سامي كليب :
أعلن الصباح منذ ساعاته الاولى اليوم أنه سيكون جميلا في باريس.تسللت أشعة الشمس من بين أغصان الاشجار الخضراء الشامخة امام غرفتي. تسللت بشقاوة المحب صوب غرفة نومي. تحت النافذة عازف ينشد أغاني فرنسية قديمة ويعزف على شيء يشبه صندوقا خشبيا قديما. يغني ويعزف عبر حركة دائرية لآلته كمن يطحن البن. كل شيء يوحي اذاً بأن شرب فنجان نيسكافيه في احد مقاهي الأرصفة افضل من البقاء في المنزل.
لا بد من ” ألآيباد” انيسة الآيام لتصفح الصحف. احتلت هذه العشيقة الالكترونية مكان الصحف وكثير من الكتب على طاولات المقاهي الفرنسية. الى اين نذهب هذا الصباح؟ كل الخيارات في باريس جميلة عادة، فكيف اذا كان الطقس يرسل منذ الساعات الاولى بشائر فرح؟.
“لماذا لا تذهب الى جسر الفنون يا سيدي ؟”. فكرة جميلة أطلقها بفرح نادل المقهى تحت بيتي . اطلقها وهو يضع فنجان النيساكافة على طاولتي وفاتورة الحساب تحت الفنجان. غريب كيف ان الشمس تغيّر ما في النفوس الباريسية. لو كان الطقس رماديا غائما لما فتح النادل فاهه سوى ليشكر الزبون بعد ان يدفع له. هذا اذا شكر .هه.
لنذهب اذا الى جسر الفنون. لا حاجة لسيارة تاكسي. منذ سنوات قليلة اخترعت بلدية باريس وسائل اجمل للتنزه. صار في كل منطقة مواقف للدراجات الهوائية. يستأجرها المواطن او الزائر ثم يركنها اينما وصل. هكذا ايضا بالنسبة للسيارات الكهربائية الصغيرة. رسمت البلدية خطوطا خاصا للدراجات. صارت قيادتها مممتعة وغير خطيرة ذلك ان خطوط سيرها تختلف عموما عن خطوط سير السيارات. صار المقيم في باريس قادرا على التنزه بالدراجة او بسيارة دون حاجة لاي اجراءات ادارية معقدة او لنرفزة زحمة السير.
اُدخل بطاقتي المصرفية في العلبة الالكترونية. أقرأ كل التعليمات وبينها مثلا ضرورة حماية الرأس. اتذكر كم ربيع عمر ينتحر في بلادنا على الدراجات النارية بسبب قلة التربية وفساد السلطات وعجزها. اسحب دراجة واتوجه صوب الطريق المحاذي لنهر السين. اسير بين النهر المستيقظ لتوه بعد صخب الليل وغناء سياح المراكب ، وبين الأشجار الخضراء الوارفة على حفافي النهر. كل من يسير حولي او بجواري او بالاتجاه المعاكس يبتسم. هي الشمس لا شك . النسيم الصباحي دافيء ومنعش. اشعر بأنه يستلل مباشرة الى رئتي كتسلل أشعة الشمس الى غرفتي. أشكر الله.
لا أدري لماذا صرت كلما شكرته اتذكر اؤلائك الذين يستخدمون اسمه للقتل والذبح في بلادنا. اقرر الا افكر ببلادنا في هذه اللحظة. اتوقف قليلا. اُنزل رجلا واحدة على الارض. اضع سماعة الهاتف على اُذني واستمع الى اغنية فيروز ” بكتب اسمك يا حبيبي”. لم اتعمد هذه الاغنية . والله جاءت بالصدفة. أردت فقط الاستماع الى صوت فيروز. صوتها كما هي لا يزالان صافيين في محيطنا العربي القاتم.
