصبح مهمّة الأمّة كلّها؛ لأنّ الانتصارات هي بحجم الأمّة، ولذلك نقول إذا كانت حركة المقاومة تخصُّصيّة، بمعنى أنّ المتصدّي لها فصيلٌ من الأمّة، فإنّ مسؤوليّة المحافظة على النصر عينيّة لكلّ فردٍ أو جماعة أو فصيل أو مذهبٍ أو طائفةٍ في الأمّة؛ لأنّ المعنى المراد للحفاظ على النّصر هو تفعيل عناصر النّهوض في حركة المجتمعات على كلّ المستويات وفي جميع المجالات؛ والله من وراء القصد.
السيد جعفر فضل الله