غمست بنت جبيل ريشتها في دمها وباشرت كتابة الفصل الجديد من ديوان جبل عامل. رصفت “بيوتها” بيتاً بيتاً. وغادر “الشباب” قصائدهم ليكملوا الملحمة.
ليست بيوتاً من حجر هذه التي تتناثر متكاثفة من حول الساحة، ثم تتدرج وتتنافر لتتكامل مقدمة شيئاً من الشعر المنثور. كل ما في بنت جبيل يقرأ منغماً ومموسقاً كالآيات البيّنات.
القصائد مشطرة الآن. أفلتت منها الرموز وقصدت الى الدبابات المتسللة لتدمرها، فتكتب جديدها بعويل جنود العدو.
كيف يمكن احتلال الشعر؟ كيف يمكن إسكات المعنى المتدفق من الرمز الذي يختزل تاريخاً من الثورات والانتفاضات والمواجهات الممتدة جيلاً اثر جيل منذ أن استقرت عاملة في هذا الجبل ورابطت فيه لتحميه باصطناع البطولة التي تدرّ القصائد الجديدة؟
من أين ينبع هؤلاء الفتية الذين يسرون في الليل خفافاً فيفاجئون العدو الآتي لكي يفاجئهم، ويقتحمون في النهار قلب النار فإذا الدبابات تنحطم، وإذا الطائرات تضيع عن أهدافها، ولا تستطيع استنقاذ جنود اسرائيل الذين جاؤوا لمحاصرة المقاومة فإذا هم محاصرون يعجزون عن التقدم ويعجزون عن التراجع فيعولون ويطلبون الإسناد المدفعي والنجدات لكي ينسحبوا قبل أن يبادوا؟!
والفتية الذين هبطوا من القصيدة، أو صعدوا من قلب ديوان أرضهم يتقدمون الى الدبابات فيدمرونها، مواجهة، ويسمعون بكاء من فيها من جنود الجيش الذي لا يُهزم، فيكبرون، وينصرفون الى ما بعدها منتشين بلا زهو، عامري الصدور بالايمان بحقهم في أرضهم ولا فخار.
إنهم يقاتلون بتاريخ آبائهم وأجدادهم، الذين شرّفهم الناس بإطلاق اسمهم على جبلهم. ويقاتلون لكي يضيفوا إليه سطوراً فيفاخر بهم أبناؤهم والأحفاد. ليست هذه هي مواجهتهم الاولى لعدو حقهم في أرضهم وفي غدهم، ولن يكون الاخير. هو متفوق عليهم عدة وعتاداً، تماماً مثل الاعداء الذين جاؤوا غزاة قبله. ولكنهم ها هنا مرابطون.
لقد أعطى الناس اسمهم للجبل تيمناً بجهادهم في حماية هذه الأرض الممتدة من حرمون الى الشاطئ عند صور وما بعدها. لقد قاتلوا الصليبيين وسائر الغزاة، مع أهلهم جميعاً. وقاتلوا الولاة الظالمين. قاتلوا أحمد باشا الجزار. وقاتلوا الفرنسيين. على أن أعظم جهادهم كان ضد الفتنة ولقد انتصروا فكان ديواناً نبيلاً.
إن هذه الارض فوارة بالشعر. الشعراء هنا أكثر عدداً من الغارات. من شبعا في السفح الاعلى لحرمون، مروراً بكفرشوبا وكفرحمام والهبارية والقوزح، وصولاً الى الخيام ومرجعيون وكفركلا وعديسة والطيبة، والتفاتة الى ميس الجبل وإبل السقي وعين إبل ورميش، وعيترون ويارون وعيناتا ومارون الراس..
ما الشعر اذا لم تكن قصيدته ـ الفاتحة مارون الراس؟
من أرضهم، حيث ينبجس الشعر، يخرج هؤلاء الفتية “نوراً على نور”، فيشربون الشعر زلالاً ثم يدورون يروونه ويضيفون إليه، ثم يتبارون به. يرضعونه أطفالهم وهم يحدون لهم ليفيقوا وينتبهوا الى أن عدو حياتهم أمامهم وليس من خيار غير أن يقاتلوه لتكون لهم الحياة.
أرضهم التي غدت حدوداً مع فلسطين التي في القلب. من يستطيع أن ينتزع من صدورهم فلسطين وتبقى قلوبهم خافقة بحب الحياة؟ كيف تبقى لهم أرضهم، كيف تبقى لهم حياتهم والذين احتلوا فلسطين يواجهونهم بالمدافع والطائرات يحاولون إجبارهم على خفض رؤوسهم والرحيل واقتلاع أنفسهم من أرضهم بينما الدبابات تقصف على الشعر في صدورهم والذاكرة؟
تدمر الطائرات البيوت فتتشظى شطوراً لكنها لا تسقط. الشعر لا يموت. الشعر ينتصب واقفاً بالرجال الذين رضعوه مع الحليب فتصلّب عودهم واستعجلوا زمن الرجولة بالاستشهاد لتبقى الارض ديوانهم القاني.
تقصف الدبابات والصواريخ والمدفعية المباني ـ الرموز. تتهدم المباني وتتدافع الرموز مقاتلين فإذا الدبابات ركام، وإذا جنود “لواء جولاني” الذين كانوا يرعبون الجيوش العربية يتساقطون قتلى ويولول قادتهم مذعورين ويطالبون بسحبهم، ويتفرج عليهم العالم وهم يتراكضون مهزومين تحت غطاء كثيف من النيران الساترة الكاشفة للهزيمة.
***
في بنت جبيل، حيث يتدفق الدم شعراً لا وقت لان يتوقف المجاهدون ليسمعوا ما جرى في روما. لقد قرأوا الرسالة في زيارة الإنذار لوزيرة الخارجية الاميركية. وهم يعرفون أن الحرب التي فرضت عليهم، في بيوتهم، أميركية أساساً وأن اسرائيل تخوضها بالنيابة، وربما كارهة. هم يلمحون العلم الاميركي ونجمة اسرائيل واحدة من نجومه الكثيرة. هم تحققوا الآن بالدليل الحسي الملموس أن اسرائيل تقاتل حرباً تعرف أنها لن تنتصر فيها، برغم قوتها الهائلة. هم يقاتلون لبيوتهم، لأطفالهم، لحاضرهم، لمستقبلهم، واسرائيل تقاتل لغيرها. هذا جزء مهم من ديوان النصر.
أما ما حدث في عوكر فلم يهتم به كثيراً هؤلاء الذين ينسجون من حطام الدبابات قصائدهم الجديدة في بنت جبيل التي تعطينا الآن ـ مع جاراتها اللواتي سبقنها أو سيلحقن بها في غزل المقاومة شعراً ـ الملحمة الأبهى للنصر الاول في هذه الحرب المفتوحة على الانسان العربي في كل أرضه، والذي لا يمكن أن يحتكر المواطن اللبناني في الجنوب وسائر المناطق مجده لوحده ولكنه ينتظر أن يطل إخوانه لكي يكتمل الديوان.
—
كتبها طلال سلمان في السفير – ٢٧ تموز ٢٠٠٦