أسير لأقل من ربع ساعة فاجاور متحف ” اللوفر”. أتذكر بعض الاثار الاسلامية العريقة فيه. لو كانت في بلادنا لربما قتلتها الحروب او سرقها محتل او باعها سياسي فاسد او أمير حرب. هي بالأساس مسروقة يا رجل ولكن لا بأس هنا محمية. هه. افكر بوجه الموناليزا يبتسم للناظر اليه ان كان مبتسما ويحزن ان كان الناظر حزينا. وجهها يشبه صوت فيروز. لكني احب فيروز اكثر . حر .
منذ زمن طويل لم أصل الى جسر الفنون. زحمة السياح تزيده حياة وفرحا. تختلط هنا الوان البشر واعراقهم. يجمعهم حب السياحة والمعرفة . جسر يستلقي ملتويا فوق نهر السين. كل ما يحيط به تحفة . يكاد يوحي بنفسه وبما يجاوره بأنه لوحة فنية من لوحات اللوفر المجاور.
كل هذا جميل لكن الاجمل هو ما لا يخطر ببال أحد.
على طول الجسر عشرات الاف الاقفال الحديدية معلقة ومتكدسة فوق بعضها البعض . اقفال فوق وتحت وفي الوسط. اقفال في جهة اليمن والشمال. اقفال في اعلى الجسر وفي أسفله. كل قفل يختصر قصة حب او زواج او أمل . هنا ياتي العاشقان بقفل ، يكتبون عليه اسميهما او تاريخ حبهما او زواجهما ، يعلقان القفل على الجسر ويرميان مفتاحه في النهر . يعتقدان بأن القفل سيحمي حبهما الى الأبد.
لم تكن فرنسا المبادرة الى هذا التعبير الغرامي الجميل. لا أحد بالضبط يعرف من أين جاءت هذه الفكرة. ثمة من يعتقد انها المانية الاصل ، آخرون يقولون ان روسيا هي الاساس وان ثمة جسورا لا بل واشجارا في روسيا تحمل اقفالا كثيرة. الايطاليون يقولون ان روما مدينة العشق هي التي اسست للامر. الهنغاريون يؤكدون انهم اخترعوا القصة عام 1980 حين ربطوا كاتدرائية مسيحية بمسجد عبر سسلسلة وقفل بغية التقريب بين الدينين.
ليس مهما التاريخ. كل القصص جميلة. الأهم ان الناس يؤمنون بما يفعلون. بعضهم يريد ان يحمي حبه. البعض الآخر يكتب اسمه على القفل لينجح في امتحان. البعض الثالث لكي يستمر الزواج مدى العمر .
تعددت قصص الحب وكثرت الاقفال. انهار جزء من الشبكة الحديدية الحامية للجسر. تقدم بعض الناس بشكوى لوقف هذه الظاهرة التي تهدد الجسور. تمددت اقفال الحب الى جسور اخرى. اضطرت سلطات روما لفرض غرامة مالية بنحو 70 دولار لمن يضع اقفالا. في فرنسا لم يصل الامر الى هذا المستوى. لا تزال قصص الحب تُروى بالاقفال. باتت القصص عامل جذب سياحي بامتياز.
سِرتُ بين الاقفال نصف ساعة. قرأت بعض الاسماء والتواريخ على الاقفال. توقفت في منتصف الجسر. القيت جسدي قليلا فوق حافته. نظرت الى قعر المياه صوب الآف المفاتيح. نظرت صوب السماء الزرقاء فوق البيوت الرائعة. ركبت الدراجة وعبرت بين الشبان والشابات. كل الشابات تقريبا شبه عراة ترحيبا بالشمس . كأنما بين الأجساد والشمس قصص لا يعرفها الا هم . جلست في المقهى المجاور . قررت هذا اليوم ان لا أقرأ أي خبر عن بلادنا. فتشت فقط عن اغاني الحب عند السيدة فيروز. هنا جسور مهددة باقفال الحب. وعندنا دول تنهار باقفال العقول.
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …